السعيد والعسكري ارتبطا بصداقة حميمية وتزوج كل منهما أخت الآخر عام 1910

السعيد والعسكري ارتبطا بصداقة حميمية وتزوج كل منهما أخت الآخر عام 1910

ترجمة: سناء عبد الله
ولد نوري السعيد، ذو العينين الزرقاويتين، في بغداد عام 1888، وهو الابن الوحيد لسعيد أفندي المدققجي، من أحفاد لولو. وكان الجيش المكان المناسب الوحيد لأي صبي ينتمي إلى أسرة طيبة ينشأ في بغداد العثمانية، حيث ذهب نوري إلى مدرسة عسكرية داخلية تهيئ المرشحين للأكاديمية

العسكرية في القسطنطينية. كاد نوري أن يلقي حتفه عندما كان في سن الثانية عشرة بسبب إصابته بمرض التيفوئيد، غير أن الطبيب الوحيد الذي كان في بغداد اعتني به طيلة مدة أزمته الصحية، وفي عام 1903 كان نوري مؤهلا لبدء رحلته الشاقة إلى القسطنطينية للدخول في الدورة العسكرية التي تستغرق ثلاث سنوات. وهكذا غادر نوري مع 72 صبيا آخر على متن قافلة من البغال متوجهين إلى الأكاديمية العسكرية في رحلة استغرقت 27 يوما قطعوا خلالها صحراء انتشرت فيها العصابات حتى وصلوا إلى الاسكندرونة ليأخذوا من هناك قاربا حملهم إلى القسطنطينية. استغرقت الرحلة باكملها 40 يوما حيث يقطع نوري إلىوم المسافة نفسها بأقل من أربع ساعات بواسطة طائرة فيسكاونت يقودها طيار عراقي.

جمعية العهد
عاد نوري إلى بغداد بعد تخرجه من الأكاديمية برتبة ملازم ثان، وهو شاب رشيق وسيم بشارب ظهر في القسطنطينية، مع شعور كبير بالزهو بزيه العسكري. نُسب نوري كآمر فصيل في احدي المدن الحدودية، وسرعان ما جمعته علاقة صداقة حميمة بجعفر العسكري، وهو ضابط عربي قوي البنيان اجش الصوت أقدم منه ببضع سنوات. وفي عام 1910، كما يروي أحد أفراد الأسرة "تزوج الرجلان شقيقة أحدهما الآخر". ورغم أن العادات العربية لم تسمح لنوري بالتعرف على عروسته نعيمة لحين يوم الزواج، هيأ جعفر لشقيقته فرصة لرؤية نوري من زاوية احد الشبابيك قبل بضعة أسابيع من الزواج. تقول نعيمة: "كان رجلا وسيما- كما هو علىه الآن" وأنجبت له ولدين (أحدهما تدرب على الطيران في سلاح الجو البريطاني الملكي كطيار مدني، ويعمل حاليا رئيسا لشبكة السكك الحديدية وشركة الطيران العراقية(.
غادر الضابطان الشابان بعد الزواج بمعية زوجتيهما ووالدتيهما، على متن قافلة من البغال، إلى القسطنيطينية للالتحاق بكلية الأركان هذه المرة. بعد وصولهما بوقت قصير، اندلعت الحرب في منطقة البلقان، والتحق نوري بجبهة القتال، غير أنه وجعفر صارا على قناعة تامة بأن فرص إحراز التقدم في وظيفتيهما كانت تحجب عنهما بشكل منتظم بسبب انتمائهما العربي. قال نوري معلقا على الأمر "إن كنا أجنبيين، فلنكن إذن أجنبيين". التحق نوري بجمعية العهد حيث عهدت إليه مسؤولية احدي خلاياها السرية سعيا لتحقيق الاستقلال للعرب عن الإمبراطورية العثمانية المحتضرة والمتهرئة. وضع جميع أعضاء الخلية خلال اجتماعاتهم أغطية حمراء فوق رؤوسهم بغية الحفاظ على سرية هوياتهم عن بعضهم البعض عدا نوري الذي كان عليه أن يكشف هويته. بعث أحد أعضاء الخلية في احد الأيام برسالة إلى نوري يعتذر فيها عن حضوره الاجتماع بسبب مرض أصابه. ولما أدرك نوري أن غياب ذلك الرجل عن الاجتماع من الممكن أن يكشف هويته بسبب معرفة الآخرين بطبيعة مرضه، جلب نوري والدته ووضع الغطاء الأحمر على رأسها وتركها تجلس وسط المجتمعين طيلة فترة الاجتماع دون أن تنبس ببنت شفة لكي تشعر الحضور بأن عدد المجتمعين متكامل.

رباطة الجأش وأعمدة الحكمة
في مطلع عام 1914، وبعد أن علم الأتراك بتآمره ضدهم، هرب نوري من القسطنطينية والتحق بإحدى مجاميع الثوار في البصرة. وهناك، عثر عليه البريطانيون، الذي دخلوا في الحرب العالمية الأولي ضد الأتراك، أثناء رقوده في المستشفي للعلاج من مرض في الصدر ألم به. كان نوري، بالنسبة للبريطانيين، لا يزال ضابطا تركيا، فقاموا بإرساله إلى الهند كأسير، ووضعوه في معسكر واقع على تل حتى يتماثل للشفاء. بعد مضي عامين، عندما دعم البريطانيون الثورة العربية التي قادها الشريف حسين في الصحراء، تحدث نوري إلى البريطانيين طالبا منهم أن يسمحوا له بالانضمام إلى الحركة. وفي الحرب العربية، كتب لورنس عن نوري بعد ذلك في (أعمدة الحكمة السبعة) قائلا: "إن شجاعته، وقوته، ورباطة جأشه" ميزته كزعيم مثالي. ومضي لورنس قائلا "معظم الرجال كانوا يتحدثون بسرعة عندما يتعرضون إلى النيران، ويتصنعون هدوءا وارتياحا كاذبا. غير أن نوري كان يزداد هدوءا في مثل تلك الأوضاع".
في مؤتمر باريس للسلام عام 1919، حيث حصل العرب على أقل مما وعدهم به لورنس، رأي نوري زعيمه العربي، الأمير فيصل، وهو ثمل وفاقد للأمل بعد أن علم بعزم الفرنسيين على الاستحواذ على سوريا لمصلحتهم. ألقي فيصل بوسادة مقعد السيارة التي كانت تقله على مقر وزارة الخارجية الفرنسية أثناء مرور سيارته من أمامها.
أعلن العرب تنصيب فيصل ملكا على سوريا، ونوري رئيسا لأركان جيشه. غير أن فيصل الذي طرد من سوريا، تلقي عرضا بريطانيا للقبول بعرش العراق. وفي منطقة لا تبعد أكثر من 150 مترا عن مقر مكتبه الحالي، وقف نوري السعيد بكل زهو في أحد الأيام من عام 1921 إلى جانب رئيسه أيام الحرب في حفل تتويجه كأول ملك على العراق.

الولاية والغوغاء
تقول المستشرقة الشهيرة غيرترود بيل عن نوري "في اللحظة التي رأيته فيها، أدركت أننا بمواجهة قوة مرنة علينا إما أن نستخدمها أو أن ندخل معها في قتال مرير". نوري أيضا، من جانبه، واجه خيار القتال أو التعاون. وقد اختار التعاون. ترأس نوري الجيش خلال السنوات العشر الأولى من الإدارة البريطانية للعراق بتفويض من عصبة الأمم. في عام 1930، أصبح نوري رئيسا للوزراء لأول مرة. وبدأ العراق تدريجيا باستعادة استقلاله رغم أن ذلك الاستقلال لم يكن بالسرعة التي تمناها المتهورون.
عندما قامت الغوغاء بصب الزيت على شرطي وإحراقه حيا، أو عندما هوجم نائب القنصل البريطاني بفأس، مزقهم نوري وأعدم قادتهم. وقد كلفته تصرفاته غير الودية تجاه البريطانيين فقدان منصبه بعض الوقت. لم يكن قادرا على إقناع البريطانيين أن يقدموا الحل الذي كان يفضله للقضية الفلسطينية، وعندما صدت دولة إسرائيل الفتية الجيوش العربية الغازية، كان العراق البلد العربي الوحيد الذي رفض توقيع أي هدنة مع الإسرائيليين المنتصرين. (يتسم نوري علنا بالديماغوجية حيال الإسرائيليين شأنه شأن أي زعيم عربي، ولكنه يدرك على انفراد حقهم في الوجود وقدرتهم على ذلك). في بعض الأحيان، عندما كان نوري خارج الحكم، خرجت الأمور عن نطاق السيطرة. عاد إلى الحكم آخر مرة عام 1954، وطبق صيغته النموذجية: أغلق 18 صحيفة، فاز بانتخابات مزورة (محققا أغلبية لم يحصل على أعلي منها سوي عبد الناصر عندما حصل على 99.8 بالمئة من الأصوات في الاستفتاء الرئاسي العام الماضي)، وألغي جميع الأحزاب وزج بالمئات من الشيوعيين في السجن. عمد بعد ذلك إلى تعزيز ولاء رجاله في السلطة من خلال مقاومة المقترحات الرامية إلى فرض ضرائب على الشيوخ المالكين للأراضي، الذين يسيطرون على المناطق الريفية، ورفع رواتب الجيش وضباط الشرطة.
كان كافيا في وقت ما إخماد الاضطرابات داخل البلاد. غير أنه مع صعود جمال عبد الناصر في مصر وانتشار الدعاية التي بثها راديو القاهرة إلى جميع العرب، وجد نوري نفسه معزولا خارجيا. كان قرار نوري الجريء برعاية حلف بغداد قد لاقي إدانة من جانب عبد الناصر بوصفه مساومة لصالح "الإمبريالية والصهيونية"، مما دفع ببقية القادة العرب بأن ينأوا بأنفسهم عنه. من جانبها، عمدت الأردن التي كانت قد دُفعت بطريقة فجة على أيدي البريطانيين للانضمام إلى الحلف، إلى طرد القائد البريطاني غلوب باشا، ووضعت جيوشها، إلى جانب جيوش سوريا والسعودية، تحت أمرة القيادة المصرية المشتركة. قبيل غزو السويس، وقف العراق وحيدا في العالم العربي، فيما كسبت "الأمة العربية" التي نادي بها عبد الناصر المؤيدين في كل مكان.
ظاهريا، شكل غزو السويس ضربة لناصر، خصم نوري، وبالتالي نعمة له. غير أن هجوما بريطانيا وفرنسيا بالاشتراك، إن لم يكن بالتعاون الوثيق، مع عدو العرب الأول، إسرائيل، تسبب بأزمة طاحنة لدي الباشا. دعا نوري في الساعة الثانية صباحا إلى عقد اجتماعا لمجلس الوزراء لم ينتهي إلى عند الفجر.
في تلك الليلة، قرر نوري مد يد العون إلى عبد الناصر، فقطع علاقاته مع فرنسا، وأبلغ البريطانيين أن العراق لن يجلس معهم لمناقشة أي من شؤون حلف بغداد حتي إشعار آخر، وأعلن أنه يتعين "إزالة إسرائيل". غير أن التفاتته تلك لم تمنع السوريين من تفجير أنبوب النفط المؤدي إلى البحر الأبيض المتوسط- حيث كبد ذلك الحكومة العراقية خسارة في دخلها النفطي بلغت 60 مليون دولار. في غضون ذلك كان راديو دمشق يردد "أيها العراقيون الأعزاء.. حطموا جدران سجونكم، وحرروا أنفسكم من القيود ومن خسة نوري السعيد".
تفجرت العواطف المساندة لعبد الناصر داخل العراق متسببة بأعمال عنف في الموصل. ولقي نحو 20 شخصا مصرعهم في قتال دار في شوارع النجف وكوت الحي. أما في بغداد فقد انطلقت مسيرة حاشدة ضمت نحو 2000 شخص قادها الطلبة في شوارع العاصمة حاملين صور عبد الناصر ومرددين شعارات: "تسقط الملكية. ويعيش عبد الناصر، قائد جميع العرب". أعلن نوري الأحكام العرفية، وأغلق المدارس، وعلق عمل البرلمان، وألقي بمئات العراقيين في السجون. قامت شرطته أيضا باعتقال ثلاثة ضباط مصريين بتهم التخطيط لاغتيال الباشا. وصاح نوري "لم يولد بعد الرجل القادر على اغتيالي"، وقد تدلي مسدسه من على وسطه أينما ذهب خارج داره. قبل مغادرته لحضور اجتماع كراجي الأسبوع الماضي، رفع نوري أخيرا الأحكام العرفية: أخيرا ، مرت الأزمة بسلام. يدير نوري مهامه على نحو أسهل بكثير مما يفعله أي زعيم شاب يهوي البهرجة. في بغداد، يستيقظ عند الساعة السادسة صباحا ويتناول قدحا من عصير الكريب فروت (ليمون الجنة) وفنجانا من القهوة فيما يستمع إلى نشرة الأخبار الصباحية من إذاعة صوت أميركا. وبعد جولة أولي من المداولات الهاتفية مع وزرائه عبر الهواتف المزودة بنظم التشويش، يتناول الفطور ثانية، المتكون من البيض، وينطلق مجتازا جسر دجلة باتجاه مكتبه بسيارة كرايسلر (مع عدد كبير من رجال الأمن الذين يتبعونه مرتدين ملابس مدنية).
بعد أن يوجه مساعديه بشأن كيفية الرد على البريد الوارد إليه (لا يكتب نوري شخصيا أية رسائل عدا رسالتين يكتبهما أسبوعيا إلى حفيديه في مدرسة في انكلترا)، يعود مسرعا إلى داره للاستماع إلى نشرة أخبار هيئة الإذاعة البريطانية عند الثانية ظهرا قبل أن يتناول غداءه وينال قسطا من النوم بعد الظهر. وإذا ما كان الجو مناسبا فقد يتناول الشاي على جانب دجلة، ويرمي بعض الأكل لعشرات البط الأسود الذي ينطلق نحوه عندما يناديه. ويتناول عشاءه بشكل دائم تقريبا مع الأصدقاء ذاتهم- مسؤول الدعاية خليل إبراهيم، والمسؤول عن الإعمار ضياء جعفر، ووزير المالية خليل كنة، وهو رجل يبلغ من العمر 47 عاما، يساري سابق وموهوب، غالبا ما يوصف بأنه الوزير الأكثر احتمالا للنجاح. علما أن معظم أقرانه قد توفوا، ومعظمهم خلال أحداث عنف. يتردد نوري على القصر الملكي عدة مرات خلال الأسبوع، وهو الأمر الذي يعني الكثير في السياسة العراقية بسبب صلة القصر الوثيقة بالجيش والدماثة التي يتمتع بها ولي العهد الأمير عبد الإله. (على عكس ابن عمه حسين في الأردن، فان الملك الشاب فيصل لم يصبح حتى الآن مصدر قوة في اتخاذ قرارات الدولة). كما يزور الباشا العجوز مكتبه في وزارة الدفاع.