بين دستويفسكي و بورخيس

بين دستويفسكي و بورخيس

: ناديجدا مورافيوفا..
ترجمة:د. فالح الحمراني
عاش دستويفسكي (1821 ـ 1881) في القرن التاسع عشر، بينما عاصرنا بورخيس (1899 - 1986) لفترة طويلة. اتذكر كيف ناقش الجميع نبأ موته في 1986، واتذكر ان كلمة " الاديب العظيم" ترددت على الشفاه حينها برنة جنائزية وجليلة للغاية.

عاش دستويفسكي في ذلك الزمن السحيق بتوتر محموم،انتماؤه للحلقة الثورية والاعمال الشاقة، وانفعالات سجن الاعمال الشاقة والصرع، وعموما كل ما نعرفه عنه بدقة.
وعلى كل حال فان ادبنا المعاصر برمته، كما ارى، توقف بالذات بين بورخيس ودستويفسكي، نظرا لان احدهما قريب من الفنتازيا الجافة، اللعب بالكريات الزجاجية والادب، اللعب مع القراء والبحاثة، النظر من الجنب ومن بعيد، والثاني " البطل الهادئ". او بالذات " الدافئ" ـ ليكن النذل والمهرج، سفيدريجايلوف، الذي يغري الفتيات " بحرارة الدعاية"، ليكن الاب كارامازوف او ايجالاي يبانتشينا* ـ ليكن! انهم بشر، وما عدا ذلك غير ذي بال، انهم يشبهوننا.
ان غرابة مدرسة دستويفسكي تأتي من ان ريشتها تصف الناس البسطاء، والمعذبين والضعفاء، ترسمهم بشفقة وحتى برقة.ان مدرسة دستويفسكي لا يمكن ان تعلن موت القصة القصيرة او الرواية كشكل ادبي. وعموما فانها تبصق على الشكل الفني، لانها تكتب " عن الحياة". ان هؤلاء الابطال (الشخوص) ينامون، ويتناولون الطعام وتعط رائحتهم، ويمرضون. ان الشفقة عليهم تستيقظ دائما، سونيا ميرميلادوف تبعث على الأسى، وراسكولنيكوف يبعث على الأسى، انهم " تعساء". ان الانسان الروسي والقراء يحبون التعساء، ويصفون السجين " بالتعيس" بغض النظر عما ارتكبه ـ المهم انه الآن يعاني، انه الان تعس. بيد ان الامر مع بورخيس ومدرسته يبدو بهيجا الى ابعد حد. ان خورخه لويس سطحي للغاية. فهو لم يشعر بالابطال ولم يتعاطف معهم. انه يصفهم مثل دمى مثيرة.وكان يقول:" الاخرون يفتخرون بكل عمل يكتبونه اما انا بكل عمل أقرأه".وليس في هذا ما يثير الاستغراب: ببساطة ان خورخية لويس كوّن مكتبة بذهنه.ان هذه صورته الرئيسية والمحببة وعند مناقشته للاحلام يقول: احلام كيفبدو تذكر باعمال انسان لم ير الاحلام ابدا"... ويجوز لنا القول باعادة صياغة هذا القول، ان اعمال بورخس ـ هي ايضا بمثابة احلام انسان، لم ير الاحلام عن نفسه وعن البشر الآخرين.
ابطاله غير متماسكين، والنصوص ذاتها مكتوبة بجفاء، حقا بلغة حالمة جافة. وهناك خيال (فنتازيا) من دون نهاية، ولكن، في الحقيقة ليس ثمة ابطال ـ انهم اقنعة، متنكرون، تشبه امتلاء بلا روح. ويصفهم الكاتب بطريقة يتدفق بها الخيال مثل طير اسطوري، ونحن القراء نعرف بدقة هذه المرة الجواب: ان الكاتب اختلق هذا الطائر الكاتب ومرة اخرى الكاتب.
ولا يمكن حمل اية مشاعر تجاه الشخوص الورقية المختلقة، فكيف يمكن موساتهم اذا لم يكونوا بشرا؟ انهم لا يعيشون في شقة مجاورة او في طابق اعلى، انهم لا يغرقونك بالماء، ولا يتناولون معك كاس بيرة في صباح يوم أحد عند المخزن، انهم ورقيون، ويجوز ان تعمل معهم اي شيء، ولكن لا تأسف من اجلهم. ومثلهم ايضا ابطال روايات ساروكن وابطال رويا بيليفين المتأخرة*. وهذا الى حد كبير عالم اومبيرتو ايكو.
ان هذين طريقان مختلفان تماما، ويسيرون بالشر في اتجاهات مختلفة. بيد ان الخيار: عند الكاتب، دائما موجود في هذه الحالة. اما القارئ فانه يمضي خلف من إنتَخَب الى حيث يقوده. اللعب او الاسى. واما الرقابة او المشاركة، أوالشفقة.
* نادجيدا مورافيوفا ـ كاتبة متخصصة بالثقافة الاسبانية، ترجمت العديد من شعراء اسبانيا وامريكا اللاتينية للروسية. محررة في الملحق الثقافي" اكسليبرس" لصحيفة نيزافيسيمايا غازيتا.صدرت في العام اول رواية لها بعنوان (مايا) .

*عن ملحق صحيفة نيزافيسيمايا غازيتا الثقافي الاسبوعي " اكسليبرس" الصادر بتاريخ 20/3/1980.
*شخوص روايات دستويفسكي.
* فلاديمير ساروكين وفيكتور بيلفين من كتاب رواية ما بعد الحداثة الروس.