هنري ميللر:الكتب في حياتي

هنري ميللر:الكتب في حياتي

ترجمة: ياسين طه حافظ
المقدمة- 1
غاية هذا الكتاب، الذي قد يستغرق مجلدات في السنوات القادمة، هي أن أتتبع قصة حياتي. انه كتاب يقدم الكتب بوصفها خبرة أساسية موحية. هو ليست دراسة نقدية ولا يتضمن برنامجاً لتربية النفس. واحدة من نتائج اختبار النفس، هي ما يصل إليها الكتاب. انها الايمان الثابت بأن تكون قراءة المرء أقل واقل وليس اكثر واكثر.

وكما تكشف نظرة الى قائمة الكتب في نهاية الكتاب، فأنا باحث ليست له الحماسة للكتب، حماسة المثقف جداً. مع ذلك ومن دون شك، ما قرأته يظل اكثر مما قرأته لفائدتي. خمس الناس فقط هم قرّاء الكتب في امريكا. كما يقولون. وحتى هذا العدد الصغير يقرأون اكثر مما يلزم. نادراً ما يعيشون حياتهم بحكمة و امتلاء.

هنالك دائماً كتب ثورية مغيرّة، كما يعبّرون. هي كتب موحاة وموحيه. وهي كتب قليلة ومتباعدة طبعاً. يكون الانسان محظوظاً إذا حظي بعدد قليل من هذه الكتب في حياته. علماًبان هذه الكتب هي ليست تلك التي تغزو عموم الناس. انها الذخيرة المُخَبّأة التي تغذّي ناساً أقل موهبة لكنهم يعرفون كيف يميلون لانسان في الشارع. الحجم الكبير للادب في الشارع، هو من أوصل لي هذه الفكرة. المسألة التي لا تُحَلّ – يا للعجب! هي الى أي مدى سيكون هذا الكتاب فاعلاً ليستر الكمّ المنهال من العلف الرخيص؟ الشيء الوحيد الاكيد اليوم هو أن الأُميّ ليس هو الأقل ثقافةً بيننا.
ان كانت المعرفة او الحكمة هما ما نبحث عنه فالافضل ان نتجه مباشرة الى مصادرهما مباشرة. وهنا لايكون المصدر هو الدارس أو الفيلسوف ولا الاستاذ ولا القديس أو المعلم، بل هو الحياة نفسها. تجربة الحياة المباشرة.. الشيء نفسه بالنسبة للفن. هنا أيضاً يمكن ان نعفي "الاساتذة". حين اقول الحياة فأنا، للتأكيد، احمل في ذهني نوعاً آخر من الحياة غير التي نعرفها اليوم. احمل في ذهني نوع الحياة التي تحدث عنها د.هـ. لورنس في Estrucan Places أو تلك التي تحدث عنها هنري آدمز "حين حكمت العذراء عالم البراءة".
في هذا العصر الذي نعتقد فيه بان هناك منفذاً قصيراً الى كل شيء، يكون الدرس الاعظم الذي يجب تعلمه هو ان اصعب الطرق في السباق الطويل، هو الأسهل. كل ما قُدِّّمَ في كتب، كل تلك التي بدت حيوية جداً ومقنعة، انما هي بعض ضئيل مما بمقدور أي شخص ان يستفي منها. كل نطرياتنا في التربية تقوم على فكرة غامضة تقول اننا يجب ان نتعلم السباحة على الارض قبل النزول الى الماء. هذه الفكرة او النظرية تُطبّق على الفنون مثلما تطبق على المعرفة.
الناس ما يزالون يُعَلمَّون كيف يبدعوا من دراسة اعمال الآخرين. او ان يرسموا خططاً او تخطيطات لا لكي تتجسّد. يُعلّمون الكتابة في الصفوف المدرسية بدلاً من ان يُعلّموها في زحام الحياة. ما يزال الطلبة يُعْطَون نماذج يُفْتَرَض انها تلائم كلّ مزاج وكل ذكاء. فلاعجب إذن اننا ننتج مهندسين وخبراء صناعيين افضل مما ننتج حتى رسامين.
اعتبر مواجهاتي للكتب شبيهة بمواجهاتي لظواهر الحياة الأخرى أو للفكر.
كل المواجهات مختلطة الأشكال وليست منفصلة. بهذا المعنى، وهذا المعنى فقط، تكون الكتب بعضاً من الحياة كما هي الأشجار والنجوم أو الروث! ليس لي خلاف مع الكتب لذاتها كما اني لا أضع المؤلفين في أي مرتبة أخرى متميزة. هم مثل بقية البشر، لا أفضل ولا أسوأ. أنهم يستثمرون القوى التي وُهِبوا مثل أي نمط آخر من البشر.
وإذا دافعت عنهم الآن ومن بعد، بوصفهم طبقة- فلأنهم لم يحققوا المكانة والتقدير اللذين يستحقونهما. العظماء منهم غالباً أكباش فداء.
فلأنظر الى نفسي وقد كنت قارئاً احب رؤية انسان يشق طريقه خلال غابة، ولم يكن هدفي العيش في غابة- انما للخروج منها! قناعتي الثابتة بألاّ ضرورة للعيش في غابة الكتب هذه. الحياة غابة كافية. غابة حقيقية جداً ومتنوّرة جداً، وهذا اقل ما يقال فيها. ولكنك قد تسأل: ألا يمكن أن تكون الكتب عوناً، تكون دليلاً لشقّ طريقنا خلال الادغال؟ قال نابليون "لا تبتعدوا كثيراً حتى تعرفوا الى اين"
"Nira pas lion celui qui sait dlavance ou it veut allen
غاية هذا العمل الأولى هو ايجاد ملاذ حيث الحاجة الى الملاذ. ومهمتي، اعلم سلفاً مستحيلة التحقيق لكنني انزل على ركبتي لأشكر كل عشبة وان ارفع رأسها. ما يستهويني في هذا العمل اللامجدي هو حقيقة اننا عموماً نعرف القليل جداً عن المؤثرات التي تشكل حياة الكاتب وعمله. الناقد في أفكاره المتباهية وصولجانه يحرِف الصورة الحقيقية الى ما وراء أي ادراك. والمؤلف مهما رأى نفسه صادقاً، فهو لا مناص قد اعطى الصورة غير شكلها. هي تأتي منه متنِكرّة. والسيكولوجي ببعده الواحد في النظر الى الاشياء، لا يقول اكثر مما يعمّق الغموض. وأنا، مؤلِفّاَ، لا ارى نفسي استثناءً من القاعدة. انا أيضاً أأثمُ في التغيير والتحريف. وفي تغيير مظهر الحقائق- إن كانت هناك "حقائق". لقد انتهى جهد الوعي بالنسبة لي إلى خطأ في الجانب الآخر. بينما أنا في جانب الالهام إذا لم اكن دائما في جانب الجمال، الحقيقة، الحكمة، الانسجام والكمال. بهذه أكون دائم التطور.
في عملي هذا اقدم قائمة بيانات طازجة لكي تُحلَّل وتُحاكمَ أو تُقْبَل ويتَمتّع بها لاجل المتعة حسب. طبيعي انا لا أستطيع الكتابة عن جميع الكتب التي قرأت ولا حتى عن كل المُقنع منها. ولكنني قررت المضي في الكتابة عن الكتب والمؤلفين وأهميتهم لي في هذا الميدان. ولأستفيد من هذا الواجب اللاشكر وراءه، واجب إدراج كل الكتب التي اتذكر ان قراءتها منحتني بهجة ورضى. لا اعرف مؤلفاً مجنوناً حدَّ ان يحاول مثل هذا. لعل قائمتي ستعطيني المزيد من الفوضى – لكن غرضها ليس ذلك. فاولئك الذين يعرفون كيف يقرأون الانسان يعرفون كيف يقرؤن كتبه. لذلك فالكتب تتحدث عن نفسها.
في الكتابة عن Aomralisme لكَويته (جوته)، فان جولي دي جوتير يستشهد بنص منه يعني: ان في لب هذا الكتاب يوجد حنين اصيل الى الماضي وهو ليس حنيناً للماضي نفسه، كما يبدو احياناً، ولا هو حنين الى المتعذر استرداده. انه حنين الى لحظات عِيشَتْ كاملةً والى أقصاها. هذه اللحظات تظهر أحياناً خلال التماس مع الكتب، احياناً خلال التماس مع الرجال والنساء الذين أراهم كتباً حيّة". احياناً يكون حنيناً لرفقة اولئك الصبيان الذين ترعرعت معهم والذين صارت الكتب من بعد اقوى رباط بيننا.
وهنا يجب الاقرار بان هذه الذكريات، مهما كانت مشرقة ومثيرة ليست بشيء مهم أهمية الايام التي امضيت في صحبة تلك الاطياف المكسوة باللحم، اولئك الاولاد- ما يزالون بالنسبة لي اولاداً! لقد غابوا باسمائهم الفانية: جوني باول، ادين كارني، ليستر ريردون، جون وجيمي دون.. اولئك الذين لم أرَ واحداً منهم يحمل كتاباً او يميل لكتاب.. غاية الامر، وسواء قالها كَويته أو كولتير، فانا ايضا اؤمن ايمانا أكيداً بان الحنين الحقيقي دائماً ما يكون منتجاً ويؤدي الى ابداعِ اشياء جديدة وافضل. فلو كان مجرد استعادة الماضي، سواء بشكل كتب، اشخاص، احداث.. سيكون عندئذ عملي عبثاً وغير ذي جدوى. سيكون بارداً وميتاً، كما قد يبدو الآن. هو عندئذ قائمة عنوانات تُعطى آخر الكتاب. قد تبدو هذه لبعض الارواح الرقيقة المفتاح الذي يفتحون به ليلتقوا باللحظات الحيّة، بالمتعة والبهجة التي خلفوهما في الماضي..

- 2-
واحد من اسباب كراهتي لكتابة المقدمات هو انها دائماً ثقيلة على القارئ، وأحد اسباب اعادة كتابتي لها للمرة الخامسة، وأملي ان تكون الأخيرة، هو خوفي من ان حدثاً ليس في البال يخيبني فيها بعد ان تكتمل. هذا الكتاب سيكمل وانا ماضٍ لأكتب الثالث والاخير "الصَلْبُ الوردي" The Rosy Crucifixion وهو أصعب عمل كلفّتُ به نفسي وقد تجنبته سنوات عديدة. لذلك أود، مادام الوقت يسمح بان اعطي لمحة عن بعض ما خططتُ له او أمّلتُ بالكتابة عنه في المؤلفات القادمة.
طبعاً كانت في ذهني خطة مَرِنة حين بدأت هذا العمل، وخلافاً للبنّاء، يقدّم المؤلِّف تصاميمَهُ في تصاعد عمله. الكِتاب بالنسبة للكاتب شيء يعيش خلاله، هو تجربة وليس خطة عمل تُنَفَّّذ حسب القوانين والمواصفات. على أية حال، بقي ظل من خطتي الاصل وقد نما رقيقاً ومعقداً مثل بيت العنكبوت. فقط حين اقتربت من نهاية الكتاب، أدركت كم كنت أرغب في القول، ولَم كان عليَّ ان اقول، عن مؤلفين معينين، موضوعات معينة لامست بعضها، وبغض النظر عن كم مرة ذكرتهم، فأنا لم أقل أبداً، وربما لن اقول، كل الذي اردت قوله عن "إلي فَور" Elie Faur ولا أنا اشبعت موضوع بلَيس سندراس Blaise Cendras، احد العمالقة المعاصرين الذي لم أبدأ حتى في الاقتراب منه. بالنسبة الى رايدر هاجارد Rider Haggard، فسيكون لدّي الكثير لأقوله عنه، بخاصة عن عمله Ayesha هو تكملة "هي" She.. وحين يصل الكلام الى أمرسون، دوستويفسكي، مترلنك، كونت هانسم، ج. أ. هنري، فأنا اعلم باني لن اقول كلمتي الاخيرة عنهم. عمل مثل "المحقق الكبير" The Grand Inquisitor، أو "الزوج الابدي" The Eternal Husband عمل دوستويفسكي المفضل عندي. ربما حين جئت لبدرائيف ولذلك القطيع المشرد من الكتاب الروس في القرن التاسع عشر، اولئك الرجال ذوي النزعة الاخروية فسأظل ادور لاقول عنهم شيئاً بقيت اريد قوله منذ عشرين سنة أو اكثر. ثم هنالك المركيز "دي ساد" احد اكثر المُفترى عليهم في الادب كله والمُساءُ فهمهم بقصد وبغير قصد. هو وقت لأُحبَّهُ! وانا عائد منه وقد غطته الظلال، يقف شخصُ "جيلي ذي رايس"، Gills De Rais، احد الشخصيات الاكثر مجداً وفسوقا وغموضاً في كل التاريخ الاوربي. في رسالة الى بيير ليزداين Pierre Lesdain، قلت اني لم أتلق حتى الآن كتاباً جيداً عن جيلي دي رايس، وفي اثناء ذلك وصلني من صديقه في باريس كتاب عنه، وقد قرأته. وكان الكتاب نفسه الذي كنت ابحث عنه- اسم الكتاب: "جيلي رايس وزمنه" لجورج ميونر.
هنا بضعة كتب اخرى ومؤلفون اعتزم الكتابة عنها وعنهم في المستقبل. منهم اولا، "الجرنون بلاك وود" مؤلف "الرسول المشرق" The Bright Messenger وهي في رأيي اكثر الروايات غرابة في التحليل النفسي. و "الطريق الى روما" The Path to Rome لـ هيلاير بيلوك، حب حقيقي مبكر دائماً اعيد قراءة صفحاته الاولى. الثناء على هذا الكتاب، أقرؤه وارقص فرحاً. ماري كوريل، معاصرة رايدر هاجارد، بيتس، تنيسول، اوسكار وايلد كوريل قالت في رسالة الى راعي كينسة في ستراتفورد اون افون: " مع تقديري للكتاب المقدس لا اظن ان هناك امرأة قرأته بعمق وورع." وبالتأكيد سأكتب عن رينيه كايل Rene Caile اول رجل ابيض يدخل تيمبوكتو ويخرج حياً في مالي/ النيجر (التي كانت في طريق القوافل وسوقاً للعبيد في القرن 11 ومركزاً للدراسات الاسلامية في القرن 14 احتلها الفرنسيون في القرن 18- المترجم).
قصته كما رواها جلبرت ويلش في "تيمبوكتو بلا قناع" تبدو في رأيي اعظم مغامرة في أزمنتنا الحديثة. وكذا نوسترا داموس، جنكولارفن، باول برنتون بيجي و عمل اوسينسنكي "بحثاً عن المعجزات" ورسائل من مهاتما" وكتاب فيخنر Fechner "الحياة بعد الموت" و "روايات ميتافيزيقية" لكلود هوفتون و "اعداء الوعد" Enemies of Promise وهو كتاب آخر عن الكتب و لغة الليل، كما اسماها يوجن جولاس وكتاب دونالدكيهو عن "الاطباق الطائرة" و"الملذات وكشف النفس بوساطة الارواح" و"اهمية الهواء" و"القيامة وصعود المسيح". وبين اشياء اخرى كتاب اخير لكارلو سواريز، نفسه الذي كتب عن كريشنا مورتي تحت عنوان اسطورة جوديو شرتين. وسوف، لِمَ لا، كما اعتاد بيكاسو ان يقول، أُسهبُ في موضوع الادب الفاحش والادب المكشوف. والحقيقة اني كتبت بضع صفحات عن هذا الموضوع ساحتفظ بها للمجلد الثاني. في هذه الاثناء اراني بحاجة جدا الى بيانات معتمدة. اود ان اعرف، مثلا، ما هي كتب الادب المكشوف العظيمة في هذا الزمان كله؟ (اعرف ولكن القليل جدا منها). ومن هم الكتاب الذين ما يزالون يُعْتَبرون "فاحشين"؟ كم سعة انتشار كتبهم واين تنتشر اكثر وفي أي اللغات؟ استطيع تذكر ثلاثة كتاب فقط ما تزال كتبهم ممنوعة في انكلترا وامريكا، بعض من كتبهم لا كلها. واعني المركيز دي ساد اكثر كتبه اثارة ما يزال ممنوعا في فرنسا. وارتينو Aretino و د. هـ. لورنس. ماذا عن "رستيف" لـ بروتون الذي اعتبره امريكياً؟ وجي ريفزجايلد الذي كدس مجلدات هائلة من "بيانات المحاكم" وماذا عن اول رواية اباحية في اللغة الانجليزية "مذكرات فاني هل" Memoire of Fanny Hill لماذا ان كانت قاتمة لم تصبح في وقتنا كلاسيكية؟ انها ماتزال تُحرّر وتُباع في مخازن المخدرات ومحطات القطار والاماكن البذيئة الاخرى. ليس غير مائتي سنة منذ صدورها، لم تنقح طبعاتها كما يعرف ذلك جيدا كل سائح امريكي في باريس.
متطلعّ، ولكني من كل الكتب التي ابحث عنها وانا في غمرة هذا الكتاب، هنالك اثنان لا اريد ان اغفلهما.
The Thirteen Crucified Soviours "المخلصون، المصلوبون الثلاثة عشر" للسير جوفري هجنز مؤلف Anacalypsis ومفاتيح سفر الرؤيا Clefs De Apocalypse للشاعر البولندي او. في. ميلوش الذي مات قبل سنوات في فونتانيو. لم اتسلم بعد كتاباً جيداً عن "صليبيات الاطفال".
هناك ثلاث مجلات ساذكرها في الحديث عن المجلات الجيدة: جودند Judend العدو The Enemy التي يحررها الروح اللامع ويندام لويس و"القناع" The Mask لجوردون كريج Gorden Craig –. كانت لي زيارة الى بج سور Big Sur، فألتقيت لورنس كلارك باول هذه الشخصية التي تعرف عن الكتب ما لايعرفه أي شخص آخر.
ما التقيت به من قبل. في هذا اللقاء اقترح ان أؤلف له (ان لم يكن لشخص آخر) كتاباً صغيرا عن تجربتي مع الكتب. بعد اشهر، نمَتْ هذه البذره. وبعد كتابتي حوالي خمسين صفحة ادركت اني لا استطيع تضمين الكتابة محتوى رصيناً لهذا الموضوع. باول عرف ذلك بلا شك وأحتفظ بما عرف لنفسه. انا مدين الى باول كثيرا بشيء واحد، وهو شيء كبير بالنسبة لي، لانه كان يتقصد تصويب التظاهر او الموقف الزائف. انا مدين له بقدرتي الحالية لأُظهِرَ كم هم انسانيون موظفو المكتبات. هم كائنات انسانية ذوو حياة وخصب وقادرون على استحضار القوى الدنيامية في عقولنا. ما هو اكيد لي الاّ مسؤول مكتبة يمكن ان يكون اكثر حماسة منه في جعل الكتب بعضا حيّاً من حياتنا. لكن لا توجد هكذا كتب، في الوقت الحاضر...

– 3 -
كما اني لم التقِ بمكتبيّ، اعطاني مساعدة مباشرة وعظيمة اكثر من لورنس كلارك باول. فما سألته سؤالاً إلا وأجاب. لا سؤال له من دون جواب كامل وتفصيلي عنه. وما ردَّ لي يوماً رجاءً أو طلباً- فإذا فشل هذا الكتاب واخفقت فيه، فليس ذلك خطأََه...
هنا يجب أن أُضيف بضع كلمات عن افرادٍ قدموا العون بطريقة أو باخرى. الاول والاكثر "دانتى زاكاجونيني" من بورت جستر، في نيويورك. أنتَ يا دانتي، الذي لم التق به يوماً، كيف اعبرّ لك عن امتناني العميق لكل الاعمال الشاقة التي انجزتها وبرغبة محضٍ منك بالنيابة عني! أخجل حين افكر كم كانت بعض الاعمال ثقيلة. فضلاً عن ذلك كنت تصرّ على تقديم الهدايا، من كتبك الثمينة- فقد كنت تظن بانني في حاجة إليها أكثر منك! واية مقترحات مفيدة قدّمتَ واية تصويبات دقيقة. الكلمات تخذلني...
يجب ان يُفهْم اني حين بدأت هذه المهمة، شعرت ان عليّ استعارة او امتلاك بضع مئات من الكتب. ولأني لا املك نقوداً فقد أعددت قائمة بعنوناتها ووزعتها على اصدقائي ومعارفي و بين قرّائي. الرجال والنساء الذين ذكرت اسماءهم بدء هذا الكتاب أمدّوني باحتياجاتي. العديد من اولاء كانوا قرّاءً بسطاء تعرفت عليهم من خلال مراسلتهم. "الاصدقاء" الذين كان الأمل بانهم الاكثر استجابة لتقديم الكتب التي انا شديد الاحتياج لها، اخفقوا في ان يكونوا مع هؤلاء.. تجربة مثل هذه دائماً ما تكون مضيئة. الاصدقاء المخيّبون دائماً يُعَوَّضون بآخرين جدد يحضرون في ساعة الحرج ومن جهات غير مُتَوَقَّعَة.. واحدة من مكافآت المؤلف على جهوده هي اكتسابه القاريءَ صديقاً شخصياً. واحدى المباهج التي يلتذّ بها هي ان يتلقّى هدية يريدها تأتيه من قاريء مجهول. كل كاتب، كما أرى، له مئات وربما آلاف مثل هؤلاء الاصدقاء المجهولين من قرائه. لاشك بان هناك مؤلفين حاجتهم قليلة لقرائهم الا كونهم مشترين لكتبهم. حالتي مختلفة. انا بحاجة لكل واحدة. أنا مُستعير ومُعير. أستفيد من أيٍّ ومن كل الذين يقدمون عونهم. أخجل من ألاّ اتقبل عروضهم. آخرها كان من تلميذ في "ييل" هو دونالد أ. فقد كتبت الى البروفيسور هنري بيير في القسم الفرنسي رسالة أبديت فيها حاجتي لعون في نَسْخِ عمل. دونالد الشاب قرأ رسالتي وفي الحال عرض خدماته (تحية لك باشكون!).
تبعه الظهور المفاجيء لـ "جون كيديس من سكرامتنو" فقد وصلني طلب صورة موقعة مني. هذه الصورة قادت الى تبادل قصير للرسائل تبعتها زيارة ثم انهيال الهدايا. جون كيديس (في الاصل مستا كيديس) يوناني، مما يفسّر الكثير لكن لايفسّر كل شيء. لا ادري ان كان احد آخر مثله، يأتي وملء ذراعيه كتب (بعضها صعبٌ العثور عليه) ويكوّمها على مكتبي، ثم السيل الذي لا ينقطع من هداياه: ملابس داخليه، جوارب من صوف خالص ونايلون حاكتها أمه، سراويل، قبّعات وأشياء اخرى من الثياب يختارها من هنا وهناك، ومعجنّات يونانية (اية حلوى لذيذة!) هيّأتها جدّته أو عمته، صفائح من الـ Halva (لحم مع السمسم والعسل تركي)، - المترجم)، اكواب كبيرة من الـ Rezina، لعب للاطفال، مواد كتابة (ورق وظروف رسائل مختلفة الحجوم، بطاقات بريدية مطبوع عليها اسمي وعنواني، ورق كاربون، اقلام رصاص، نشافات حبر، مذكرات تبليغ، اعلانات، مناشف تعميد (والده قس)، بندق من اصناف مختلفة، تين طازج، برتقال، تفاح وحتى رمان (كلها من مزرعة الدين). ولا أقول شيئاً عن الطباعة التي قام بها من أجلي، طباعته لكتابي "مياه متألقّة"، الالوان المائية التي اشتراها والاصباغ التي امدّني بها، قيامه برحلات لايصال مواد اريد ايصالها، الكتب التي باعها لي (ورميه لسلعٍ قديمة من بيته ليختزن اشياء فائضة لي، وليجعل بيته بيت هنري ميللر). والاطارات التي اشتراها لي، الموسيقى التي قصد الى شرائها (تسجيلات، نوتات، ألبومات) وهكذا ما لانهاية له. كيف يقابل الانسان كرماً كهذا؟ كيف يردّه؟
هكذا مضت الامور دونما كلام. سًُأقابل بالترحاب ما يبديه قراء هذا الكتاب من خطأ، سهوٍ، تفلسف، أو سوء حكم. أنا على بيّنة تماماً ان كتابي، لانه عن الكتب، سيصل الى الكثيرين ممن لم يقرؤني من قبل. آمل بانهم سينشرون الكَلِمَ الطيب لا عن هذا الكتاب ولكن عن الكتب التي أحبوها.
عالمنا ينحسر وعالم آخر جديد يتكشف، فان اردنا ازدهار الآتي، فلنستقر على افعالٍ وعلى ايمان. فالكلمة ستحول جسداً.
بيننا القليلون اليوم لهم القدرة على رؤية المستقبل القريب من غير خوف ومن دون توقع السوء. فإن كان في أي من الكتب التي قرأتها أخيراً ما استطيع القول انه يحتوي على كلمات راحة، سلام، وحياة، وسمو، فهو كتاب هنري آدام Mont Saint Micvhel و Chatters، بخاصة تلك الفصول التي تتحدث عن مريم العذراء. كل مرجع عن "الملكة" يمجّدها ويُعليها، دعني استشهد بقطعة من ص 194 والتي جاءت متكاملة ضمن المتن:

"هناك هي، حقيقة – لا أرض ولا
خيال، ولكن شخص – تنحدر مرتحلة"
لتوصل الرحمة ولتصلي لكل واحد منا،
كما هي تؤكد معجزاتها. بحضورها
ترُتَضى صلواتنا. ذلك الحضور الذي
يهديءَ انفعالاتنا مثلما أمّ تمنح طفلها
الهدوء. هي هناك مثل مَلَكة، لا رقيب
حسب، وقوتُها تبعد الاختلاف
بيننا، نحن الكائنات الارضية. بيير موكليه
وفليب هوريل ورجالهما المسلحون يخشونها،
والمطران نفسه لا تهدأ له حال بحضورها
ولكن لايخشاها الفلاحون والشحاذ ولا
الذين في محنة..."
هذا الاحساس بقوتها والسكينة بحضورها خير من الاشفاق الحي. الناس الذين يعانون ولا يتمكنون من التعبير واشكالاته، والمسحوقون صمتاً وراء آلامهم- لا يحتاجون الى عواطف ولا نزق قلب ولا بكاء تحت الصليب ولا هيامات ولا تعابير! هم يريدون ان يروا الله ويطمئنوا انه يراقب ناسه.
هنالك كتّاب من امثال هذا الرجل، يُغنوننا في كل زمان، آخرون يُفقِروننا. مهما يكن يظل في كل الازمنة شيء يسري وفي كل وقت، سواء كنا نُثرَى أو نُفْقَر. فنحن الذين نكتب، نحن المؤلفين، نحن رجال الأدب، نحن المُخربشين، يسْندنا، يحمينا، يُعيلنا، يغنينا ويمنحنا حشدٌ من أفرادٍ مجهولين – رجال ونساء يراقبون ويصلون، هذا ما يُقال، لكي نستطيع كشف الحقيقة التي في دواخلنا. كم واسعٌ هذا الكم؟ لا احد يعرف. ولا فنان واحد وصل الى كل المدى النابض للانسانية. نحن نسبح في النهر، نشرب من النبع، فكم مرة نشرب لنرتوي وكم عميقة هي معرفتنا نحن الذين نكتب عن الحاجة المشتركة؟ أن نؤلف كتُباً يعني ان نختزن ما نأخذه من خزين الحياه، من الاخوات والاخوان والمجهولين، فلنمتلك اذن المزيد المزيد من الكتب!"
في المجلد الثاني من هذا العمل، سأكتب، بين اشياء اخرى، عن الاباحية والفسق، عن كتاب جيلي دي رايس وهاجارد. Ayesha, Marie Corell.
وكتاب دوستويفسكي "المحقق الكبير" Grand Inquisitor وكتاب سيلاتي ومترلنك وبرادئيف وكلود هوتون ومالابارت. قائمة المراجع لكل المؤلفين وكتبهم التي وردت في كتبي السابقة، ستكون حاضرة في المجلد الثاني.