في ذكرى رحيله..صفحات مجهولة من حياة معروف الرصافي

في ذكرى رحيله..صفحات مجهولة من حياة معروف الرصافي

■ عبد القادر البراك/ صحفي راحل
الكثير من اجيالنا الطالعة لا يعرف ان الرصافي بالرغم من قصائده وموقفه ضد الاوضاع السياسية في العراق وضد الحكومات المتعاقبة كان صديقاً لعدد كبير من رجال الحكم وأصحاب القرار، وكان بعضهم يشاركه في بعض مباذله الخاصة، وان شخصيته الفذة في الترفع والآباء والاستعلاء والمجاهرة بالحقائق قد جعلته مرهوب الجانب مخطوب الود

وكان حتى في الفترات التاعسة من حياته في الاربعينات موصول العلاقة بعدد من الساسة الحاكمين الذين كان بوسعهم رفع المضايقات عنه لو لم يكونوا مغلوبين على أمرهم. ولديَّ الكثير من الحوادث التي تؤكد هذه الحقيقة!.
ان نشأة الرصافي وسط عائلة فقيرة، واضطراره في مستهل أيامه للعمل ببعض الوظائف الصغيرة لضمان عيش الكفاف وشعوره بأنه أجدر من غيره في ان يكون على أحسن مما هو عليه، ان كل ذلك ألهب شاعريته، وصقل مواهبه وضاعف من جده ودأبه على طلب العلم والأدب، والاستمرار في مقاومة الحكم الاستبدادي الحميدي ونشره لقصائده السياسية الشديدة في مقاومة الطغاة في المجلات العربية الكبرى التي كانت تصدر في مصر كانت ملفتة لنظر الحاكمين اليه، وقد كان امثاله من شعراء الشام ولبنان يتصورون ان (الرصافي) اسم مستعار لشاعر لا يحرؤ على ذكر أسمه الحقيقي،
لأن المعهود في امثال هؤلاء الشعراء أنهم كانوا ينشرون قصائدهم بتواقيع مستعارة كبشارة الخوري الذي كان يوقع بتوقيع (الأخطل الصغير) مخافة بطش الولاة العثمانيين في الولايات العربية، وقد كان الرصافي في طليعة مؤيدي الانقلاب العثماني ضد السلطان عبدالحميد ومؤيداً للاتحاديين الذين أطاحوا بحكمه وأعادوا العمل بالدستور المعطل، ويوم أستدعى الرصافي الى استانبول للعمل كمصحح في أحدى الجرائد، لم يكن يتصور أنه سينال ما نال من الحفاوة والتكريم وان تقدم له عضوية مجلس
(المبعوثان) على طبق من الفضة! فلقد توقف العمل في اصدار الجريدة التي استقدم لتصحيحها وشاءت المقادير ان يختاره أحد وجهاء العراق المقيمين في استانبول لتدريس اللغة العربية لـ (طلعت باشا) وزير الداخلية، ولقد أعجب الوزير الاتحادي بسعة اطلاع الرصافي على الآداب العربية والتركية فرشحه للنيابة عن لواء (العمارة) وأبرز من المواهب والمقدرة ما حمل المسؤولين بعد سنتين على اعادة تعيينه نائباً للواء (المنتفك) وبتكليفه بعدد من الوظائف كانت تدر عليه كثيراً من المال حتى أني لأذكر أنه قال لجلسائه ذات يوم ان اول مرة يقبض (مائة ليرة) كانت يوم كلف بتنظيم ما يسمى (خرج راه) أو (قائمة السفر) عن مجيئه من بغداد الى استانبول كعضو في مجلس المبعوثان مع أنه أنتخب في استانبول، وما كان مجيئه لها بسبب عضويته في هذا المجلس!.
وقد ساهم الرصافي في مجلس المبعوثان مع بعض زملائه الاعضاء العرب في المطالبة ببعض الحقوق القومية لابناء الاقطار العربية التي كانت مبتلاة بالحكم العثماني وألقى بعض القصائد القومية في بعض الجمعيات العربية الا ان جنوح بعض رجال القضية العربية الى الاستعانة بالدول الغربية للانتفاض على الدولة العثمانية حمله على الوقوف ضدهم أعنف ما يكون الوقوف، ويعزو الرصافي مواقفه هذه الى كونه لا يحبذ الاستعانة بالدول الغربية على الاطاحة بخلافة اسلامية دون ضمانات بان يكون مستقبل العرب بعد نجاح الثورة أحسن من وضعهم قبل نجاحها، ولكن زعماء الحركات القومية كانوا يرجعون مواقف الرصافي الى كونه كان يجد من (الاتحاديين) اسناداً وعطفاً لا يتوقع حصولهما من قيام حكم وطني قومي، والقول الفصل في هذا الخلاف متروك للمؤرخين المنصفين الذين يركنون الى الوقائع الصحيحة، ويستعينون بسبرهم للأحداث في الوصول الى الحقيقة.
لقد اثارت مواقف الرصافي هذه رجال الثورة العربية وفي مقدمتهم «الشريف فيصل» الذي زامل الرصافي في مجلس المبعوثان فحملوا عليه حملات شعواء وحفظوا له الضغينة، فلما سقطت الدولة العثمانية وألتف عدد كبير من رجال القضية العربية من عسكريين ومدنيين حول الملك فيصل توهم الرصافي ان الايام قد مسحت ما بينه وبينهم فقصد الشام ومع ان الملك صفح عن الكثير من امثال الرصافي الذين وقفوا موقف المناوئ من ثورة 9شعبان، الا انه لم يستطع ازالة غضب الملك فولى وجهه الى فلسطين للتدريس فيها!.
وبعد ان قوض المستعمرون الفرنسيون (عرش فيصل) في الشام واحتل البريطانيون العراق وبذلت الجهود لاقامة الحكم الوطني كلف (السيد طالب النقيب) أول وزير للداخلية في أول حكومة عراقية (حكمت سليمان) بان يستدعى الرصافي من (فلسطين) ليتولى تحرير جريدة تدعو الى (العراق للعراقيين) حيث كان يطمع (النقيب) بتولي عرش العراق، وقد قال لي حكمت سليمان انه رفض ان يستدعيه لانه لا يملك ان يضمن له العيش اذا فشل المشروع المطلوب منه الاضطلاع به،
فأستدعته الحكومة ببرقية، وعاد الى بغداد بباخرة أقلته هو و(السير برسي كوكس) والساسة الذين اشتركوا في مؤتمر القاهرة واقروا تنصيب الملك فيصل ملكاً على العراق (والاستاذ فهمي المدرس) الكاتب المعروف. وقبل ان تتم المفاوضات بين الرصافي والسيد طالب النقيب حول صدور الجريدة، صرف البريطانيون النظر عن هذا المشروع واعتقلوا السيد طالب النقيب فلجأ الرصافي الى صديقه (حكمت سليمان) معاتباً له على استدعائه للعراق حيث المستقبل المجهول، وبذل حكمت مساعيه لدى السلطة فوجد منها تقبلاً لتعيينه في وظيفة ذات راتب كبير في وزارة المعارف، وهو راتب كان كفيلاً بأن يضمن له أعلى مستويات العيش لولا «ازدواج شخصية الرصافي» هذا الازدواج الذي يقبل ان يحتفظ بشخصية الشاعر المعارض والموظف المتنفذ الذي تؤدي له السلطة المورد المالي المجزي، ومن الطبيعي انه لا يمكن الاستمرار في ذلك فضويقَ الرصافي فاستقال، واستعان بصديقه
(عبداللطيف المنديل) ليضمن له الهجرة الى (نجد) ملتجئاً الى (آل السعود) الا ان الملك فيصل أوعز الى متصرف البصرة (علي جودت الأيوبي) والى صديق الرصافي (خيري الهنداوي) بان يحولا دون هذه الهجرة، فعاد الرصافي الى بغداد ليكلفه صديقه وزميله في المبعوثان (عبدالمحسن السعدون) باصدار جريدة (الأمل) التي تقوم بالدعاية لانتخابات المجلس التأسيسي، وبالرغم من ان السعدون كان المسؤول عن انتقاء اعضاء هذا المجلس فانه لم يوفق الى ضم الرصافي اليه مع عظم ما بذله من جهود في الدعاية لهذه الانتخابات!.
وقد كشفت بعض الرسائل الخاصة للرصافي والتي نشرها الاستاذ عبدالحميد الرشودي في مجلة (المورد) الغراء عن رسالة بعث بها الرصافي الى (الشيخ يوسف السويدي) أحد الزعماء النافذين يومذاك يعاتبه على قيامه بمناهضة ترشيحه للانتخابات لنوال عضوية المجلس التأسيسي بسبب ارائه في تحرير المرأة مع ان اراءه لا يمكن ان تنهض سبباً لمقاومة انتخابه لعضوية مجلس تأسيسي!.
ومما أذكره من احاديث السيد حكمت سليمان انه يعجب من معابثة الزمان للرصافي، فأنه قبل العمل مع السيد طالب النقيب مع انه لا يميل اليه، وعمل مع عبدالمحسن السعدون وهو من أحب الناس اليه ولكنه لم يستطع ان يحقق مأمله في نوال عضوية المجلس التأسيسي. ولكن السعدون لم يقصر في مد الرصافي بكل ما بوسعه من المال لضمان العيش الكريم الرافه له الى ان استطاع اعادته الى وظيفته في وزارة المعارف، ولكن الرصافي لم يقبل ان يستمر في تقديم محاضراته القيمة في الأدب العربي على طلاب دار المعلمين العالية واستمر في نشر القصائد المناهضة للحكم فاستقال!.
ومنْ يتصفح ديوان الرصافي يجد انه يوجه قصائد المدح لاصدقائه (عبدالمحسن السعدون) و(عبداللطيف المنديل) و(فخري آل جميل) و(مظهر الشاوي) وليس هنالك قصائد مديح لمقامات سياسية عليا، وانه يجد فيها قصائد رثاء لاستاذه العلامة (محمود شكري الالوسي) و(عبد الوهاب النائب) و(الشيخ مهدي الخالصي) وغيرهم وقصائد في الترحيب بـ(أمين الريحاني) وبالرغم من كون هذه القصائد قد كرست للوفاء بعواطف الشاعر تجاه من قال قصائده فيهم فانها جميعاً لا تخلو من التعريض بالمقامات العليا، وكان حساد الرصافي يصورون للبلاط انه هو المقصود بهذه التعريضات!. ويقول الدكتور محمد مهدي البصير في سوانحه ان نشر الرصافي لقصيدته الموجهة الى عبدالمحسن السعدون يشكو فيها وضعه الاقتصادي قد تناقلتها معظم الصحف العربية فأثارت سخط المقامات العليا، وكان رد السعدون على هذه القصيدة ان أرسل له بكامل راتبه الذي لا يملك مورداً غيره وبكميات كبيرة من الملابس الجديدة التي تتكفل بأن تظهر الرصافي بالمظهر الذي يليق به كشاعر كبير!.
وقد حفظ الرصافي للسعدون هذه المواقف مقرونة بالحمد المستديم الذي تجسده أكثر من قصيدة نظمها في حياة السعدون وبعد وفاته.
ومع استمرار الرصافي في (سلبيته) التي عبر عنها بقوله في القصيدة المشهورة التي يقول في مطلعها:
أحب صراحتي قولاً وفعلا
واكره أن أميل الى الرياء
فأن (نوري السعيد) الذي كان حريصاً على مودة الرصافي بصفة كونهما من (القرغول) المحلة المشهورة في بغداد وللصلات التي تجمعهما بالمجمع البغدادي رشح الرصافي للنيابة عن لواء (العمارة) في الانتخابات التي أجراها لابرام معاهدة 30حزيران1930، وقد نجح في مسعاه،
ودخل الرصافي البرلمان ليقاوم المعاهدة بأعنف خطاب معزز بالأدلة المنطقية والعلمية وعارض عدداً من مشاريع الوزارة السعيدية، ويوم استقال اقطاب المعارضة للمعاهدة (ياسين الهاشمي) و(رشيد عالي الكيلاني) و(علي جودت الأيوبي) احتجاجاً على سياسة الوزارة هاجمهم الرصافي بخطاب شديد اللهجة، وقد سلك مثل هذا السلوك في تعليقه على استقالة (ناجي السويدي) أحد معارضي المعاهدة حيث قال الرصافي ان (السويدي استقال من المعارضة ولم يستقل من النيابة) ويبرر الرصافي هذا «التناقض» في مواقفه بأنه يعارض السياسة، ولا يعارض منتقدي هذه السياسة لأنهم يضطلعون بمهام أخرى لصالح الشعب... وهو بهذا يقنع نفسه بأنه يرد الجميل لأصدقائه!.ولقد أساءت القصيدة التي نظمها في تهنئة (نوري السعيد) بنوال وسام الرافدين الى سمعته السياسية فلم يكترث لذلك في ظاهر الحال. وأنا لا أصدق ذلك لأني كنت أجد الرصافي في أخر ايامه يضيق بالنقد، وبصورة خاصة فيما يتعلق بالسلوك العام!.
وكان مما كلفته هذه القصيدة من متاعب ان صديقه المرحوم (كامل الجادرجي) وكان يوم ذاك المدير المسؤول لجريدة (الشعب) الناطقة بلسان الحزب الذي يترأسه (ياسين الهاشمي) لما قدم الى المحكمة لنشره قصيدة اعتبرت ماسة بالذات الملكية سألت المحكمة (كاملاً) عما اذا كان يرضى بـ(الرصافي) حكماً فأجاب بالرفض وقال ان الرصافي محسوب على الحكومة وأنها ساعدته بالمال لطبع ديوانه ومن غير المعقول وهو منتفع من الحكومة أن يعطي حكماً ضدها!.
وكانت المساعدة التي قدمت للرصافي مبلغ 300 دينار لطبع ديوانه على أن تسترد منه لقاء نسخ من الديوان واستقطاع اقساط من مخصصاته النيابية، وبعد ان حرم الرصافي من عضوية المجلس النيابي، عجز عن اداء الاقساط المتبقية عليه وهي لا تزيد عن (العشرين ديناراً) اقترح الشيخ محمد رضا الشبيبي وكان وزيراً للمعارف في وزارة ياسين الهاشمي عام 1935 ان تشطب من خزينة الدولة باعتبارها من المبالغ غير القابلة للتحصيل! وكانت السلطة يومذاك قد شطبت ديوناً مترتبة بذمة عدد كبير من الأثرياء المحسوبين على السلطة بمثل الحجة التي أحتج بها الشبيبي لتشطب الدين المترتب بذمة الرصافي!.
وما يقال عن مواقف الرصافي السياسية السابقة يقال على ما تلاها فقد قابل الرصافي انقلاب بكر صدقي بتجهم وانفعال وبسوء الظن والحذر وبقصيدة أتهم الاستعمار بأنه كان وراء الانقلاب ورثى صديقه (جعفر العسكري) وزير الدفاع الذي قتل في ذلك الانقلاب بقصيدة من أحاسن شعره، ولكنه رحب بالانقلاب لما أسندت رئاسة الوزارة الى صديقه (حكمت سليمان) وكان من اعضائها بعض اصدقائه مثل (كامل الجادرجي) ودافع عن الوزارة في البرلمان في أكثر من موقف، وقد هاجم الوزراء الذين استقالوا من وزارة حكمت سليمان بقصد احراجه وكان منهم (كامل الجادرجي) بخطاب عنيف لا هدف من ورائه الا دعم حكم صديقه (حكمت سليمان).
على ان نقمة (نوري السعيد) قد تعاظمت ضده بعد تأييده لانقلاب بكر صدقي الذي أدى الى مصرع صهره (جعفر العسكري) والى هجرته الى مصر، فلم يخرجه نائباً في الانتخابات التي أجراها في الاربعينات، فكان من أثر ذلك ان اندفع الرصافي في المعارضة الشفهية للحكم حتى اذا ما اندلعت ثورة مايس الوطنية بقيادة السيد رشيد عالي الكيلاني أندفع بتأييدها مع سبق ما ذكرناه من أنه لا يميل الى السيد الكيلاني!.
وقد اعتز الكيلاني بهذا التأييد، فكان بالرغم من مشاغله في ادارة دفة الثورة يزور الرصافي في دار صديقه (السيد خيري الهنداوي) التي آوى إليها بعد ان هدم الانكليز دار سكناه في الفلوجة، ومن الغريب ان الكيلاني كان يزور دار السيد خيري الهنداوي مع علمه بأنه أساء اليه في احالته للتقاعد مع علمه لحاجة هذا الرجل الى مورده من وظيفته!.ومن الحق ان نذكر ان فترة اقامة (الرصافي) في دار صديقه (الهنداوي) كانت من أخصب فترات الانتاج للرصافي فقد هيأ له نجل صديقه الاستاذ مالك الهنداوي عضو محكمة تمييز العراق معظم الكتب التي كتب عليها هوامشه التي استخلصت منها (رسائل التعليقات) وهي التي تعتبر من أهم مؤلفات الرصافي.
وبعد فأن اللجوء الى آثار الرصافي لا يكفي لاعطاء الانطباع عنه، بل يجب الرجوع الى منْ عاصروه أو عرفوه، أو ألموا ببعض جوانب حياته فأن هذه المصادر هي التي تعطي الدراسات المجدية التي لا تغني عنها الدراسات المعتمدة على ما هو مدون في القراطيس.
وبعد فهذا بعض ما استوعبته الذاكرة من أحاديث عن الرصافي وهي (غيض من فيض) ورحم الله الرصافي فأنه رجل لا ينتهي الحديث عنه.

عن كتاب ( ذكريات ايام زمان )