«شكسبير» في جحيم «كوروساوا»

«شكسبير» في جحيم «كوروساوا»

عبد السادة جبار
حرمنا ولزمن طويل من مشاهدة الأعمال السينمائية الرائعة التي قدمها جهابذة السينما العالمية لجمهور هذا الفن الواسع، وكان يؤلمنا أن نقرأ عن تلك الأفلام ونتشوق لمشاهدتها ولكن زمن الحروب أبعد عنا تلك المتعة، وبعد تطور تكنلوجيا المرئيات عبر الفيديو تيب في الثمانينيات والأقراص الليزرية

فيما بعد توفرت لنا وسيلة للحصول على بعض تلك الأعمال التي كنا نحلم بمشاهدتها على الرغم من صعوبة البحث والتنقيب للعثور عليها وسط ركام المرئيات الاستهلاكية المسجلة في تلك التكنلوجيا والتي وجدت انتشاراً واسعاً في البلاد وخصوصا بعد التغيير، إلا أن تكنلوجيا الانترنت اختصرت تلك المشكلة لتسهل علينا الكثير ولكن الأمر لم يعالج بشكل جذري، اذ مازلنا نعاني من معضلة مشاهدة أفلام سينمائية في شاشة تلفازية، اذ انقرضت صالات العرض السينمائي في العراق ونسي الناس الشاشة البيضاء وفقدنا المشاهدة بتحسس جماليات السينما عبر الحجم الحقيقي للعرض السينمائي، ولهذا فإننا نستطيع أن نقول ان مواليد التسعينيات لا يعرفون فن السينما مثلما لا يعرفون الى حد ما فن المسرح إلا عبر الشاشة الصغيرة، وفي الواقع لم تكتمل متعة مشاهدتي للفيلم الخرافة «ران» للمخرج الاسطوري الياباني «اكيرا كوروساوا» إلا بعد مشاهدته عبر جهاز الـ (الداتا شو) والذي ساعدني في تكبير حجم العرض من القرص الليزري الى الحجم السينمائي الى حد ما، والاستعانة أيضاً بمكبرات صوت جيدة لاكمال متعة المشاهدة، في الواقع سيبقى المشاهد العراقي محروماً من متعة متابعة الفن السينمائي بمناخه الحقيقي قياساً بغيره في أي بلد آخر، والأمر ينطبـق بشكـل أكثـر قسوة إلى حد ما على دارسي السينمـا وعلـى الاختصاصيين مما سيؤثر حتماً علـى تطور النقد السينمائي فـي العـراق.
كوروساوا ينتحر
السينما أكثر تحرراً من المسرح في تجسيد المعنى على الرغم من كونها لا يمكن أن ترقى إلى فكرة الحضور في العرض الحي والتبادل السيكولوجي المباشر بين المشاهد والمجسد، كما ان المسرح يعالج المكان باختزال في الديكور والانارة ليصنع مناخاً يبتعد نوعاً ما عن الواقعية ليدخل الحلم المسرحي والمتخيل عبر العرض، في السينما قدمت نسخة بيتر بروك «الملك لير» عام 1971 ونسخة السوفياتي غريغوري كوزنتسيف في العنوان نفسه وفي العام نفسه، لكن الهاجس المسرحي بقي مسيطراً بوضوح خاصة في نسخة بروك البريطانية في حين صمم كوزنتسيف خلفية مختلفة لا تتوافق مع التراجيديا الأصلية، بل لون الاقتباس الروسي وما يحتويه من محاولات مجهرية أبحر فيها نفسه لتعميق المشاعر الانسانية وجدها البعض مختلفة عن تلك التي كتبها ويليام شكسبير.» كوروساوا « كان مختلفاً وقدم عملاً أكثر تراجيديا وانسانية، لم يشتغل على المسرحية بل قدم عملاً متوافقاً نوعاً ما معها، بدأ كوروساوا بمنتصف السبعينيات بالقراءة عن عصر ياباني قديم، فوقع على سيرة مثيرة لسيد اقطاعي محارب يدعى موتوناري موري، كان لديه من الأبناء ثلاثة قام بتوزيع الأراضي التي استولى عليها ما بين هؤلاء الأبناء الثلاثة، وأخذ الخوف يستبد به فيما لو كان هؤلاء الابناء عاقين أو سيئين. الفكرة لم تكن تجسيداً كاملاً لمسرحية شكسبير الملك لير بل بمنزلة اقتباس، أنتج فيلم «ران « وترجمتها من الياباني «تمرد» عام 1985بعد ان يأس من تمويل الفيلم من اليابان فاضطر الى أن يستعين بتمويل خارجي فساعدت شركة فرنسية على انتاجه، وكوروساوا تعرض الى أزمة كادت تؤدي بحياته اذ لم يجد تمويلاً لأفلامه وأفلست شركته التي أسسها مع بعض المخرجين اليابانيين فأقدم على الانتحار لكنه نجا من هذه الأزمة ليجد في تصرفه 12مليون دولار لإنتاج فيلمه حيث عدّ هذا المبلغ ميزانية كبيرة جداً خارج هوليود، ولكنه أيضاً تعرض لأزمة أخرى اذ توفيت زوجته أثناء تصوير الفيلم، وفيلم ران يعدّ العاشر في أفلام كوروساوا الضخمة والمميزة، وقد عرفنا له درسوزولا، والسموراي السبعة، وكاكيموشا – ظل المحارب..وغيرها، لكن ران مختلف الى حد كبير، الميزانية أتاحت لكوروساوا أن يصرف ببذخ اذ جهز 1400 زي ورداء بدروع حربية، مما جعل جائزة الأوسكار تذهب بذلك العام إلى مصممة الأزياء إيمي وادا. فيما نافس العمل على جوائز أفضل تصوير وأفضل تصميم ديكور وترشح كوروساوا نفسه الى جائزة أفضل اخراج، تعامل كوروساوا مع هذه الملحمة بتجسيد صور ذات ألوان غزيرة وصادمة يستحق الحديث عنها طويلاً وباسهاب عبر دراسة اختصاصية منفصلة، ودراسة الجانب النفسي ومعالجته للحدث ومدى ارتباطها مع الشخصيات. استعمل المخرج تركيبات صوتية على جانب كبير من التوافق بين الصمت والموسيقى والأصوات البشرية والطبيعة كأصوات العواصف وهبوب الرياح العاتية وغيرها. لجأ كوروساوا إلى أسلوب تقطيع المشاهد السريع وهو شيء طبيعي نظراً للطبيعة الملحمية والحربية للفيلم واستعمال زوايا ثلاثية للقطة نفسها وهو ما يمتاز به كوروساوا دائماً، ويبقى هذا الفيلم الملحمي آخر أعمال أكيرا كوروساوا الكبيرة والملحمية والتي لن تمحى من الذاكرة.
السيناريو
«هديتورا إيتشيمونجي « بعد أن طعن في السن يجمع أولاده الثلاثة ليتنازل عن العرش للابن الأكبر « تارو «، ويحتفظ لنفسه ببعض الصلاحيات التشريفية مع 30مقاتلاً من المحاربين الأشداء. القرار يغضب ابنه الأصغر «سابورو « فيجادله فيطرده ليلجأ الى مقاطعة مجاورة. وبعد أن يستتب الأمر لتارو الابن الأكبر يستمع الى زوجته كايدي التي بدأت تحيك خيوط مؤامرة انتقامية اذ كانت تنتمي لعائلة من الأسياد كان هيدتورا قد تغلب عليها وسلب ملكها، حال انتقال السلطة لتارو رفض إعطاء والده الرموز والألقاب المتفق عليها، فيخرج مع رجاله الثلاثين ليلجأ الى ابنه الأوسط جيرو الذي يرفض استقبال والده في قلعته مع رجاله، فيسير هيدتورا بهم إلى قلعة ابنه الأصغر سابورو الذي طرده ليستقر بها، لكن جيشا تارو وجيرو يتبعانه ويقضيان على مقاومة رجاله فيخرج من الحطام والنيران فاقد الوعي والإدراك. في تلك المعركة يرمي قناص من رجال جيرو سهمه فيردي تارو قتيلاً ليتربع جيرو على عرش المملكة، تكمل كايدي زوجة تارو مؤامرتها بالسيطرة على جيرو بالإغواء، تتسلط عليه وتسيره برغم معارضة أقوى رجاله كوروغان، ويتوه هيدتورا وقد فقد عقله ومعه المهرج الأبله وتانغو خادمه، سابورو ـ الابن المبعد ـ يجهز رجاله لينقذ أبيه ويشتبك رجاله برجال جيرو ويربحون معركة طاحنة، ولكن قناصاً من رجال جيرو يقتل سابورو أمام والده الذي يموت على الفور بأزمة قلبية متأثراً بفجيعته، كوروغان الممتلئ حقداً على كايدي يعود من رحى المعركة الخاسرة ويقطع رقبتها لأنها كانت أهم سبب في انهيار السلطة وسقوط العائلة.
تحفة خالدة
استفاد كوروساوا من تغيير البنات إلى أبناء لينسجم معنى الصراع في الاقطاعيات اليابانية ويزيد من اوار نار التطاحن، كذلك جسّد من خلال التصوير لقصة الملك الذي وقع فريسة ضغائن أفراد عائلته، لكنه أيضاً أضاف الى ذلك ضغائن العائلات التي نكبت على اثر الغزوات وضم الأراضي والممالك من خلال شخصية كايدي، تمكن كوروساوا من مزج الدرامي والتاريخي عبر الصراع العائلي والسياسي والصراع على الممالك والسلطة، وقد أضاف أيضاً شخصية متناقضة تدور في محور الفيلم، شخصية (كيوامي مهرج الملك) الذي كان يعلق على أحداث التاريخ بطريقة ساخرة ولاذعة ولكن بتذكير مأساوي، أدار المعارك العائلية الطاحنة عبر تصوير تفصيلي للأجساد وهي تتطاير أطرافها، واشتباك الأسلحة وألوف السهام وهي تمزق كل شيء، وسقوط القلاع وادارة الاشتباكات بمجاميع هائلة قبل اكتشاف لعبة الكمبيوتر، وليس بالإمكان الشعور بالمتعة من دون مشاهدتها بحجم واسع، كوروساوا قدم تحفة سينمائية وعملاً خالداً في ذاكرة المشاهد وجدير بكل تلك السنوات التي أمضاها المخرج العجوز في التحضير والعمل قبل أن يرحل عنا عام 1998.

فيلم «RAN»، تمثيل: اكيرا تيرو،
ميكو هارادا، تاتسوا ناكاداي
سيناريو واخراج: اكيرا كوراساو