الشهيد عدنان البراك، فتى الصحافة الشيوعية الجميل .. النبيل

الشهيد عدنان البراك، فتى الصحافة الشيوعية الجميل .. النبيل

ابراهيم الحريري
لا ازعم ان هذه السطور تحيط بكل اوجه شخصية الشهيد، الغنية، المتعددة. فتجربتي في العمل معه لم تتعد العامين او الثلاثة. ولا انوي ان اكتب دراسة عنه،مع انه يستحق ذلك، وقد انبرى غيري لها، فهو امر فوق طاقتي، انما هي اي هذه السطور ليست سوى خواطر وذكريات، ساجتهد على ان تكون دقيقة، امينة، قدر ما تسعفني الذاكرة، بعد 56 عاما من اول لقاء لي به،

صيف عام 1959، بعد اشهر قليلة من التحاقي ب " اتحاد الشعب "، ملخصا للعرائض، ثم محررا عماليا، ثم مسؤولا للصفحة العمالية وعضوا في هيئة تحريرها حتى اغلاقها من قبل الحاكم العسكري العام سيدفع الطرفان، الحزب الشيوعي وعبد الكريم قاسم، فيما بعد، ثمنا باهظا، دمويا، لهذا الصراع. لكن ليست هذه السطور مجالا للخوض في هذا الصراع الأليم، فقد كتبت ُ، وكتب غيري، الكثير عن هذا الموضوع، وسيظل مفتوحا للبحث والنقاش، حتى امد طويل.
لن اعتمد في هذه السطور اسلوب التوثيق والتسلسل الزمني، فأنا قاصر عن امتلاك ناصية هذا الأسلوب، فضلا عن ميل لا استطيع مقاومته لأعتماد اسلوب القص. لقد حاولت ان اقدم عدنان البراك كما عرفته، صحفيا، شيوعيا وانسانا من خلال نشاطه السياسي والصحفي، وعلاقاته بالآخرين، وانا من بينهم، تأثره بهم وتأثيرهم فيه، في زمن محدد. وقد تكون فاتتني، بعد هذا الزمن الطويل. الدقة في تذكر التواريخ، وانا على ما انا عليه من بعد عن المصادر، فلعل من هو اصحى وعيا مني واقرب الى المصادر يصحح، مشكورا، لي . فليعذرني رفاقي في " طريق الشعب "،وليعذرني القارئ.
: - خزعل السعدي! عبد الخالق البياتي! حسين الهورماني! ابراهيم الحكاك! فيصل الحجاج!،,,"
كان الحارس القومي، حازم ناجي، يقرأ من قائمة طويلة في يده، تضمنت عشرات الأسماء، من الغرفة التي تكدسنا فيها، في الطابق الثاني من قصر النهاية، فيما كانت اسماء اخرى تتردد في اروقة ودهاليز وسراديب قصر النهاية: علي الوتار، ابراهيم ادهم وآخرون...
عدنان البراك: جأر الصوت الكريه. نهض عدنان هادئ الخطو، تكسو وجهه مسحة من الحزن تخللته طوال وجوده بيننا, رجل في اواسط العقد الرابع، ناحل على امتلاء (كان قد بدأ يمتلئ منذ تزوج). غيبتهم بوابة الغرفة، الواحد بعد الآخر..ثم لم نعد نراهم ابدا.
كان قد مضى على وجود عدنان في قصر النهاية اسبوعان او ثلاثة، دفعته يد خشنة، غليظة، الى صالة فسيحة في الطابق الثاني تكدس فيها العشرات، كنت من بينهم. صدف ان جاء مجلسه قبالتي تماما. جاست عيناه بين الجالسين والمتمددين. كان بينهم العشرات من الأسماء المعروفة، تطلع الي بعينين متسائلتين، وعندما اطرقت فهم، لم ينبس. لم اره فيما بعد يتحدث مع احد. ظلت شفتاه مزمومتين، مطبقتين، كانه كان يدرك اي مصير ينتظره، حتى غيبته البوابة...
لعل عدنان وابراهيم الحكاك ورفاقهما الآخرين، كانوا يخطون خطواتهم الأخيرة بينما كنت اتذكر اول لقاء لي ببعضهم ومن بينهم عدنان.
كان ذلك اوائل صيف عام 959. كان قد مضى على التحاقي بالجريدة (التي كان مقرها في شارع الكفاح، في عكَد الكرد مطلع 959) سوى بضعة اشهر. في ذلك الوقت، اي وقت التحاقي بالجريدة لم يكن عدنان ضمن طاقم التحرير، كان لا يزال يعمل في الاذاعة العراقية، عندما كان الراحل سليم الفخري مديرا لها، كاتبا للتعليق اليومي. كان عزيز الحاج رئيسا او سكرتيرا لتحرير " اتحاد الشعب " 0
عندما انتقلت الجريدة وانتقلتُ معها الى شارع الشيخ عمر. التقيت عدنان سكرتيرا للتحرير ورحيم شريف رئيسا للتحرير، يطل علينا، في الأوقات الحرجة، رفاق من قيادة الحزب، ابو العيس، عامر عبد الله، بهاء الدين نوري وسلام عادل 0 بالطبع كانت الجريدة قد دخلت مرحلة جديدة، يسودها التنظيم وتقسيم العمل، وبناء الأقسام صفا (سافا) اثر صف، اشك في ان اي صحيفة اخرى كانت قد حققت، في ذلك الوقت، مثل هذه النقلة النوعية في مثل هذا الوقت القصير من الزمن، بل حتى وقت متأخر.
لم يكن لدي شك، ومن مراقبتي لسير العمل، ان الشهيدين رحيم وعدنان، كانا وراء تحقيق هذا الأنجاز الباهر، بل اني اكاد اذهب الى القول، ان عدنان اختص بالبناء - بمعونة الجهاز الحزبي بالطبع - وتقسيم العمل، ومراقبة تنفيذ البرامج التي كانت تقر في اجتماعات هيئة التحرير، فيما اختص رحيم شريف بمتابعة تنفيذ سياسة الحزب ومراجعة المواد المهمة. وقد بات هذا تقليدا متبعا في صحافة الحزب منذ ذلك الوقت.
لعل في توصيفي لتقسيم العمل بين عدنان ورحيم بعض التعسف. الا انهما كانا، من دون شك، ثنائيا رائعا، معلِّما، كان له الفضل الأكبر في تحويل الجريدة الى الصحيفة الأولى. استطاعا ان يقودا ويطوّرا فريقا منسجما، مبدعا، من المحررين والمصممين والخطاطين الفنانين .
تحولت قاعة هيئة التحرير. وكانت في الوقت ذاته مكتبا للرفيق عدنان والغرفة الملحقة بها، وكانت مكتبا للرفيق رحيم شريف، تحولتا الى مقر لقيادة الأركان، اكاد اقول بالمعنى الحرفي للكلمة.
لا انكر ان علاقتي بعدنان شابها، في البداية. احيانا، بعض الرهبة والتوتر. كانت ترهبني (لم اجد تعبيرا آخر، فمعذرة)، انا المحرر المبتدئ، صرامته، لعل ذلك يعود الى ارهاقه بالواجبات والمهام الحزبية والصحفية. انتبه، ذات مرة، انه كان خشنا معي، لكنه سرعان ما عاد يعتذر. بينما كان رحيم يبدي مرونة اكبر وجهدا صبورا في تعليم وتربية الكوادر الناشئة، مثلي.
الا اننا، جميعا، لا حظنا، فيما بعد، ان عدنان اصبح اكثر مرونة، اكثر تبسيطا . ولا عجب، كان قد تزوج...
و مع ان علاقتي بعدنان باتت اكثر حميمية. الا ان ذلك لم يمنعه من تفحص ما اكتب تفحصا دقيقا، ليس من قبيل الأعجاب، بل ربما، بالأساس، لاكتشاف ما يمكن ان اكون دسسته من" ألغام " اشتهرت بها، وتّرت واحدة منها الزعيم. (لعلي سأكتب عن ذلك يوما...متى ؟ لا ادري) وما ان كان عدنان يكتشف " لغما " حتى ينفجر ضاحكا ويهتف، فرحا باكتشافه : " دساس "!
مرة، وكانت ستحل في اليوم التالي الذكرى الرابعة عشرة لتأسيس الاتحاد العالمي للنقابات، قصدني عدنان طالبا مني كتابة مادة حول الموضوع. لم اكن قد كتبت، حتى ذلك الوقت، مقالة في الجريدة، كنت، بالمعنى الحرفي للكلمة، اتهيب من ذلك. كان عملي يقتصر على تحرير المواد العمالية التي كانت ترد الى الجريدة (عرائض، شكاوى، بيانات الخ...). اعتذرت، لكنه اصر. لم يكن ثمة بد. من يستطيع ان يرفض ؟ كتبت مقالة بعنوان " اربعة عشر عاما مجيدة ". سلمته الى عدنان وهرولت خارجا.
"هالني ان اجد، في اليوم التالي، المقالة منشورة في صدر الصفحة العمالية للجريدة، "حياة العمال "، بقضّها وقضيضها! من دون حذف كلمة واحدة.
من يومها، انفتحت شهيتي على الكتابة، ولا ازال..
من غرفته التي كانت غرفة اجتماعات هيئة التحرير كان يقود ويوجه نشاط الرفاق العاملين في الصحف التقدمية الأخرى، بل كان يوزع عليها بعض ما يفيض على الجريدة من مواد، اذكر اني كتبت مادة نقاشية مطولة،من حلقات، بدأت فيها من بدء الخليقة! ابتسم. لم يرد ان يحبطني، اقترح عليّ ان يجري ترحيلها الى " صوت الأحرار ". وهذا ما حصل .
كان له اسلوبه المميز الفريد في الكتابة. لم يكن ميالا للأسهاب والأطالة (كانت هذه طريقته في الحديث ايضا)، ولعله كان الأسرع والأكثر ايجازا والأكثر دقة في كتابة افتتاحيات الجريدة، عندما يعهد اليه ذلك،
اواخر آب من من عام 960، صدر الأمر بأِغلاق صحيفة " اتحاد الشعب ". انهمك الطاقم،عدنان ورحيم وبضعة محررين آخرين، مسؤولي بعض الصفحات خصوصا، وكنت بينهم . انهمكنا في اصدار الصحيفة البديلة " صوت الشعب " (او" كفاح الشعب " لا اتذكر بالضبط الا انهما صدرتا الواحدة بعد الأخرى.) لم يكن في النية اصدار اي منهما بنفس حلّة وصفحات " اتحاد الشعب ". كانت قيادة الحزب تدرك، بحكم فهمها للتوجهات الراهنة، وقتها، في قمة السلطة، ان عمر كل منهما سيكون قصيرا .
كان العراق يخوض معركة المفاوضات مع شركات النفط. وكانت قيادة الحزب تجد من الواجب ابداء وجهة نظر الحزب فيما كان يتوجب على المفاوض العراقي ان يتمسك به خلال المفاوضات (او ما كان يسمى وقتها " تصليب موقف المفاوض العراقي ") حتى لو تطلب الأمر التضحية بما تبقى من صحافة الحزب العلنية. كانت قيادة الحزب تعير اهمية كبرى لما يمكن ان يتمخض عن هذه المفاوضات، واثرها اللاحق على مجمل الوضع السياسي في البلاد (اثبتت التطورات اللاحقة صحة تقدير الحزب هذا). ويبدو ان هذا ضايق رأس الوفد المفاوض العراقي. لعله كان يعتبر ان المفاوضات هي من شأنه وحده. وان تدخلات الحزب تضيّق عليه هامش المناورة وتجعله يبدو امام المفاوض الآخر وكأنه " ينفذ " تعليمات الشيوعيين العراقيين.
لم تعش الصحيفتان اكثر من ايام معدودة. اغلقتا الواحدة بعد الأخرى
انتقلت قيادة الحزب الى محاولة الاستفادة من الصحافة الصديقة. حثّت صاحبي " الحضارة " (محمد حسن الصوري) و" الانسانية " لصاحبها الشاعر كاظم السماوي على اصدار صحيفتيهما.
كان عدنان البراك في قلب هذه المعركة المستعرة، اذ كان الرفيق رحيم قد انتقل الى النشاط السري، كما اعتقد. كلفني بالتعاون مع رأسي الصحيفتين في اصدارهما. وهما لم تعيشا طويلا. خلال ذلك كان عدنان يواصل الأستفادة من صحيفة " صوت الأحرار " ويضم اليها محررا او اثنين من محرري " اتحاد الشعب " ويبحث عن منفذ آخر.
كانت لديه صلات بالسيد / ربما الرفيق وقتها / المحامي (.... شكارة) وهو من جملة شخصيات اخرى (مدراء عامون وموظفون كبار، اعتقد ان الحزب لم يزجها في اي من منظماته واوكل امر الأتصال بها الى الرفيق عدنان) كان االسيد/ الرفيق (,,, شكارة) قد استحصل (لعله بتوجيه من الحزب) على اجازة اصدار صحيفة باسم " السياسة ". وكان الوقت قد آن للأستفادة منها.
صدرت " السياسة " ودسّني عدنان فيها وربما محررون آخرون بينهم الراحل بديع عمر نظمي، اذا لم تخني الذاكرة . اشترط السيد / الرفيق...شكارة ان لا تكتسب الصحيفة طابعا حزبيا مفضوحا. ولقد عانينا، انا وبديع،كثيرا في محاولة التعود على لغة اخرى، غير اللغة التي اعتدنا عليها في الصحافة الشيوعية.
خلال ذلك كان قد جرى ضمي الى هيئة المثقفين (التي كان مسؤولها الشهيد محمد الجلبي)،كمسؤول لتنظيم الصحفيين. هناك التقيت، حزبيا، بعدنان ورفاق آخرين، كانوا يقودون خطوطا ثقافية ومهنية عديدة (ادباء وفنانون، اطباء، مهندسون ومحامون...)
لا يزال عالقا في ذهني نقاش احتدم في اجتماع للهيئة جرت فيه مناقشة وثيقة ايلول 959 الصادرة عن الأجتماع الموسع للّجنة المركزية للحزب (سميت فيما بعد " وثيقة الجلد الذاتي " لما تضمنته من نقد قاسٍ لسياسة الحزب بعد ثورة 14 تموز). قاد الاجتماع الشهيد محمد حسين ابو العيس، اتفق اكثر الحضور على تخطئة سياسة الحزب، واعتبارها كانت يسارية في تلك الفترة، الا انا، ايّدني في ذلك الشهيد عدنان. رأيت ان سياسة الحزب كانت، في الاساس سياسة يمينية! لأنها غفلت عن ادراك الطابع الطبقي للسلطة ورأسها، وراهنت عليه كثيرا في استراتيج?تها وتكتيكاتها، وعندما تكشّفت لها، بالملموس، طبيعتها الطبقية. اتخذ رد فعل قيادة الحزب، طابعا يساريا. ابتسم ابو العيس. دهش من هذا الطرح المركب،الغريب . واحتدم النقاش. نظر الي عدنان معتذرا وانسحب، بقيت وحدي، اصررت على تدوين رأيي في محضر الأجتماع.
جرى سحبي بعد فترة قصيرة الى مجال نشاط آخر، عمالي. ثم نقلت الى الموصل حيث قضيت هناك عاما جرى بعده في (ايلول عام 962) اعادتي الى بغداد للأِلتحاق بالمركز الحزبي العمالي، قيد الأِنشاء، الملحق بسكرتارية اللجنة المركزية، محررا في صحيفة " وحدة العمال "السرية المزمع اصدارها.
لم يكن المركز قد بدأ اجتماعاته ونشاطه، ما اتاح لي وقت فراغ استفدت منه لأعادة اتصالي بالوسط الصحفي. علمت ان الرفاق عدنان وبديع ومجيد االراضي، وربما آخرين، لا تحضرني اسماؤهم، يصدرون بالتعاون مع صاحبة امتياز اصدار المجلة، السيدة نعيمة الوكيل. مجلة 14 تموز.
كان الرفيق عدنان، كالعادة، داينمو المجلة، هذا اضافة الى نشاطه و "عصبة الأربعة " في رفد صحيفة "المبدأ " التي كان صاحبها، الراحل داود الصائغ وسلمها الى الحزب، بالمقالات والتعليقات.
كان عبد الكريم قاسم قد تخلى عن داود وحزبه " الشيوعي بشكله العلني " بعد ان استنفد الغرض من " استخدامه " لحرمان الحزب من اجازته علنا. ارتأت قيادة الحزب ضرورة الحفاظ على القطعة المثبتة فوق باب الحزب (بشكله العلني!)، لعله يأتي اليوم الذي يحتل فيه الحزب الشرعي المقر وجريدته، وتولى الحزب السري اعالة الحزب " العلني "! بما في ذلك دفع الرواتب الشهرية لمن تبقى من العاملين فضلا عن رئيس الحزب! (كان اكثرهم من الرفاق الموكل اليهم العمل مع داود)
هنا ايضا كان عدنان في القلب من هذه العملية المعقدة اضافة الى مهامه الحزبية الأخرى.
لم يكن العمل في المجلة يخلو من المرح ومداعبة عدنان حد " الغمز المبطن ".
كان عدنان، وقد بات اكثر مرونة وبساطة، يتلقى هذه التلميحات باستنكارمصطنع. كان،بالكاد، يكتم ضحكة كانت على وشك الأنفلات...
ثم انقلاب 8 شباط الدموي، ثم عدنان قبالتي في الصالة المتكدسة باللحم المعد للنحر بعد ان اهلك تعذيبا، ثم الصرخة المتحشرجة: - عدنان البراك! "، فينهض متجها الى البوابة التي غيبته وآخرين ...
بعد عدة ايام، وكنا قد قلقنا على مصير" المنقولين " اذ جرى استدعاؤهم مساءً، سأسأل حازم ناجي، وكان قد نشأ بيني وبينه نوع من العلاقة التي تنشأ احيانا بين الضحية والجلاد، عن مصير" المنقولين " اجاب بالحرف: نقلناهم الى مكان احسن " استطرد في وصف المكان حتى بدا لي وكأنه فندق 5 نجوم! ختم بالقول: ستلحقونهم وجبة بعد وجبة!
كانت قد مضت بضعة اسابيع منذ عملية " النقل" المشؤومة. نادى علي حازم . كان الوقت منتصف النهار. طلب مني ان اتهيأ للأنتقال الى معتقل آخر، (مقر الحرس القومي للقطاع العمالي الذي كنت محسوبا عليه). في الطريق الى سيارة الجيب التي سيقودها حازم لنقلي فاجأني بالقول: ينبغي ان تذبح ذبيحة " سألته: لماذا ؟ رد: هل تتذكر ربعك الذين نقلناهم وسألتني عنهم ؟ " توقف قليلا ليضيف مبتسما: لقد دفناهم احياءً. كان مقررا ان تكون بينهم ".صعقت. لم اسأل، لهول الصدمة، لماذا جرى استثنائي، (لا اعرف، حتى الآن، لماذا تم ذلك) اضاف حازم مخففا عني هول الصدمة: لاتخف! كنت قد قررت ان اضع رصاصة الرحمة في جبينك (كانت المرة الأولى التي اسمع فيها هذا التعبير) واضاف: حتى لا تتعذب ".
هذا اذن نوع "الرحمة" الذي يوفره الجلاد للضحية الأثير لديه. لعله كان يتوجب علي ان اشكره لـ " رحمته "! لكنه فاتني ذلك.(ساستخدم، فيما بعد، بتصرف، هذا المشهد التراجو- كوميدي في رواية "الاغتيال ")
منذ ذلك الوقت وانا لا اكف عن التساؤل: بماذا كان يفكر عدنان وابراهيم والأخرون وهم ينحدرون, دفعا بأخمص الرشاشات او بفوهتها (لا فرق) الى حفرتهم الجاهزة؟ هي تنهال عليهم اكوام التراب فتتخلل عيونهم وخياشيمهم، تطوقهم وتشل حركتهم بماذا ؟.
افاجئ نفسي وبين الآن والآن، ربما كنوع من العقاب الذاتي،و انا اتمثل تلك اللحظة (التي فاتتني!) واكاد اصرخ مختنقا:
لماذا قدر لي ان اعيش كل هذا ؟ ان اموت كل هذا ؟ ألأكون شاهدا على نفسي وعلى غيري ؟
عدنان! ايها الفتى الجميل! ايها الفارس النبيل:
كم، في زمن تسلق التفاهات والقذارات، كم افتقدك، كم نفتقدك!
لكنك تظل، انت والشهيد رحيم شريف وكل من عمل في صحافة الحزب، استشهد او رحل، وظل امينا للكلمة الصادقة، النيرة، الخيرة. الحارة، الطالعة، مثل رغيف الخبز، من تنور الكادحين، يقدحه الفكر المتفتح النيّر . تظل ويظلون احياءً، ينهضون فجر كل يوم، مع كل اصدار لصحيفة شيوعية، علنية كانت ام سرية.