مقاهي الموصل في اواخر العهد العثماني

مقاهي الموصل في اواخر العهد العثماني

د . عروبة جميل محمود
تعد المقاهي ومفردها مقهى اماكن استراحة تستقطب مختلف شرائح المجتمع الموصلي ، اذ يتم فيها اللقاء ، وتبادل وجهات النظر في المستويات الاجتماعية والثقافية ، فضلا عن كونها مكانا مناسبا للترفيه من خلال ممارسة بعض الالعاب الشعبية مثل الطاولة والدامة*، فضلا عن تدخين مايعرف لدى اهالي الموصل بالنركيلة .


وحصل تطور ملحوظ في ما يتعلق بالمقاهي الموصلية اذ دخل الشاي إلى المقاهي
في سنة 1895 ، ومن هنا تغيرت تسمية المقهى على المستوى الاجتماعي إلى تسمية
(شاي خانة) ، التي تعني مكان تقديم الشاي ، اذ كان يرتادها الموصليون فضلا عن الموظفين العثمانيين . وفضلا عن ذلك حصل تطور آخر فيما يتعلق بنشاط المقاهي الموصلية المتمثل بدخول (الفونوغراف) في سنة 1904 ، وهو جهاز مخصص لاسماع الرواد الاغاني ، ومن الظريف بالذكر ان آراء اجتماعية طرحت بشأن تحريمه ، ومن خلال تصور اجتماعي سائد آنذاك بوصفه جهازا لإفساد المجتمع ، وجوزوا استخدامه في حال اقتصاره على الاناشيد والتراتيل الدينية .
كما خصصت بعض المقاهي طاولات لجلوس الشرائح الاجتماعية التي تعد من اعيان المجتمع الموصلي ، اذ كان يتم التعامل معها بلباقة واحترام يتمشى مع مكاناتهم . وتجدر الاشارة إلى ان هناك مقاهي صيفية مفتوحة الفضاء ، ومعظمها كانت تقع بالقرب من النهر ومرتفعة نسبيا عن مستوى سطح الارض .
وعموما فقد توزعت المقاهي على المحلات (الازقة الشعبية) وهذا ناشئ عن قرب المقهى من سكن الناس ، ويبدأ التوافد على المقاهي على نحو واسع بعد صلاة العصر إلى صلاة العشاء . اما فيما يتعلق بكيفية التعامل بين رواد تلك المقاهي ، فتشير المعلومات إلى وجود اماكن في صدارة المقهى خاصة للشيوخ واعيان المجتمع ، واصحاب الرأي ، وفي حالة ممارستهم لالعاب الطاولة أو الداما ، يحضر عدد من المشاهدين الذين يراقبون اللعبة بكل احترام ووقار يتناسب مع حال اولئك الاعيان من المجتمع الموصلي . اما شريحة الشباب فعموما كانوا يجلسون بعيدا عن اماكن الشيوخ ، ويلعبون الطاولة والحلوسا والداما ، وهي من الالعاب التي كانت شائعة في ذلك الوقت . وتجدر الاشارة إلى ان التخاطب الذي كان ماثلا بين رواد المقاهي يعتمد على الاخلاق والاداب ولذلك نلاحظ مفردات اخلاقية في المناداة وخصوصا من الشباب إلى الشيوخ بكلمات مثل "سيد ، حجّي ، اغاتي ، جنابك ، شرواك".
واذا اعتمدنا أنموذجاً للقهوة التي كانت سائدة في فترة الحكم العثماني ، فنستطيع القول ان تصميم القهوة الموصلية يتكون من فناء واسع محاط بجدار تتخلله الشبابيك الزجاجية . وفي جانب من داخل فناء المقهى يوجد محل تحضير الشاي الذي يعرف باللهجة الموصلية بتسمية (اوجاغ) ، حيث يتم تحضير الشاي باستخدام الفحم وبذات الوقت يستفاد من الفحم في تحضير النركيلة . وفي احدى زوايا المقهى كان يوجد زير ماء يعرف عند اهالي الموصل بتسمية (حب الماء) ، فضلا عن الجرار والاقداح والطاسات الخزفية . وقد قسم البعض من اصحاب المقاهي مقاهيهم إلى مقهى شتوي ومقهى صيفي بحيث يستطيع الاستفادة من المقهى في فصول السنة كافة ، اذ وضعوا في التصميم مدخلاً يؤدي إلى فناء مسقف بوصفه مقهى صيفيا . ومنه مدخل اخر إلى باحة مفتوحة على الفضاء حيث يعد مقهىً مناسبا في فترة الصيف ما بعد غروب الشمس إلى منتصف الليل ، اذ تقدم فيه الاغاني الشعبية ، والمشاهد الهزلية . وتنبغي الاشارة إلى ان آلية العمل في داخل المقهى تقوم على اعتبار القهوجي (صاحب المقهى) ، الذي كان يرتدي الزي الموصلي وهو (زبون) واضعا على وسط جسمه فوطة حمراء ، بهدف تجنب الاتساخ بالسوائل التي يحملها وهي الشاي أو القهوة ، فضلا عن ذلك كان يساعد القهوجي شخص يطلق عليه في العرف الموصلي (الخلفة) ، وهو من العمال المهرة والمقدمين لدى القهوجي ، فهناك عدد من العمال يعرفون بـ (الصناع) ومهمتهم ايصال طلبات الزبائن بواسطة صينية معلقة بثلاث اسلاك متصلة في نهايتها ، وفي الوقت نفسه يعمل الصناع على تنظيف المقهى ورشها بالمياه لغرض تهيئتها للزبائن ، كما يوجد في المقهى عامل خاص يسمى (الجبقجي) الذي يكون مسؤولا عن تهيئة النركيلات للزبائن .
اما المقاهي التي تنشأ بالقرب من الاسواق فتعد اماكن لتجمع اصحاب الحرف والتجار ولتقابل الناس من ذوي الحاجة ، تناقش فيها امور تتعلق بالبيع والشراء ، مثل مقهى التجار ، مقهى الميدان ، مقهي الشيخ عبدال . ولعل من اهم مقاهي الموصل ابان العهد العثماني قهوة (السوق الصغير) التي نشأت في سنة (1274هـ/1857م) ، ويبدو انها كانت تستقطب العديد من الموصليين ، وظهر ذلك من خلال ابيات شعرية كتبت على باب المقهى ، التي توضح مكانة المقهى في مدينة الموصل والابيات الشعرية هي :
هذه القهوة حازت
كل شيء قد تهذب
ببناء قد تعالى
لعل ذلك ينسب
فلما رام ذهابا
في سواء فهو يذهب
اما مقهى (حيو الاحدب) ، فكان يرتاده الشريحة الراقية من المجتمع ، منها المثقفون من الموظفين والضباط اثناء الحكم العثماني فكانوا يرتدون زيهم العسكري احيانا .
ومن مقاهي الموصل الاخرى مقهى الثوب ، وكانت تقع قرب الجسر الخشبي القديم ، وسميت بمقهى الثوب نسبة إلى مصبغة الثياب القطنية والصوفية ، وكانت تستقطب اهالي الموصل عموما فضلا عن الوافدين إلى المدينة من التجار.
عن رسالة
( الحياة الاجتماعية في الموصل)