إدراك الحاجة كل يوم لجعل القصيدة جديدة

إدراك الحاجة كل يوم لجعل القصيدة جديدة

أوراق
يحمل كتاب " فن الكتابة " تعاليم الشعراء الصينيين " " والذي ألفه كل من توني بارنستون وتشاو بينغ، وترجمه د. عابد اسماعيل وصدر عن مؤسسة المدى للاعلام والثقافة والفنون، خصوصية المكان الذي قدم منه، فعلى نقيض التعليم الغربي في فن الشعر الذي يتصف عادة بالصرامة والجدية، فإن الكتاب الصينيين الذين لا يقلون عن نظرائهم الغربيين حرفية وأكاديمية،

جعلوا آراءهم حول الأدب ذكية ومكثفة، ساحرة وعميقة. وهم يرون أن الرؤية المغلفة بنبرة روحية يمكن لها في الحقيقة أن تكشف النقاب عن المصادر المعتمة للشعر أكثر مما تفعله تلك التي تتصف بالدقة الصارمة. وهذه الروح مجسدة في صفحات الكتاب الذي جاء بمثابة هدية رقيقة وهادئة، تهدف إلى جعل القارئ شاعراً.
وإن أخفق الكاتب في تحقيق هذا الهدف، إلا أنه نجح في اصطحابه إلى أرض القصيدة البكر ليحذره من أن " التابو الأول في الكتابة هو أن تمشي خلف الآخرين."، منبهاً إياه " إذا ظننت أن قصيدتك هي الكلمة الأخيرة في الموضوع فهذا يعني أنك لست شاعراً."
ويتناول الكتاب الذي يمكن تقسيمه إلى اربعة اقسام النواحي الجمالية والفنية ويختار نماذج تطبيقية في حرفة الكتابة وتحديداً في مجال الشعر الذي مثل عبر تاريخ الصين المسلك الأوسع لتحقيق النجاح السياسي والاجتماعي.
فالشعراء هم "مهنيو حرفة إلهية" ومن هنا، فإن الصينيين يعزون إلى الشعر قوى خارقة، فهو " يقوّم الخطأ، ويحرك السماء والارض، والأرواح الإلهية." وليس هذا فحسب، بل أن هذا الصوت الشعري المقبل من مخبأ سري وعميق، "يستطيع أن ينقذ حكومات متهاوية وجيوشا ضعيفة ويمنح صوتاً لريح الفضيلة الانسانية المتحضرة."
على نقيض التقليد الغربي في فن الشعر (ars poetica)، الذي يتصف عادةً بالصرامة والجدية، فإن الكتاب الصينيين، الذين لا يقلون حرفية وأكاديمية وعبر سلالات حاكمة متعاقبة، جعلوا آراءهم عن الأدب ذكية ومكثفة، ساحرة وعميقة، روحية وهجائية. " الاستهلال العظيم " لكتاب (الاناشيد الكونفوشيوسية)، وهو أقدم الموسوعات عن الشعر الصيني والنبع الثر للشعرية الصينية والفكر الشعري الصيني، يعطي للشعر قوة عظيمة، وتعزى إليه المهمة الكونفوشيوسية في تقويم السلوك الاجتماعي والسياسي.
أيضاً نجد أن التاويين، يعزون للشعر قوى خارقة، غير أن طريقتهم أكثر جوانية وعرفانية، وتنطوي على حسّ المفارقة والتهكم، النصوص الاساسية للتاوية منها Tao Te Ching و Chuang-tzu التي ظهرت حوالي القرن الثاني قبل الميلاد، وتجمّد النزوة العفوية والتناقض، وتطرح نفسها كفلسفة ميتافيزيقية تزدري السياسة والواجب الكونفوشيوسيين.
ووفقاً لهذا التقليد القديم، يفتتح الشاعران التاويان " لو – جي وسيكونغ تو " هذا الكتاب من خلال تقديم قصائد ستعلمنا وتشرح لنا بشكل جميل حرفة كتابة الشعر، بحيث بات ينظر إليها كأعمال عظيمة لمبدعيها.
وبالرغم من الرؤية الجمالية للشاعر لو – جي تاوية بعميق، إلا أنها تختزن عناصر كونفوسيوشية قوية ايضاً، يكرر لو – جي بعض المشاغل التي يطرحها " الاستهلال العظيم "، ويظهر من خلال هذا الكتاب احتراما كونفوسيوشيا عميقا للماضي " قلبي يحترم القواعد التقليدية / وقوانين الانشاء " – لكنه يدرك الحاجة كل يوم لجعل القصيدة جديدة.
أن قصائد لو – جي وسيكونغ تأخذنا في رحلات خلابة إلى متاهات النفس والخيال، وتصلنا عبر ذلك في رحلات خلابة إلى متاهات النفس والخيال، وتصلنا عبر ذلك بالمصدر السري القابع تحت العالم.
أن الكتاب الصينيين أعطونا أكثر من الف عام من الشروح النثرية الفطنة والمرحة والأقوال البليغة والعميقة المتعلقة بفن الكتابة، فالنصوص القصيرة الواردة في هذا الكتاب والتي لا يتجاوز بعضها بضع جمل تستلهم التكثيف الموحي للقصيدة الصينية القديمة. وهي تكاد تكون غير معروفة في الغرب، غير أن استبصاراتها في قضايا النثر والشعر دقيقة وجوهرية لدرجة انها، وبالرغم من المسافة القارية ومرور القرون، تصلح دليلا علمياً وممتعاً للكتاب المبدعين اليوم.