هل استفادت ثقافتنا من موسوعة المصطلح النقدي؟

هل استفادت ثقافتنا من موسوعة المصطلح النقدي؟

بقراءة سريعة للمقدمة التي كتبها المترجم والناقد عبد الواحد لؤلؤة لكتاب "التصور والخيال" نواجه قضيتين أساسيتين هما: الأولى حاجتنا الفعلية إلى توضيح المفاهيم النقدية كي يمكن أن تستغل في بناء فكر نقدي معاصر. والقضية الثانية تتعلق بالمشكلة٬ التي يواجهها أي مترجم ينقل عن الثقافة الأوروبية, ويضطر إلى النحت والاشتقاق والتعريب.

التصور والخيال وفي الحقيقة لا بد من التساؤل.. إلى أي حد افادت الثقافة العراقية من جهود المترجم عبد الواحد لؤلؤة, ومن جهود غيره من المترجمين الذين أثروا واقع الثقافة والفكر بنتاجات مترجمة عديدة. هل يجوز الحديث عن محاولات تعاملت بجدية مع "موسوعة المصطلح النقدي". وهل أبالغ لو قلت ان كل موسوعة المصطلح انطفأت كنار قبيلة رحلت عن موضعها٬ بحثا عن مكان آخر فيه أسباب جديدة للحياة؟.


أعني بكلامي هذا ان المثقف العراقي لم يقرأ جيدا كل جهود المترجم التي ارادت أن تجعل من المصطلح النقدي٬ متداولا بين المثقفين من أجل بناء فكر نقدي يقوم على أسس موضوعية ودقيقة. مثلا.. كيف نفهم الجزء الخاص بالتصور والخيال الذي قدم لؤلؤة ترجمته, وتحدث فيه عن بعض مشاكل الترجمة٬ لأن اللغة التي ينقل عنها ترتبط بالتراث اليوناني. ثم ما علاقة التصور والخيال بالعملية النقدية..؟ والأهم من هذا السؤال هو: كيف نوظف هذين المصطلحين نقديا مع كل يشوبهما من سوء فهم؟. لنقل بكلمة ان تقديم تعريف محدد للخيال والتصور ضروري جدا ليس من أجل الكتابة الحقيقية التي تعتمد على المفاهيم٬ لكن لأن جزءا كبيرا من نشاط الإنسان سيظل غامضا٬ اذا لم يحدد معنى مفهوم خطير كالخيال, وانا أجزم ان أهم جزء ترجم من هذه الموسوعة النقدية هو الجزء المخصص لهاتين الملكتين وأعني بهما الخيال والتصور.
حاول المؤلف ر.ل.بريت أن يـقدم الصراع الفكري الذي حدث في أوروبا إلى ان استقر في النهاية مفهوم التخيل, وكيف تطور المفهوم في نهاية الأمر على يد الشاعر الانكليزي "كولردج" الذي فرق بين التصور وبين الخيال في كتابه السيرة الذاتية٬ وهو كتاب ألفه في العام 1815 ونشره في العام 1817. وقد لعب كولردج دورا اساسيا في بلورة معنى هذين المفهومين إلى درجة أنه يعد أحد أبرز منظري التخيل, ولم يضف أحد على ما كتبه شيئا. كان ذلك الشاعر الانكليزي مؤسسا للرومانسية في الأدب الانكليزي مع زميله الشاعر "ووردزورث". اذن لا يمكن أن نفهم رحلة الخيال, والمعركة الفكرية الطويلة التي حدثت بين فلاسفة أوروبا حين كان البحث يبدأ وينتهي بالإنسان. فمنذ القرن السابع عشر ونصوص الفلاسفة تحلل الإنسان بحثا عن نقاط قوته وضعفه. الإنسان بصفة عامة كائن يمتلك طاقات كثيرة, وعلى هذا الأساس رسم الفلاسفة صورة لهذا الكائن الغريب الذي اسمه الإنسان.
ندرة محاولات تحليل الذات
لماذا لم تستفد الثقافة العراقية من كل البحث التفصيلي الذي حلل قوى البشر الداخلية؟ فلم تحاول أن تستغل بعض المنجز التحليلي الغربي في فهم معنى كلمة الإنسان. وفي تأمل بسيط لكل الإصلاح الفكري الذي بدأ منذ مطلع العصر على يد الرصافي والزهاوي وحركة الشعر الحر, وكل كتاب الرواية في مختلف أجيالها لا نرى ذلك الاهتمام العميق بالشخص العارف وتم التركيز على الواقع الاجتماعي بالدرجة الأولى. كان الإنسان في كل ما كتبه المثقفون العراقيون و ارقب الواقع ويتأثر به, وكان الصدام بالسلطة أحد مؤشرات الالتزام بقضايا الناس والمجمتع. فالشعر والرواية اصطدما بالواقع اليومي والسياسي واندمجا به اندماجا كبيرا. وفي هذه الحالة كان المثقف يمثل دور الشخص المهتم بمشاكل واقعه.
ومن الغريب جدا ألا ينشغل أحد باعادة النظر في ذاته ليعرف اسرارها وعيوبها وطاقاتها. المثقف تجاوز نفسه واعتبرها ذاتا كاملة تواجه واقعا ناقصا, ونظاما سياسيا فاشلا٬ وعليه أن يحدد موقفه منهما. ولم يسأل المثقف العراقي نفسه ما هي أدواته لهذا العمل. وكيف يمكن أن يكون بارعا ودقيقا في خلق ثقافة تبدأ من الإنسان٬ وتكشف عن قدراته ثم تكشف فيما بعد عن الواقع؟. ولا يقدر أحد أن ينجز فكرا عميقا دون أن يفهم ذاته, ويعثر على مصطلحاته الخاصة التي تبني فكراوثقافة مميزتين. لذا نجد ندرة وقلة في محاولات تحليل الذات تحليلا دقيقا وقاسيا. أضرب مثلا واحدا استخدمه كثيرا لأنه مثل واقعي مضيء على الرغم من انه مثل قديم مرت عليه أربعة قرون تقريبا إلا انه ما ازل معبرا وحديثا. فقد قام ديكارت في كتابه "التاملات في الفلسفة الاولى" بالبحث في طبقات عقله وروحه عن شيء يقيني واضح ينقذه من شكه. هذه المحاولة التحليلية العظيمة هي رمز لكل مثقف في العالم يسعى للفهم وللكتابة الإبداعية. فدون هذا التحليل لن يصل المثقف إلى شيء ناضج ومؤثر. وهذه المحاولة تتطلب مفهوما ومصطلحا كي تكون خالقة ومبدعة. ثقافيا لم يقم أحد بهذا الدور الكبير. ولم يتبن مثقف مشروعا جديدا لصياغة فكر نقدي ناضج يستند إلى معرفة الإنسان لنفسه. انصب اهتمام الجميع على تفاصيل الواقع٬ وهذا شيء جيد لأن التفاصيل تعلم بقدر ما تعلمنا الكتب٬ لكن الخطأ الذي ارتكبه الكثيرون انهم لم يستفيدوا من المنجز الغربي الذي ترجم ووضع بين أيدي المثقفين .
. فوضى المصطلح
لقد أشار الدكتور جلال الخياط إلى شيء من هواجسي الشخصية في مقدمة كتابه عن الشعر العراقي الحديث الذي صدر في العام ٬1980 اذ قال هذه الجملة المهمة:" جابهت في هذا الكتاب في طبعته الأولى والثانية مشكلة المصطلح النقدي المضطرب. فما الكلاسيكية وما الرومانتيكية مقترنـة بالشعر العربي..؟ وما الجديد في الشعر وما المعاصر؟". ان هذه العبارة هي شكوى واقعية من فوضى المصطلح الذي لم نتفق عليه بعد. ومن الصعب أن نفكر ونكتب نقدا يستحق هذا الاسم من دون تحليل لأعماقنا ودون استخدام التعريفات والمصطلحات المحددة في عملية الكتابة أنا اشعر بانزعاج كبير لضياع ذلك الجهد الذي قدمه الدكتور عبد الواحد لؤلؤة في كل ما ترجم من كتابات تخص المصطلح النقدي, لكن هل حقا ضاعت موجة تلك الترجمة؟٬ أظن أن هذا غير دقيق٬ لان وقتا قد يأتي ويستغل كاتب أو ناقد جهد ذلك المترجم الذي لم ينتبه الجميع إلى خطواته في جعلنا نعرف الفروق بين المصطلحات٬ وألا نظل تائهين وحائرين٬ كما صرح الدكتور جلال الخياط.