د.رفعت السعيد: تعلمت في السجن كتابة الرواية

د.رفعت السعيد: تعلمت في السجن كتابة الرواية

عيد عبد الحليم
يعد المفكر والسياسي المصري د. رفعت السعيد أحد رموز اليسار العربي، اشتهر السعيد بكتاباته الفكرية التقدمية، وكتبه التي ناقشت ورصدت الحركات السياسية في مصر، إضافة إلى دوره القيادي في حزب التجمع، حيث يشغل منصب «رئيس المجلس الاستشاري» له.

وهناك ملمح ثقافي لا يعرفه الكثيرون، وهو الملمح الأدبي في تجربة صاحب كتاب «مجرد ذكريات»، هذا الكتاب الذي يعد من أبرز كتب السيرة الذاتية التي صدرت خلال الثلاثين عاماً الماضية، وهي كتابة يصفها السعيد قائلاً: «تتحدد ملامح ما أنا مقدم عليه من كتابة، فهي لوحات غير متلاحقة، وهي تحمل أو تحتمل فقط رؤيتي أنا.. للواقعة، وعلى القارئ، إن وجد في ذلك ضرورياً، أن يبذل بعضاً من الجهد، إذا ما أراد التعرف إلى الكاتب، أن يعمل خياله حتى يضم الصور إلى بعضها بعضا، ويكمل من عنده ما يكمل الصورة، ولوحات السيراميك في يد الفنان أدوات تشكيل.. وهي كذلك في يد القارئ فبإمكانه أن يتعرف إليها قطعة قطعة أو ينثرها كلها أو بعضها ليعيد تشكيل رؤية للكاتب وتقويمه لما كتب.

يقول رفعت السعيد: عانيت في حياتي من ثلاثة أنواع من الكتابة، كتابة التاريخ، والكتابة السياسية، ومحاولات يتيمة لكتابة الرواية، ثم كانت كتابة السيرة معاناة أخرى، وعن ذلك يقول: «أنت مجبر على الحديث عن نفسك، وهو أكثر ما تباعدت عنه دوماً، ليس تمنعاً أو ترفعاً، لكن خوفاً من أن أنحاز أو أتحيز أو أتجاوز أو حتى أنسى حق الآخرين، وعندما كتبت المجلدات الخمسة لتاريخ الحركة الشيوعية المصرية «أربعة آلاف وخمسمئة صفحة» حاذرت وتعمدت ألّا يرد اسمي في أي منها، تعمدت الغياب غياباً أخل بالصورة أحياناً، وتعمدت تناسي أشخاص لعبوا أدواراً مهمة، وذنبهم أنهم شاركوني أو زاملوني في هذا الفعل.
يوضح: «كنت أكتب منحازاً فقط ضد نفسي، ومتجاهلاً إياها، ومحاذراً من أن أصبح مثل هؤلاء الذين كتبوا ما أسموه تاريخ الحركة الشيوعية، فجاء الأمر تأريخاً لأنفسهم، وجعلوا من ذواتهم فرساناً لكل حدث، ولكل حديث».
ما يشير إليه د. رفعت السعيد هو الدور المنوط بالمؤرخ، حيث المصداقية في نقل الأحداث والوقائع، لكن الأمر يختلف في الكتابة الإبداعية التي أنجز فيها أربعة أعمال هي «السكن في الأدوار العليا» و«البصقة"و«رمال"و«مع حكايات الحكايات»، وكل عمل من هذه الأعمال يحمل حكايته الخاصة، وكل حكاية مملوءة بالتفاصيل والأحداث.
عن روايته الأولى: «السكن في الأدوار العليا»، يقول: «إذا كان البعض قد فوجئ بصدور هذه الرواية، فقد كنت أنا أولهم، فلم يخطر ببالي أبداً أن أفعلها، فقد تصورت أنه يكفيني أنني عانيت نوعين من الكتابة، كتابة التاريخ، وهي تعتمد على ملاحقة الحقيقة حتى إذا اكتفيت وضعتها أمام عقلي وبصري، لأكتب محاولاً دون جدوى أن أكون محايداً، فالحياد في كتابة التاريخ يستحيل سراباً، وأقصى ما تستطيعه الكتابة التاريخية ألّا تكون منحازة، لكن الحقائق التاريخية تفرض على المؤرخ أو كاتب التأريخ حصاراً لا فكاك منه، إن أراد لكتابته أن تكون عملية أو أكاديمية.
أمّا الكتابة السياسية فهي المعاناة الأخرى، وإذا كانت كتابتك في التاريخ تعتصر كل ما لديك من معلومات وتفرض عليك أن تضعها في اصطفاف مقروء ومقبول، فإن الكتابة في السياسة تحرمك من نصف الحقيقة، الأحداث تصنع كتابتها، هذا ينطبق تماماً على رواية «السكن في الأدوار العليا» التي كتبت في فترة أحداث يناير/كانون الثاني 1977، حيث تم اعتقالي ضمن حملة استهدفت قادة المعارضة وبعض المثقفين.
ولدت فكرة الرواية في السجن، وعلى حد تعبيره: «فجأة مرق سهم مضيء جعلني أتساءل لماذا لا أكتب شيئا؟ وقررت أن أكتب رواية أو بالدقة حكاية. وراودتني مجموعة من الأسئلة أين أكتب؟ وكيف؟"وكان الرد جنونياً، أسجلها شفوياً.. أختزن الوقائع والحكايات وأصوغها وأعيد صياغتها وأرتبها وأعيد ترتيبها، لكن الأمر تحول إلى حالة تشبه الإدمان، أن أكمل الرواية، أتقنها، أعيد صياغتها حرفاً حرفاً، مرات عديدة، الساعات لم تعد تكفي، وإعادة الصياغة أرهقتني، وأخيراً اكتملت الرواية وراجعتها في ذاكرتي عشرات المرات، فصلاً فصلاً وسطراً سطراً في كل يوم أراجعها وأعدلها، ثم كان قرار الإفراج، إلى البيت عدت وبعد السلامات والتحيات وقبلات الأم والزوجة والأولاد والأخوات، بدأ هذا المولود الكامن في عمق الذاكرة يتمرد، أنا لم أستطع المقاومة، وجلست وشربت كوباً كبيراً من القهوة أغلقت غرفة المكتب وأطلقت كلمات الذاكرة، كما كانت صياغتها الأخيرة، وفي ست ساعات كانت الرواية مخطوطاً مكتملاً<<.
يضيف د. السعيد: تأملتها، قررت أن أمزقها، مالي أنا وكتابة الرواية؟، هل أستثير ضحك الناس عليّ بهذه الكتابة؟، لكنني خشيت إن أنا مزقتها أن تعاودني حالة الولادة من جديد، المهم كان يزورني صديق عزيز هو المرحوم عبد الله حوراني، عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية «مسؤول الثقافة»، وفي مظروف مغلق كانت الرواية وسلمتها له راجياً وملحاً ألّا يفتحها حتى أطلب منه ذلك، وسافر الرجل إلى بيروت حيث يقيم، أسبوعين فقط وصلني مظروف مع قادم من بيروت وكانت الرواية مطبوعة.
فرحت لا أنكر ذلك، وعندما عاتبته ضحك، وقال: وأنا في الطائرة تأملت المظروف، وسألت هل هذه كلها وصية؟ وفتحت المظروف وقرأتها وأعجبتني وسلمت المخطوط للمبدعة غادة السمان، هي وزوجها بشير الداعوق، صديقين عزيزين لي ولعبد الله حوراني، قالت غادة: ننشر فوراً.
يشير د. رفعت السعيد إلى محاولة المنتج السينمائي»حسين القلا«تحويل الرواية إلى فيلم سينمائي من إخراج حسين كمال، لكن التجربة لم تتم لأسباب فنية وإنتاجية. يقول: مضى وقت طويل حتى التقيت مصادفة حسين القلا وسألته فقال معتذراً «أنا كنت ناوي أعمل سلسلة أفلام وعرفت إن صلاح أبو سيف ناوي يتفق مع عدد من الكتاب أنت منهم فتعاقدت معكم حتى لا يسبقني وأنا الآن متردد.. وتذكرت أن صلاح أبو سيف كان في اجتماع للفنانين خلال مهرجان نظمه في التجمع عنوانه «مهرجان السينما الممنوعة"وأنه انتحى بي طالبا التعاقد حول الرواية واعتذرت لسبق تعاقدي مع القلا فضحك قائلاً: هو بيحاصرني».
يرى د. رفعت السعيد أن الكتابة كانت بديلاً عن الألم والقسوة، وظلام السجن، والمعتقل السياسي، وعن ذلك يقول: «كنا في زمن السادات شديد التوتر بعد الانتفاضة التي أسماها انتفاضة الحرامية، وكان التصور السائد عند الرئيس أنني من دبر مظاهرات 1977 أو هكذا أراد أن يجرى تصوير الأمر.. ووصل الأمر أن جريدة الجمهورية صدرت بمانشيت أحمر رئيسي هو اكتشاف مدبر انتفاضة الحرامية.. القبض على رفعت السعيد».
حدث ذلك وأنا حر طليق، ولكن المساء أتى ومعه القبض عليّ، ومع كامب ديفيد ومعارضة حزب التجمع منفرداً لزيارة القدس ساد تعاطف شديد في الأوساط العربية المعارضة للزيارة وما تلاها من نتائج مع الوحيدين في مصر الذين امتلكوا شجاعة المواجهة.. وهم قادة حزب التجمع ونالني بعض من تعاطف الكثيرين وكانت حملة ترويج لرواية «السكن في الأدوار العليا» أحد مظاهر هذا التعاطف الذي أقر وأعترف أنه كان مبالغاً فيه لأسباب سياسية، ووصل الأمر أن أصدر رئيس اتحاد الكتاب الفلسطيني وقتها «يحيى يخلف» كتاباً بضعف حجم الرواية يناقشها ويحللها وبالدقة يأخذها مأخذ الجد، ويعاملها على أنها عمل فني يقول إنه ممتاز ويحلل شخوصه بما لم يخطر على بالي.
يحكي د. السعيد عن الأجواء التي رافقت كتابة روايته الأولى، حيث الصمت الذي يلف السجن فالصحف ممنوعة، والكتب ممنوعة. ومن قلب هذه العتمة كانت الكتابة هي الخلاص يقول: «أقمت صداقة مع النمل، فتات صغيرة جداً من لباب الخبز يستدرجه وأتابعه وأكاد أتعرف إلى أفراده، كنت مستلقياً على السرير وفجأة قررت أن أهزم السجن والسجان.
اكتشفت فيما كنت ممدداً على السرير النقوش على الحوائط، السجناء كل منهم ترك نقوشاً.. إنهم أحفاد الفراعنة يسجلون وجودهم نقشاً. الملعقة هي الأداة الوحيدة المسموح بها ولا يمكن منعها، وبها نقش الجميع ما يثبت مرورهم.. ومن هذه النقوش «كل هم يزول» شكري مصطفى و«هذه وصيتي أرجو من يراها يبلغها لأهلي»، عمال السكة الحديد رمز النضال العمالي والإضراب حق مشروع»، «أحمد فؤاد نجم «ولا يهمك» شهرت العالم «إذا كنت أنا قد احتملت فلابد أنك ستحتمل».
أما الرواية الثانية «البصقة"فقد كتبت أيضاً في سجن القلعة يقول د. رفعت السعيد: «في ذات الزنزانة، كل شيء كما كان قبل عامين أو أقل قليلاً، التغيير الوحيد أن اللمبة الضخمة المعلقة قرب السقف اختفت وحل محلها ضيف ثقيل الظل، ففي سقف الزنزانة فتحة مغطاة بقضبان حديدية وعسكري مسكين مكلف بأن يظل منحنيا ليرى ماذا أفعل.. ولكن ماذا يمكن أن أفعل؟ أجاب أحد الضباط «أهي غلاسة والسلام، أمال يعني عايزنا نسيبك كده؟» أما أنا فقد اكتشفت مساحة صغيرة في أحد الأركان لا يراها العسكري المسكين فبدأ يصرخ: أنت فين يا مسجون، ولم أجبه فصرخ بأعلى صوته «انتباه"وأقلق صراخه المأمور ومن حوله.. ثم اكتشفوا الحيلة.. وكانت لعبة مسلية.. يوم أو يومان فتحت دفاتر ذاكرتي وأمسكت بقلم إرادتي بهزيمة السجن والسجان وبدأت الكتابة مرة أخرى في ذاكرتي، رواية حاولت أن أنسج منها خيطاً ينتقم من حماقة الملفقين.
لم أكن متعجلاً هذه المرة لكتابة ما تحفظت عليه في ذاكرتي، ولعلي نجحت في أن أتناسى دفتر الذاكرة لعدة أشهر، وفجأة فعلت ذات الشيء، كوب القهوة، المكتب المغلق، ثم خمس أو ست ساعات كتابة. ثم حملت الرواية بنفسي إلى رفاق الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في دار ابن خلدون ببيروت.
أما رواية «رمال"فكتبت خارج الزنزانة، حيث تحولت من مقال صحفي كان د. السعيد ينوي كتابته إلى رواية بأحداثها وشخصياتها المتعددة، حول التحولات السياسية والاجتماعية والعاصفة، والتلونات السياسية بغرض البحث عن مكاسب شخصية، يقول: كانت «رمال"فيها كالمعتاد رحيق من ذاكرة قديمة عشتها في المنصورة، ورغم ذلك المثلث من الروايات أقرر وبصدق أنني لا أعتبر هذا النوع من الكتابة بالنسبة لي احترافاً ولا حتى هواية لكنها في أفضل الأحوال غواية.
وتمتلئ أعمال السعيد بصيغ شعرية لافتة رغم واقعية الأحداث من هذه العبارات الموحية قوله تحت عنوان «المساء الأخير»: «عندما ترفع الغطاء عن ذكرياتك، فإنك دون أن تدري تحفر لها المجرى الذي تنساب نحوه، بل وتنتقي لها ذلك النوع من الذكريات الذي تختاره، إنها الذاكرة المشاكسة التي تستحضر الماضي لتناقشه وتحاوره للوصول إلى صيغة جمالية، من خلال أحداث تحركها شخصيات هامشية لها تاريخها الخاص الذي لا يهم أحد سواها، شخصيات مملوءة بالوجع والحلم، وتطمح أيضاً إلى تحقيق الآمال المؤجلة».
هكذا تدور أعمال الكاتب السياسي الأدبية في عالم المهمشين والبسطاء. وفي منطقة المواجهة أيضاً، لأنه يعتبر الكتابة فعل مواجهة من الدرجة الأولى، وهناك مشروع آخر مواز للتجارب الإبداعية، وهي مشروعه كمؤرخ، وهكذا تتعدد جوانب ومجالات الدراسات التاريخية لرفعت السعيد، لكنها ترتبط بالهم الوطني والواقع المعاش.

عن الحوار المتمدن