نجيب المانع:  آخر الموسوعيين

نجيب المانع: آخر الموسوعيين

لؤي عبد الاله
قاص عراقي مقيم في لندن
تمر في هذه السنة الذكرى العاشرة لرحيل الكاتب والمترجم العراقي نجيب المانع، ومثلما هي الحال مع كثير من الفنانين الكبار توفي المانع وهو محاصر بالعزلة والندم والفاقة، وحينما اخترق الاقارب بيته الواقع في حي لندني فقير، وجدوه كعادته جالسا على كرسيه الهزاز وبين يديه كتاب سميك عن الشاعر الالماني ريلكه.

وعلى الرغم من عبود عقد على فقداننا لرائد مهم من رواد الحداثة في تاريخ الثقافة العراقية، مثل نجيب المانع، لم تبادر اي مؤسسة ثقافية او سياسية او اجتماعية معنية بالهم العراقي بالسعي الى جمع كتاباته المبعثرة في العديد من المجلات الثقافية مثل مجلة "الكلمة" العراقية، و"مواقف اللبنانية" و"الاغتراب الادبي" التي ما زالت تصدر في لندن ناهيك عن مقالات كثيرة اخرى سبق للاستاذ المانع ان نشرها وبشكل منتظم في فترة الخمسينيات في مطبوعات مثل جريدة "البلاد" ومجلة "الثقافة" العراقيتين في كثير من هذه المقالات مواد فكرية دسمة فرشها لنا نجيب المانع على سفرته الواسعة باسلوب تتعشق فيه روح الدعاية بالغضب، التامل العميق بالخطابية المبهرجة، البلاغة المكثفة باللغة العادية. في مقالاته الكثيرة ينغمر نجيب المانع بحقول ثقافية وفنية عديدة، ففي نص اوحد تتمازج الفلسفة بالموسيقى ، الحدوسات المفاجئة بالذكريات، الاراء الاستفزازية بالنقد الحاد للذات، وكان مقالاته اعاصير عاطفية لا تسعى الى الثبات في ذهن القارئ بل لتحفيزه على إثارة اسئلته، ولزعزعة قناعاته السابقة، في مقالته "النفاجة" التي كتبها عام 1986 بلندن يرصد الفقيد المانع مفردة snoblism الانكليزية التي تقابلها بالعربية كلمة "نفاجة" لكنه يتجاوز المعنى السائد بالانكليزية ليوسعها عربيا شاملا الكثير من الظواهر السلبية في حياتنا، كل ذلك باسلوب ساحر وحميمي قلما نجده في الساحة الثقافية العربية لا تعني كلمة السخرية لدى نجيب المانع الانتقاص من الاخرين بل هو صنف من اصناف الدعاية شائع في الغرب تحت اسم "المحاكاة الساخرة" Parody اضافة الى استخدام الاسلوب الساتيري Satire في السخرية والهادف الى الاصلاح عبر المبالغة يتناول الظاهرة موضوع النقد ويذهب المانع في العديد من كتاباته الى تعرية سلبياته امام القاري جنبا الى جنب مع ما يراه متميزا في ذاته.
يقول هيرمان هيسه في روايته نقد البوادي، روح الدعابة الحقة تبدا حينما يكف الفرد عن اخذ نفسه ماخذ الجد" ، ولعلنا نجد في مقالة "النفاجة" التي نشرها في مجلة "الاغتراب الادبي" هذا الكرنفال العاصف من اصناف السخرية الممتعة التي تجبر القارئ اولا على الابتسام، لكنه ما ان يتوغل ابعد في قراءته حتى تتحول تلك الابتسامة الى ضحة مجلجلة، ولن يتوقف هذا الاستدراج عند هذه المحطة بل سيقوده نجيب المانع بسهولة الى المراة التي يرى فيها نفسه وواقعه ليكتشف هوله.
بعد التعريف القاموسي للمفردة اللغوية يمضي المانع مفصلا انواع النفاجة "النفاج الاجتماعي" هو من يخبرك على سبيل المثال، عند انتهاء مهرجان الخيول الذكية في وندسور وعودتي الى لندن ليلة البارحة توقفت السيارة نزل السائق ولما رأيته اطال تفحص الخلل نزلت انا ايضا واذا بي ارى خلفي تشارلز واقفا فيسأله مستمعه تشارلز من؟ فيجيب النفاج الذي يحب ان يذكر المشاهير باسمائهم الاولى: انه الامير تشارلز ولي العهد قال لي: ماذا حدث لسيارتك ياجيمي؟ قلت لا ادري، هذه الرولز اللعينة (والنفاج لايقول الرولز رايس بل الرولز فقط) اخذت تعذبني مؤخرا اشار علي السائق ان نستقل البنتلي وتترك الرولز في المرآب، ولكنني احبها يا تشارلز لما تحمله عندي من ذكريات..".
واذ يعدد نجيب المانع انواعا كثيرة من النفاجات يتوقف عند النوع الذي يخصه هو بالذات "هناك نفاجة كراهية العمل ليس هناك من عمل يليق بالنفاج فهو يخبرك بمأساة حياته اذ يستيقظ صباحا ويذهب الى الدائرة او محل الشغل حيث الرئيس مزعج والزملاء سخفا، وهنا لابد لي من اعتراف اخر وهو انني قلما احببت العمل الذي كنت اعتاش منه، اذ اوحت لي نفاجتي في كثير من الاحيان بانني فوق مستوى العمل الروتيني الذي لا يتلاءم وقدراتي الابداعية وها قد مرت السنون ولم يتضح ان قدراتي الابداعية ذات شأن كبير في حياتي انا فضلا عن حياة الاخرين لم تكن سوى تلمسات اعمى في طرق المدن التي تزار لاول مرة، وكنت ، كما قلت مرة مستهلكا للعبقريات، اما انا نفسي فكنت مصابا بالوباء القاتل الزاحف الذي يهدم كل شيء ويشل كل انسان في صحارانا البرية وباء الاعتيادية Mediocrity الذي اصابنا، ولم يكد يفلت منه احد واذا كانت الطواعين تاتي وتميت ثم تزول فان طاعون الاعتيادية مثيم خالد لا يتحرك ولا يزول من ربوعنا.
خلف نجيب المانع وراءه ما يقرب من عشرين كتابا مترجما لا وجود لها في سوق الكتب حاليا من كتبه المترجمة التي اتذكر انني اقتنيتها في بغداد بمنتصف السبعينيات دراسة رائعة عن بيتهوفنن وكتاب "بناة العالم" ورواية فيترجرالد سكوت الشهيرة "غاتسبي العظيم" التي اعادت دار الهلال المصرية اصدارها بطبعة شعبية، وقد لا ابالغ اذا قلت ان النسخة العربية المترجمة تنافس ان لم تكن اجمل من النسخة الاصلية المكتوبة بالانكليزية .
مع ذلك لم يترك نجيب المانع اي كتاب مطبوع له سوى رواية "تماس المدن" الصادرة عن وزارة الثقافة العراقية عام 1979، وفي عام 1997 اصدرت دار "الانتشار العربي" اللبنانية مقالاته التي نشرها خلال السنوات الاخيرة من حياته في جريدة "الشرق الاوسط" تحت عنوان "ذكريات عمر اكلته الحروف" وكانت على نفقة صديقه الاستاذ حمدي نجيب.
اتوقف عند مفارق ةمثيرة للانتباه في الوقت الذي اصبحنا نعاني من طوفان الكتب التي لا يكف اصحابها عن ضخها كل سنة الى المكتبات حتى قبل التعرف الى ردود فعل القراء لما سبقها، نجد بالمقابل اختفاء هذا الكنز الثقاف الذي خلفه وراءه نجيب المانع لنا.. ولعله مع ذلك لن يشعر باي اسف، فهي من وجهة نظره محكومة "بالاعتيادية" على الرغم من استنادها الى مئات الكتب والمعاجم والاسطوانات والاف الساعات من الاستغراق في الكتابة والتامل وفك مغاليق اللغات الاجنبية وقبل كل شيء الى موهبة نثرية نادرة، لعل ذلك هو القانون الذي يحكم الثقافة العراقية الحقيقية قانون الفناء، منذ اندثار مكتبة اشور بانيبال مرورا بهولاكو وجراده الصحراوي وانتهاء باحفاده المعاصرين.