جلال الحنفي.. وذكريات عن باب المعظم

جلال الحنفي.. وذكريات عن باب المعظم

ما مررت بمنطقة باب المعظم الا تذكرت بغداد عبر سنين طويلة يوم كان الداخل الى بغداد يمر بجامع الازبك عن جهة اليمين الذي كان يقع عند مدخل الشارع فانه سيرى على بابه شعرا قاله شاعر بغداد في الحقب الماضية صالح التميمي اذ قال من بعض ما قال:
اذا جئت للزوراء قف عند بابها -- تجد جامعا من غفلة الجهل مانعا

وكانت الى جوار هذا الجامع تكية للازبكية القادمين من اوزبكستان لهم فيها عرف ومأوى دائم وقد ازالوا هذه التكية بالمرة وشردوا ساكنيها وكنت اماما وخطيبا في جامع الازبك لمدة تنوف على العشر سنين وكانت اطيب ايام حياتي في هذا الجامع وقد اسست فيه جمعية الخدمات الدينية والاجتماعية وواصلت فيه اصدار مجلتي المسماة بمجلة الفتح..
ان هذا الجامع العظيم هدم تعسفا ليبيت جامعا صغيرا ليس فيه من المشتملات ما يجعله يلفت انظار الداخلين فيه او المارة من امامه ولم تنتفع الاوقاف من هدمه.. كما كان هناك باب اثري يرجع الى اواخر عهد العباسيين مررت منه يوم كنت صغيرا اذ اخذتنا ادارة مدرستي مع مدارس ابتدائية اخرى في اوائل العشرينات متجهين الى البلاط الملكي ليستقبلنا الملك فيصل الاول ويستعرضنا ايامئذ اذ لم تكن في بغداد اية مدرسة الا ما كان في بدء انشائه منها ولا اتذكر اكنت في الصف الاول ام كنت في الصف الثاني ولا شيء من الصفوف بعد ذلك غير صفنا الاول والثاني..وقابلنا الملك وكان واقفا في مدخل البلاط ونحن نمر من امامه الى داخله وعدنا بعد المقابلة من ذات الطريق..
ان هذه البوابة الفخمة التي تدل على عظمة بانيها بيعت بمبلغ بسيط تافه يقل عن عشرة دنانير على ما فهمناه مما اورده الباحث عبدالحميد عبادة في كتاب له..ولم يكن من الضروري ابدا هدم بوابة بغداد لامروريا ولا هندسيا اذ لم يكن القوم يعلمون ان الاثار القديمة هي مورد اقتصادي لاي بلد في هذا العصر..وكانت في مدخل بغداد حوانيت ودكاكين لعدد من الباعة وقد كانت على ما شاهدت عدة دكاكين تقع في المنطقة وقد لبثت امدا ثم هدمت فصارت بلقعا.. وقد بنيت في باب المعظم مكتبة عالية فخمة جدا كنا نتردد عليها للمطالعة ولكنها بعد حين هدمت خطأ وتعسفا بدعوى توسيع الطريق ولم يؤد هدمها الى توسيع يريدونه..
ولم يكن هناك جسر بل كانت هناك مشرعة يقال لها شريعة المجيدية وبناء الجسر هنا مفيد وضروري على ان لبناء هذا الجسر قصة شبه مروعة هي انهم عثروا هناك على اثار قديمة جدا الا ان الدولة يومذاك طمرت هذه الاثار بلا رحمة استرضاءا لرغبة الشركة اليابانية انذاك..
وكانت القلعة العسكرية تحف بها جدران عالية واسوار متينة مرتفعة وقد عدموها خلافا للقانون الذي يحمي الاثار القديمة ووضعوا مكانها سياجا حديديا واطئا لايزال موجودا وراحوا يمنعون السابلة من المرور قربها..
وكانت امام الرائي عند دخول بغداد مبان بعضها قديم كمثل التكية الطالبانية التي عاش فيها وكان رئيسها الشيخ عبدالله الطالباني وابناؤه رحمه الله احد ضباط الجيش العراقي وحسن الطالباني الذي استوزر في بعض الفترات وعلى الطالباني الذي تولى بعض المناصب الادارية..
ويرى الداخل بغداد عددا من المقاهي على الجانب الايمن من الشارع منها لاحمد كلك واسطة لطيف واخرين ثم يرى مدرسة ابتدائية هي مدرسة المأمونية وكنت من طلاب قسمها المسائي ويرى الرائي في الواجهة جامع الميدان الذي يسمى جامع الاحمدية وامامه مقهى البلدية وكانت مقهى كبيرة يجتمع وراءها باعة الحميس وباعة اخرون وكانت الى جوار جامع الاحمدية سوق خاصة بالشكرجية زالت فيما بعد..
وكان للقلعة باب تقع في جهة الميدان تقع عندها قهوة السيد بكر وكنا اعتدنا الجلوس على مقاعدها .. هذه المعالم ومعالم اخرى كعدد من المساجد والمطابع والحوانيت لاوجود لها اليوم..
وعلى الجانب الايسر من الشارع المسمى اليوم شارع الرشيد وكان يسمى عند اول افتتاحه عام 1918 بخليل باشا جاده سي اي شارع خليل باشا القائد العثماني..
وكانت على الجهة اليسرى قهوة الوقف والى جانب منها خان عمر وهو فندق كان الذين يراجعونه ليلا ينامون على الارض بلا فراش لقاء عشرة فلوس رأيت خلقا منهم هناك على هذه الحالة..والى جوار التكية الطالبانية وبالتحديد بينها وبين جامع المرادية توجد فنادق اهلية..
ان هذه الجهة كانت ذات كثافة في السكان كثيفة جدا وفي الميدان كانت تقع سينما العراق كانت اول الامر تعرض فيها الافلام صامتة وتكتب بعض تفاصيل الامر على الشاشة في ترجمة مستعجلة..
ولم تكن في بغداد اول امرها مطاعم وكان بعض النساء يجلسن في منتصف السوق وبين ايديهن قدورهن التي يبعن فيها الرز والامراق اذ يجلس الاكلة على الارض ليتناولوا طعامهم.. وكذلك كان يقع في نهاية باب المعظم وفي مقابلة جامع الازبك في مدخل محلة الطوب مسجد يسمى مسد عمر امامه السيد مصطفى ال قمر..
وفي جهة باب المعظم من نهر دجلة حتى باب الميدان امتدادا الى الشمال كان هناك خندق بغداد القديم وقد ادركته وهو اخدود عريض وعميق وفيه شيء من الماء مع قاذورات كانت تلقى فيه ثم طمروه وبنوا بهو امانة العاصمة وكانت تقام فيه حفلات الاستقبال الرسمية ومن ذلك حفلة استقبال ملك الافغان محمد ظاهر شاه وقد حضرناها ولايزال هذا الملك الافغاني حيا حتى اليوم وقد اقيم عليه انقلاب اقامه احد ذوي قرابته المدعو داود،وقد استقبلنا الملك الافغاني في مقر اقامته بقصر الزهور عند زيارته بغداد اذ كان ضيفا على الملك غازي وكنا اربعة من رؤساء الجمعيات الاسلامية في بغداد وهم يومذاك الشيخ امجد الزهاوي رئيس جمعية الاخوة الاسلامية والشيخ قاسم القيسي رئيس جمعية الهداية وكمال الدين الطائي معتمد جمعية الاداب الاسلامية اما انا فكنت رئيسا لجمعية الخدمات الدينية والاجتماعية في العراق وجرى بيننا وبين الملك حديث حول باكستان التي تم انشاؤها قريبا والبشتونستان الذين هم سكنة افغانستان وهو حديث طويل..
وفي عام 1935 عينت وكيلا لخطيب المرادية مقابل وزارة الدفاع ومن مومذاك الغيت التغني على المنابر يوم الجمعة في خطبة الجمعة وقد تعرضت بسبب ذلك لسخط عظيم وغضب شديد من جماعة من كانوا هناك من المصلين اذ كانوا يعتقدون ان التغني في خطبة الجمعة امر من ثوابت الشريعة وفي الجمعة التالية حضر الى بغداد من الموصل عالمها المعروف الشيخ بشير الصقال فنطت به خطبة تلك الجمعة وهو شيخ ذو عمة ولحية ظاهرة تكاد تغطي صدره فلما خطب لم يلجأ الى التغني وانما القى خطبته مرسلة دون غناء وعلمت الناس ان تصرفي في حذف الغناء عند الخطبة كان صحيحا..
وبنوا الى جوار جامع الازبك في باب المعظم قاعة كبيرة واسعة سموها قاعة الملك فيصل الثاني ثم سميت بقاعة الشعب.
وفي الوقت الحاضر اتخذوا من مستشفى المجانين ومن سجن بغداد المركزي اللذين كانا في باب المعظم ما يسمى اليوم بوزارة الصحة..
وقد وصل الماء عند فيضان نهر دجلة قبل الثلاثين الذي يسمى بالكسرة الى باب المعظم وشاهدت ذلك بعيني وانا صغير..

عن جريدة الاتحاد 1986