سبينوزا.. عبقرية الفكــر

سبينوزا.. عبقرية الفكــر

هاشم صالح
يرى البروفيسور جورج غوسدورف أن سبينوزا (1632-1677) كان مفكراً شبه سري (انظر بهذا الصدد الفصل الذي كرَّسه له جورج غوسدوروف في كتابه الكبير عن الحركة الرومانطيقية،
الجزء الأول، ص. 592. -بالفرنسية). بمعنى أنه كان يعيش حياة متخفّية عن الأنظار إلى حد كبير، أو يعيش "تحت الأرض" كما يقول بعضهم الآن.

فبعد أن قطع علاقاته مع طائفته الأصلية (أي اليهودية)، وبعد أن أُطلقت فتوى ضده من قبل الحاخام الأكبر في أمستردام بتهمة الكفر أو الخروج على الدين، راح يقيم علاقات وثيقة مع جماعة البروتستانتيين الليبراليين، أي غير الأصوليين وغير المتزمتين.
والواقع أنه استفاد من جو التسامح النسبي الذي كان سائداً في هولندا لكي يكتب مؤلفاته ويعيش. ولكنه اضطر إلى أن يتقدم مقنَّعاً كما حصل لديكارت من قبله بعشرين أو ثلاثين سنة. ومعلوم أن ديكارت أيضاً عاش معظم الوقت في هولندا بعد أن غادر المملكة الفرنسية التي تخنق حرية الفكر بكاثوليكاتيتها الصارمة وتعصبها الديني واستبدادها السياسي.

في الواقع لم ينشر سبينوزا في حياته كلها إلا كتاباً واحداً هو: مقالة في اللاهوت السياسي(1). وقد ظهر في أمستردام عام 1670 بدون توقيع طبعاً لأن الأفكار الواردة فيه كانت من الخطورة بمكان. فهو يقدم فيه فلسفة عقلانية للدين، فلسفة ترتكز على تفسير ثوري للتوراة والإنجيل (أي للكتاب المقدس بالنسبة لليهود والمسيحيين). ولكن الكتاب أثار ردود فعل هائجة في الأوساط المتدينة إلى درجة أن صاحبه أقلع عن فكرة نشر كتابه التالي الذي سيخلّد اسمه مدى الدهر: أي كتاب الأخلاق. فهو لن يصدر إلا بعد موت سبينوزا بفترة قصيرة، وبعناية أصدقائه وتلامذته الخلّص.
وقد صدر الكتاب في شهر نوفمبر عام 1677، في حين أن سبينوزا كان قد مات في شهر فبراير من العام نفسه! إن حرص سبينوزا وكبار المفكرين في ذلك الوقت على عدم نشر كتبهم في حياتهم أو نشرها بدون توقيع دليل على مدى الخوف من الأصوليين ورجال الدين. فقد كانوا يُرهبون العقول حقاً ويخنقون الأنفاس خنقاً. كانوا يعيشون نفس الحالة التي نعيشها اليوم. كانت لهم سطوة جبارة على العقول. ونحن المثقفين العرب نجهل هذه الصفحات المرعبة –والمجيدة- من تاريخ الفكر الأوروبي. وكان الأحرى بنا أن نتأمل فيها ونسلّط عليها الأضواء لأننا نعيش حالياً نفس الظروف التي عاشها أولئك المفكرون قبل مائتين أو ثلاثمائة سنة. إن لنا فيها عزاء، نحن الذين لا نجرؤ على قول أي شي له معنى عن التراث الإسلامي. فمثلما كانوا يتهيّبون الخوض في الشؤون الدينية في وقتهم، فإننا نتهيب نحن أيضاً الخوض في الشؤون الدينية والعقائدية الخاصة بنا. وتجربتهم أمامنا ماثلة للعيان، وهي تستحق أن تُؤخذ كعبرة أو كنموذج يضيء لنا الطريق.
مهما يكن من أمر فإن كتب سبينوزا، حتى بعد نشرها، ما كانت متوافرة في المكتبات على عكس ما نظن. كانت تُطْبَع بنسخ محدودة جداً، ويتم تناقلها بين أيادي النخبة المفكرة فقط. والواقع أن الحاخام الذي أفتى بشرعية عزل سبينوزا وقتله، لا يختلف في شيء عن شيوخ الإسلام الذين يفتون بقتل هذا المثقف أو ذاك في مصر أو السعودية أو إيران الخ... قد يختلف الدين والطائفة، ولكن الآليّة تبقى واحدة، أقصد آليّة التعصب والتزمت. إنها تهدف في جميع الحالات إلى منع التفكير بحرية، إلى قمع شرارة الروح والضمير والعقل.
ينبغي ألا نعتقد أن سبينوزا ثار على الدين من خارجه وكأنه لا يعرفه كما يفعل بعض الملاحدة. على العكس. لقد ولد في عائلة يهودية غنية بمدينة أمستردام. وتلقى تربية دينية صارمة، وكان يتردد على الكنيس (أو بيعة اليهود) مثله في ذلك مثل بقية الشبيبة اليهودية. بل وكانوا يحضرونه لكي يصبح رجل دين. وظل كذلك حتى بلغ العشرين من العمر واكتشف الأفكار الفلسفية والعقلانية، وبخاصة فلسفة ديكارت. عندئذ ابتدأ يبتعد عن الدين ويشك في العقائد التي علّموه إياها منذ الصغر وكأنها معصومة لا يرقى إليها الشك. وعندما عرفوا به، أو بأفكاره وحالته النفسية، حاولوا ردعه عنها بالحسنى أولاً، وعندما لم يتراجع أو لم ينصع، فإنهم اجتمعوا في الكنيس الكبير وأطلقوا الفتوى الشهيرة ضده.
وعندما نقرأ سبينوزا - وبخاصة كتابه الأساسي- نتوهم أنه مفكر تجريدي يحلّق فوق الزمان والمكان ولا علاقة له بمشاكل مجتمعه عصره! في الواقع إن هذا وهم خاطئ جدا. فالرجل كان يفكر انطلاقاً من حالة تاريخية محسوسة: هي حالة هولندا في النصف الثاني من القرن السابع عشر. وكانت قد تحررت للتوّ من الاستعمار الإسباني ولكنها وقعت تحت نير استعمار داخلي لا يقل إكراها وقمعاً: ألا وهو الحكم المتزمت للأصولية الدينية. إلا أنها كانت قد عاشت بين هاتين المرحلتين فاصلاً ديمقراطياً في ظل الحكم المستنير للأخوين جوهان دوفيت وكورنيليوس دوفيت (1653-1672). وكانا من أصدقاء سبينوزا وحماته الحريصين على حرية الفكر.
ولكن، واأسفاه فإن الفاصل الديمقراطي قضت عليه الأصولية والنظام الملكي المستبد لإحدى السلالات الهولندية. ويقال بأن سبينوزا أراد النزول إلى الشارع والدفاع عن النظام الديمقراطي ولكن أصدقاءه أمسكوا به ومنعوه خوفاً عليه من القتل. وإذن فإن سبينوزا عندما كان يكتب وينظِّر فإنه كان يعرف عمّ يتحدث. كان يريد أن يجد حلاً لمجتمعه، أو تشخيصاً لواقعه، مثله في ذلك مثل بقية المفكرين الكبار في التاريخ. ولهذا السبب انقضَّ على مسألة الدين ومسألة السياسة في كتابه الوحيد المنشور في حياته: مقالة في اللاهوت السياسي. فقد عرف بحدسه الثاقب أين تكمن العلّة الأساسية: إنها تكمن في اللاهوت الظلامي أو الإطلاقي الذي يخلع المشروعية الإلهية على الاستبداد السياسي. وهذا يشبه مقولة الحاكمية عندنا أو مقولة ولاية الفقيه.. وبالتالي فلا يمكن تحرير السياسة قبل تحرير اللاهوت. أو قل: لا يمكننا أن نتحرر من الاستبداد السياسي إن لم نتحرر أولاً من الاستبداد الديني القمعي.
هكذا وضع سبينوزا إصبعه على مكمن الداء منذ البداية واستطاع تشخيصه في كتاب جبار سبق عصره بعدة قرون!... هل نستطيع التصديق بان سبينوزا تجرأ على نفي الطابع الخارق للعادة، أي المقدس والمعجز، عن التوراة والإنجيل منذ عام 1670!!. البعض سوف يقولون بأنه مجنون. ففي ذلك العصر كان اللاهوت الديني يسيطر على أوروبا من أقصاها إلى أقصاها. ومع ذلك فإن هذا الشخص المنبوذ والملاحق ينهض لكي يقول بأن الكتاب المقدس له طابع تاريخي وبشري أيضاً. كما وينفي صحة نسبته إلى من كتبوه. وينفي المعجزات والنبوة، ولا يعترف إلا بالعقل أو بما يمكن التوصل إليه عقلياً.. كل هذا حصل قبل ثلاثة قرون ونصف تقريباً، ومن خلال كتاب لم يتجرأ ناشره وليس فقط كاتبه على وضع اسمه الحقيقي عليه. فالناشر أيضا كان مهددا لأن ناقل الكفر كافر..
إن هذا الكتاب يمثل ثورة في تاريخ الفكر، ثورة دشَّنت العصور الحديثة ومهدت لها. وإذا كانت أوروبا الحالية تنعم بالحرية الفكرية، والنظام الديمقراطي، والعلمانية، فإن الفضل في ذلك يعود إلى شخص يدعى سبينوزا من بين آخرين بالطبع. في الواقع إن كتاب سبينوزا ما هو إلا صرخة فلسفية للدفاع عن حرية الفكر، أو حرية الضمير والمعتقد، ضد تعصب اللاهوتيين ورجال الدين. ولكي نضمن توافر هذه الحرية في المجتمع فإنه يدعو إلى إخضاع السلطة الدينية إلى السلطة السياسية المدنية. وبالتالي فالكتاب ذو بعد مزدوج. فهو من جهة يحتوي على نقد لعلم أصول الدين (أو علم اللاهوت) ضمن مقياس أن هذا العلم يطالب بممارسة سلطة فكرية تقع خارج مجال اختصاصه ومعرفته. فرجال الدين يجهلون الفلسفة والمكتشفات العلمية الحديثة التي كانت قد تحققت في ذلك الزمان. إنهم يجهلون ما فعله فرانسيس بيكون وكيبلر وغاليليو وديكارت وسواهم. وهو من جهة ثانية يبلور نظرية جديدة للسلطة السياسية، لأصلها ومرتكزاتها.
فيما يخص الجانب الأول، نلاحظ أن سبينوزا يرد على الفتوى اللاهوتية التي أدانته وأباحت دمه. ويقول بأن علماء الدين اليهود تجاوزوا حدود اختصاصاتهم إذ تدخلوا فيما لا يعنيهم. فهو حر في أن يدرس الفلسفة ويتبع المنهج العقلاني في فهم الظواهر، وليس لهم أن يدينوه لأنه اتبع هذا الطريق. وأما فيما يخص الجانب الثاني فإن سبينوزا دافع عن سياسة صديقه "جان دوفيت" الذي كان أحد أبطال الدفاع عن الحرية الدينية التي سبقت هولندا جميع دول أوروبا إليها، والتي تشكل حتى الآن مفخرتها وشرفها. ومعلوم أن "جان دوفيت" قُتِل مع أخيه وسط الشارع من قبل العامة والغوغاء والأصوليين. وكاد أن يغلي الدم في عروق سبينوزا غلياناً بسبب هذه التصفية الجسدية المنكرة لزعيم هولندا الذي قادها على طريق النهضة والرخاء الاقتصادي والتسامح الديني. وكما قلنا فإنه حاول أن ينزل إلى الشارع لكي يواجه الأصوليين جسدياً، ولكنهم منعوه كما قلنا خوفاً عليه من أن يُسْحَل سحلاً... فحياته لا تزال ضرورية لكي يكمل مهمته كمفكر يضيء للبشرية الأوروبية دروب الحقيقة.
في الواقع إن كتاب سبينوزا الذي كان يشبه القنبلة الفكرية بالنسبة لذلك الزمان شكل فضيحة بسبب الجزء الخاص بعلم اللاهوت. نقول ذلك على الرغم من أنه لم يطرح فيه أفكاراً مضادة بشكل صريح للإيمان. فهو لا يشرح فيه رأيه الشخصي بمسألة وجود الله، أو كيفية نشأة الخليقة، أو مصير الروح بعد الموت. ولكنه في ذات الوقت لا يحاول تعديل أفكاره لكي تتناسب مع الأفكار الشائعة في عصره. وإنما يقدم تصوراً جديداً يصدم العقول في ما يخص طبيعة الإيمان ودوره. في الواقع إنه يوهم، بداية، بأنه يتبنّى قناعة المؤمنين الذين يعتقدون بأن الكتاب المقدس يحتوي على الوحي الإلهي. ولكنه يفعل ذلك لكي يوضح لهم مضمون هذا الوحي ومدلوله الحقيقي. وهو بذلك يحاول تنظيف الإيمان عن طريق قصقصة أجنحته اليابسة أو المتخشبة: أي عن طريق إزالة الخرافات والعقائد الدوغمائية المتحجرة منه.
كان هناك رأيان سائدان في عصر سبينوزا في ما يخص الكتابات المقدسة. رأي يقول بأنها تحتوي على معنى سري، مجهول، لا يمكن التوصل إليه إلا عن طريق العقل الخارق للطبيعة، أي ما فوق البشري أو العقل الملهم والإلهي. ورأي يقول بأنه يمكن التوصل إلى معنى هذه الكتابات عن طريق العقل الطبيعي، أي البشري. وعندئذ نكتشف أن معناها مطابق دائماً للحقيقة. وهذا هو رأي المؤمنين العقلانيين إلى حد ما أو المتفلسفين من أمثال موسى بن ميمون المعاصر لابن رشد والذي حاول المصالحة بين الديانة اليهودية والفلسفة كما فعل فيلسوفنا الكبير فيما يخص الإسلام.
في الواقع إن سبينوزا كان يرفض هذه النزعة التوفيقية أو التلفيقية، كما يرفض النظرة الأولى بالطبع. كان موقفه يتمثل فيما يلي: الكتابات المقدسة تحتوي أحياناً على أشياء لا يمكن التوفيق بينها وبين المعرفة العقلانية كالمعجزات مثلا أو الحكايات الخارقة للطبيعة. وبالتالي فلا ينبغي أن نبحث فيها عن تفسيرات مقنعة لطبيعة الأشياء والظواهر، ولا حتى لطبيعة الله. وإنما ينبغي أن نبحث فيها عن الموعظة الحسنة التي تهدينا أخلاقياً وتعلّمنا كيف ينبغي أن نعيش ونتعامل مع الآخرين. فالواقع أن تبشير الأنبياء والحواريين يهدف فقط إلى التأثير على عواطفنا وقلوبنا لكي نصبح مستقيمين في سلوكنا، وأخلاقيين في تعاملنا مع بعضنا البعض.
ولهذا السبب فإن الكتابات المقدسة (أي التوراة والإنجيل) تستخدم لغة بسيطة يفهمها الجميع. وهي لغة بدائية تنضح بعقلية الفترة التي كتبت فيها والشعب الذي ظهرت فيه، بل وحتى الناسخ أو المؤلف الذي كتبها. ولهذا السبب فلا ينبغي أن ندهش إذا ما وجدنا فيها –أي في الحكايات التوراتية وقصص الأنبياء والحواريين- أشياء تتناقض مع المعرفة العقلانية أو العقلية الحديثة (2). نضرب على ذلك مثلاً قصص المعجزات العديدة التي تمتلئ بها الكتب المقدسة. فهي تثير حماسة المؤمن وتبهره وتجعله يشعر بعظمة الله وقدرته. ولكن سبينوزا يعتقد أن عظمة الله تتجلى بشكل أفضل في تشكيل النظام المتناسق والمتماسك للكون والطبيعة، وليست بحاجة إلى معجزات لكي تبرهن عليها. فالله الذي خلق الكون على أحسن تقويم وزوده بالقوانين الصارمة والدقيقة لا يمكن أن ينتهكها وليس بحاجة إلى انتهاكها لكي يبرهن على عظمته.

------------------
(1)- لكي نكون أكثر دقة ينبغي القول بأنه نشر كتابين: الأول كان موقعاً باسمه وهو الوحيد ويحمل عنوان: مبادئ فلسفة ديكارت، والثاني بدون توقيع هو هذا الكتاب الذي نحن بصدده الان. وهو الأهم بالطبع ولكنه لم يجرؤ على التوقيع عليه. انظر: سبينوزا، الأعمال الكاملة، مكتبة لا بلياد، منشورات غاليمار، 1954.

عن كتاب التنوير في الفكر الغربي