زكريا تامر.. وعالمه القصصـي الغرائبي

زكريا تامر.. وعالمه القصصـي الغرائبي

عمران عزالدين أحمد
تحفل عوالم زكريا تامر القصصية بالغرائبية المُدهشة، كما تكتنز قصصه بالدرجة ذاتها بالمفارقات الموظفة التي ترنو إلى قول ما تستوعبه المجلدات في قصص محبوكة بعناية فائقة، ومكثفة إلى أقصى حدود التكثيف. لقد نقل تامر السرد السوري من الرتابة والتقليدية إلى حداثة موظفة، أثبت من خلال سعيه الأدبي الدؤوب على علوّ كعبه في قصّ عربي رائد على صعيدي الاشتغال الحكائي والانزياح اللغوي ممثلاً بالفكرة/ الحدث/ الومضة المُدهشة .

وبالتالي غرائبية عوالمه القصصية الموظفة التي تناولت تشريحاً وتحليلاً الممرغين في القاع من الناس، فاقتصّ لهم بمعماره الهندسي/ القصصي الفاتن من أولئك الذين شوهوا هذه الحياة بظلمهم وجورهم واستبدادهم، وهو في هذا المنحى يؤكد ما قاله الدكتور عبد الفتاح كيلطو: "كلما اتجهتَ نحو الغرابة كانت كتاباتك أدبية بحتة."
تتأتى أهمية قصص زكريا تامر كونها تتخذ من الواقع المعاش، مادة أولية وخاماً لها، إذ يرى بعض النقاد أنَّ أسلوبه فيها يميل إلى " الواقعية التعبيرية " بينما يرى نقاد آخرون بأنَّه " شاعر القصة القصيرة" فقد كتبَ تامر عن المسحوق والمقموع والمسكوت عنه، كما كتب عن ربّ العمل الجائر، الأب الفاشل، الزوجة الخائنة، الأم المناضلة، المثقف، الواعي، السكران، المخبر، القصاب، السّمان، والموظف المرتشي والشريف أيضاً. أنْسَنَ الحيوان والجماد والنبات والحبر ببراعة فائقة قلّ نظيرها، فقد أنْسَنَ ـ على سبيل المثال وليس الحصرـ القطط والكلاب والخزانة والحائط والكرسي والشجرة والعصفور والوردة. كثيرة هي قصصه التي تُوكل البطولة فيها لحيوان مثلاً، كالقطة والعصفور والضفدع والفراشة والسمكة، ورغم أنَّ هذه التقنية في الكتابة ليست بجديدة، فقد سبق وأنْ استخدمها ابن المقفع ولافونتين وايسوب وأحمد شوقي وكثير سواهم، فإنَّ زكريا تامر اتكأ عليها بحرفية عالية، كان لها أثر كبير في إغناء قصصه التي لا تقلّ البتة عن قصص أدباء كبار، نالوا حظاً من الشهرة، لم يتح الظرف الأيديولوجي، أو الفرصة التي تسوّقها وسائل الإعلام لأحدهم، لتجعل من زكريا تامر اسماً لا يقل شأناً عن تشيخوف وبورخيس وخوليو كورتاثار ويوجين يونسكو وبورخيس وإيتالو كالفينو.
للحوار في قصص زكريا تامر وظيفة غير تلك التي عهدناها عند غيره من كُتَّاب القصة، وسائر الأجناس الأدبية الأخرى، إنّه مزج حيّ من هذه الأجناس الأدبية مجتمعة، فهو يأخذ من الحوار المسرحي عنصري الفائدة والمتعة إضافة إلى تكثيف الجملة، ومن القصّ الساخر والمقالة الساخرة روح ولبّ السخرية المرة، وذلك فيما اُصطلح على تسميته بالكوميديا السوداء، من خلال إسقاطاته العلقمية، كما تتبدى في حواراته روح النكتة والدعابة وهو يسرد حدثاً ميلودرامياً، الأمر لا يقتصر عند هذه الحدود فقط، بل نراه يقدّم لنا قصة تعتمد منذ لحظة البداية حتى الخاتمة تقنية الحوار فقط، كما في قصة له موسومة بـ برنامج إذاعي.
" صهيل الجواد الأبيض ـ نداء نوح ـ ربيع في الرماد ـ الرعد ـ دمشق الحرائق ـ الحصرم ـ تكسير ركب ـ سنضحك ـ هجاء القتيل لقاتله ـ القنفذ ـ النمور في اليوم العاشر." وغيرها الكثير الكثير من مجامعيه القصصية الرائعة التي تنطوي على قصص مكثفة، خالية من الزوائد والحشو الوصفي، إضافةً إلى تركيزها على خطّ قصصي مهم، ترصد بمهارة شديدة حالات إنسانية شديدة الصدق. لقد نجح تامر كثيراً في إرباكنا فنياً، مديناً بهذا الإرباك واقعنا القميء، الضاحك دوماً ببلاهة:
" نفخ الشرطي في صفارته، فبزغت تواً شمس الصباح، وأضاءت شوارع المدينة بنور أصفر كخشب مشنقة عجوز.
وعندئذ أفاق الناس من نومهم آسفين عابسي الوجوه."
فالناس هنا، أضحت تفضل نوماً كنوم سكان القبور، بعد أن أصبح كلّ شيء في حياتهم بالياً وعجوزاً، فالنوم وَحده هو الحدّ الفاصل بين البشاعة والسعادة، الليل والنهار، والتفاؤل والتشاؤم، لأنّه يمنحهم ـ ولو مؤقتاً ـ فرصة ثمينة لتناسي أو نسيان ما آلوا إليه، بعد أن تيبست أحلامهم وأمانيهم وطموحاتهم، بفعل الأجهزة القمعية عامة، العالمية المتربصة على وجه الخصوص ـ الشرطي هنا رمز لها ـ من دون أن تتحقق. فتدخل تلك الأجهزة القمعية، لم يعد يقتصر على حياة الناس فقط، بل امتدّ الأمر به ليشمل الظواهر الطبيعية" صفارة الشرطي التي تأذن للشمس بالبزوغ."
إن زكريا تامر كما قال عنه الدكتور كمال ديب في معرض تقديمه لمجموعته القصصية " سنضحك" هو: فنان الكشف والفضح والتعرية. يعقلن اللامعقول، لا من أجل جعله مستساغاً، بل من أجل أن يكشف إرعابيته وغوريته وجموحه وفاعلياته الكاسحة في الحياة كلها. إنه شاهد مبدع على عصره، وصانع فتّان لعالم مثير حتى الإرعاب.