في ألبومات آل الجادرجي

في ألبومات آل الجادرجي

محسن أ. يمّين
بإيداعه 90 ألف صورة من أرشيفه في "المؤسسة العربية للصورة" في بيروت، يكون المهندس المعماري العراقي رفعة كامل الجادرجي قد زاد مجموعة هذه المؤسسة، الناشطة منذ 1998، غنىً على غنى، وساهم في رفد محتوياتها بمخزون فوتوغرافي واسع كانت تفتقر إليه، حتى الآن، عن العراق. وتكون المؤسسة المذكورة، من ناحيتها،

قد حقّقت خطوة إضافية على طريق جمعها للتراث الفوتوغرافي العربي المصوّر، وحفظه إلكترونّياً، في جهاز المعلوماتية خاصتها، وأصليّاً، في غرفة معزولة ومكيّفة بأفضل ما تقتضيه قواعد الحفظ، وترميم ما يتوّجب ترميمه.
ومن الطبيعي أن يستغرق مثل هذا العمل المضني مدّة طويلة نظراً لحجم المجموعة الجديدة المنضمّة إلى رحاب المجموعة العربية الأوسع نطاقاً، قبل أن يتّجه انتباه المؤسسة، في وقت لاحق، إلى عرض بعض ما في هذه المجموعة، أو نشرها، بالتوافق مع مالكها.
فإلى أن يحين ذلك الأوان لا بدّ من التنويه بأهمية هذه الهدّية الثمينة التي تلقّتها المؤسسة بفضل بعض الأصدقاء المشتركين، وتتضّمن صوراً بعدسات كامل الجادرجي (1897-1968)، وصوراً، أوفر عدداً، مأخوذة على مرّ السنين، من قبل نجله رفعة (من مواليد 1926).
شغف الأب كامل الذي أوقد شرارة الاهتمام بالتصوير في الدار، ومن ثمّ، شغف الابن رفعة الذي ما أن شبّ حتى وجد بذرة الاهتمام بالتصوير قد زُرعت في وجدانه. وتدفعه، فيما بعد، للقيام بمسح فوتوغرافي للعمارة والتطوّر الاجتماعي في العراق، وبعض البلدان العربية الأخرى.
وينقل رفعة عن والده أنه لم يكن يترك عيداً يمرّ، أو مناسبة مشابهة، دون التقاط الصور لعائلته بكاميراته الخاصة، وتنظيم تلك الصور بحيث يكتب المناسبة، ويسجّل التاريخ، قبل أن توضع في ألبومات خاصة منسّقة. وقد استمر على هذا المنوال من العشرينات حتى منتصف الأربعينات من القرن الماضي. ولم يكن يتردّد في تصويب عدسته إلى الخيل في السباق، أو إلى الظواهر المهدّدة بالانقراض، أو إلى قلعة حلب، وبائعي الطيور في سوق الغزل في بغداد، أو حتى إلى الشاعر العراقي معروف الرصافي.
وكان من البديهي أن تُدرك الابن رفعة، عدوى التصوير. وهو يروي أنه تلقّى أوّل آلة تصوير من أبيه في عمر مبكر يفوته الآن تذّكره على وجه الدّقة. وأوّل تدريبات على استعمالها، وكيفية وضع الفيلم في داخلها. ليدّشن، من ثمّ، اهتمامه بالتصوير في الرستمية، ويقوم بتأمين الأفلام من مخزن "حسَو أخوان"، في بغداد. وذلك قبل أن يشتري له والده، أواخر سنة 1936، آلة تصوير جديدة أكثر تعقيداً، من نوع "كوداك" الصغيرة بوكس. ويتبعها بثالثة أغلى ثمناً من نوع "كونتافلكس".
وسيأخذ الابن عن أبيه، في العقود الأربعة التالية، مهمّة تسجيل وقائع الحياة اليومية في العراق، بالصورة، فضلاً عن تصويره للعمارة، شغله الشاغل، لتمتدّ تغطيتهما كلاهما إلى ما يناهز السبعين عاماً، الأمر الذي يشكّل ظاهرة في تاريخ هواية التصوير في العالم العربي. إذ يندر أن نجد، كآل الجادرجي، بيتاً مارس هذه الهواية وقام بتغطية هذا الاتساع الزمني، محافظاً على محصّلته التصويريّة، إرثاً للمهتمين والدارسين.
صور كامل ورفعة تتكاملان في استعادة المراحل السابقة عمارة، حياة، ووجوهاً. ولا تغفلان الأسرة في حركاتها وسكناتها بحسب ما ترشح به صفحات مؤلفات رفعة.
وكامل لا بدّ أن يكون الآن في غاية الغبطة، وهو في عليائه، لمرأى كل هذا الكمّ من الصور قد حفظ، وهو الذي كان يحسب أن ابنه رفعة لا مبال، أو قليل الاكتراث بها. وقد نقل نجله عنه، أنه عندما شعر بدنّو أجله توّجه ذات يوم إلى بلقيس محمد شرارة، زوجته اللبنانية، وزميلته، بالقول: "سأعطيك ألبوم صور عملته لطفولة رفعة. رفعة مهمل، وغير قادر على الاحتفاظ به. أريد منك أن تحتفظي به".
إلاّ أن الأعوام التي مرّت منذ 1968، تاريخ وفاة كامل، أثبتت أن ظنّه لم يكن في محلّه. وبعض الظنّ إثم. لا بل أنها أثبتت ما يعاكس ذلك، تمام المعاكسة. فرفعة احتفظ، وصان، وأرشف، ورقّم، مستعيناً بالفرنسية سيسليا بيري. وها هو الآن يضاعف من حظوظ صور آل الجادرجي في البقاء مع سلوك الصور طريقها إلى المسح الضوئي، والتخزين الالكتروني، والتنّعم بغرفة مخصّصة، مضبوطة الحرارة على مدار العام. ومجموعة كهذه تستحق مثل هذا العناء.

سيرة:
كامل الجادرجي هو زعيم عراقي سابق. كان نائباً وعضواً في اللجنة المركزية لحزب "الإخاء الوطني" الذي تولّى إدارة صحافته، وعنصراً فاعلاً في جماعة الأهالي التي كانت بوّابته إلى العمل التقدّمي الذي احتلّ موقعاً قيادياً في حركته.
أمّا رفعة كامل الجادرجي فيعتبر من ألمع وأشهر مهندسي العمارة في العالمين العربي والإسلامي. وقد اكتسب شهرة عالمية واسعة النطاق من خلال انجازاته الهندسية والأكاديمية في حقل الهندسة المعمارية. وهو حائز على جائزة "آغاخان" للهندسة الإسلامية، وعضو شرف في المؤسسة الملكية البريطانية للمهندسين المعماريين RIBA والمؤسسة الأميركية لمهندسي المعمار AIA. صدرت له مؤلفات عدّة معظمها تناول الفن المعماري، من بينها كتابه "صورة أب" (الحياة اليومية في دار السياسي كامل الجادرجي، مؤسسة الأبحاث العربية، بيروت، 1985) الذي يعتبر مرجعاً لا يُستغنى عنه لمعرفة كل ما نريد معرفته عن شغف الرجلين بالتصوير الفوتوغرافي.