جان ماري موللر يكتب عن      غاندي  وحكمة اللاعنف

جان ماري موللر يكتب عن غاندي وحكمة اللاعنف

يحيى الأوسي
في ظل كل هذا العنف الذي يلف حياتنا ويضرب في عمق ذواتنا، يبدو الكلام عن اللاعنف ضرباً من السير عكس كل ما هو سائد، فرائحة العنف تملأ أماكننا.. نفوسنا.. لغتنا وترفض أن تخلي مكانها لتلك اللغة التي قال عنها جان ماري موللر الفيلسوف الفرنسي ومناضل اللاعنف بأنها اللغة العالمية التي حلم بها غاندي كي تكون لغةً لحوار الثقافات.

جان ماري موللر وكما جاء في كتابه الأخير قاموس اللاعنف الصادر عن دار معابر بات مرجعاً عالمياً في نشر ثقافة اللاعنف، وهو من مؤسسي حركة "من أجل خيار لا عنفي". جاب العالم متفاعلاً ومناصراً لأبرز المجموعات اللاعنفية وأحياناً مشاركاً ميدانياً فيها. وقد حط به الرحال مؤخراً وبدعوة من دار معابر ضيفاً محاضراً حول اللاعنف في المركز الثقافي الفرنسي.
يقول جان ماري موللر في بداية محاضرته: ستون عاماً مرت على الرحيل المأساوي لغاندي و أربعون على رحيل مارتن لوثر كينغ بوصفهما الوجهين البارزين في مسيرة اللاعنف، إلا أننا لا نزال بعيدين اليوم عن تمثل رسالة اللاعنف، فالعنف لا يزال منتشراً، وما قاله جواهر لال نهرو رفيق غاندي يوم رحيله هو خير تعبير عما نحن فيه اليوم "لقد انطفأ نور حياتنا، وفي كل مكان ليس إلا الظلام.. حبيبنا الغالي و أبو أمتنا غاب.. النور انطفأ ".
غاندي أفضل الوسطاء
أية صورة نحملها لغاندي؟ يتساءل جان ماري موللر. حقاً لقد كان هذا الرجل أفضل الوسطاء بين الشرق والغرب، لقد كان هذا الرجل في أفضل موقع لإدارة حوار الحضارات، وجاءت حياته و موته كي تخدم الكرامة الإنسانية وحرية البشر. لقد أراد أن يصل بنا إلى البعد العالمي الإنساني عبر التوصل إلى لغة عالمية لحوار الثقافات ولا بد اليوم من مواصلة البحث عن تلك اللغة العالمية التي حلم بها غاندي لتكون لغة لحوار الثقافات.
غاندي لم يقل يوماً أنه ابتكر اللاعنف لأنه متجذر في أقدم المنقولات الدينية والفلسفية التي كونت الإرث الإنساني ولكن على الرغم من ذلك يمكن لنا أن نقول أن هناك قبل غاندي وبعد غاندي في اللاعنف. وهنا يتوقف جان ماري موللر عند المعنى الفلسفي للعنف فيقول: الفلسفة ليست حكراً على أساتذة الفلسفة وحدهم، إنها ستراتيجية عمل وسياسة لحل النزاعات، والخطر الحقيقي الذي يتهددها هو أن الواقعية السياسية تفرض الإبتعاد عن الإقتضاء الأخلاقي والمعنوي ولطالما حضّنا غاندي على تحقيق المصالحة بين الحكمة والسياسة.
في تعريف اللاعنف
لغاندي نحو تسعين مجلداً في اللاعنف، لا يدعي جان ماري بأنه أكمل قراءتها جميعها، لأنه سيحتاج إلى حيوات متعددة كي يكمل قراءتها كما يقول. لكنه أورد لنا تعريفاً لّلاعنف يعتقد إنه الأكثر تعبيراً عنه وهو الغياب الكامل لسوء النية حيال كل ما هو حي. ويضيف: لقد كان اللاعنف مبدأ بالنسبة لغاندي وهو يعبر عن حقيقة البشر، في حين يدمر العنف حقيقة الإنسان، وحينما يعتقد بشري بأنه يمتلك الحقيقة فمن المؤكد أنه سيدافع عنها ضد الأشرار، وقد تسوّل له نفسه استخدام العنف للدفاع عن هذه الحقيقة وهنا مكمن الخطر. كذلك هناك من يقول أن هناك عنفا جيدا وعنفا سيئا وهذا ما يثير البلبلة، فنخاطر بأننا قد نسيء فهم بعضنا البعض وعلى هذا يجب أن يكون هناك صرامة فكرية في هذا حتى نميز بينهما.
خلق النزاع في حالة الظلم
قبل غاندي لم يكن هناك نزاع بين البريطانيين والهنود لأن العلاقة بين العبد والسيد هي حياة سلام طالما بقي العبد مستكيناً، لكن هذا السلام ينتهي عندما يبدأ العبد بالمطالبة بحقوقه وحريته. ولقد أوجد غاندي النزاع بين الهنود والبريطانيين عندما طالب بتحقيق المساواة وطالب بالحصول على إستقلال بلاده. إذاً يجب أن نقبل بوجود النزاع، وهنا لا يصبح اللاعنف رفضاً للنزاع ولا للنضال! لكن وجود الظلم يخل بتوازن القوى وعندها يصبح لابد من قوة تجابه قوة الظلم وعلينا التمييز بين القوة والعنف فهناك قوة لا عنيفة إنها قوة العمل اللاعنفي. وحسب غاندي فالعنف ليس حلاً للنزاع لأنه إقصاء وإزالة للآخر، لكنه إخلال بالنزاع و هو سيرورة قتل وموت.‏‏
شرعنة العنف
لا يمكن تبرير العنف أو شرعنته، فالإنسان هو حيوان شرعي يريد أن يكون دائماً على حق، والإنسان العنيف يسيطر ليبرر العنف، وليبني عقائد للعنف المشروع بنظره كالدفاع عن النفس وفكرة الآخر المعتدي. وهنا يمكن الحديث عن معنى كلمة اللا في اللاعنف على اعتبارها ترفض أي تبرير للعنف وتنزع أية شرعية عنه وتقطع الطريق على أية صلة بالعنف الذي هو جريمة ضد الإنسانية وليس حقاً من حقوق الإنسان فالسيطرة على هذه الآلية العمياء للعنف مستحيلة، لأن الضرورة لا تبيح الشرعية حتى وإن بدا شرعياً فهو ليس شرعياً.
بين خياري الجبن والعنف
أحيانا يصبح المرء بين خياري الجبن والعنف، فأيهما يختار؟ لقد قال غاندي عندما سئل عن موقفه بين الجبن والعنف أنه ينصح بالعنف لكنه أردف إن اللاعنف هو أفضل وأسمى بما لا يقارن عن العنف. فهو يتطلب شجاعة كبيرة. وهو عندما بدأ حملته بالعصيان المدني كتب إنذارا لنائب الملك البريطاني قال له فيه:
إذا لم تعترفوا باستقلال الهند سنبدأ بالمقاومة، وبدأ إنذاره هذا بكلمة صديقي العزيز وقد أغضبت هذه العبارة أصدقاءه لكنهم أدركوا أن غاندي كان يحترم شخصية الإنكليز لكنه لم يحترم استعمارهم لبلاده وإذلالهم للشعب الهندي.
لقد سار غاندي مشياً على الأقدام مئات الكيلو مترات واستنفر الفلاحين للعصيان المدني وهو ما أدى لا حقا إلى اعتقال غاندي وأعتقل معه الألاف من أبناء الشعب الهندي حتى فاضت السجون ثم أطلق سراحهم جميعاً.
العنف ليس قضاءً محتوماً
لقد رفض غاندي التسليم بفكرة أن العنف هو قضاء محتوم وإن كان يظهر لنا بأنه قضاء محتوم، ولأنه من صنع البشر فنحن قادرين على تفكيك هذا القضاء، عندها فقط نستطيع أن نقدم لأطفالنا حق الحلم بعالم تملؤه الحرية والكرامة. حقاً إن اللاعنف يدعونا لتقويض جدران العنف والكراهية كي نبني مكانها جسوراً.