رستم حيدر ... والتداعيات السياسية والجنائية لحادث اغتياله

رستم حيدر ... والتداعيات السياسية والجنائية لحادث اغتياله

محيي الدين محمد يونس
منذ قيام الدولة العراقية بواقعها الجغرافي الحالي في عام 1921, شهدت عمليات اغتيال عديدة لشخصيات سياسية ودينية تعرضت حياتهم للأخطار وبدوافع عمدية متنوعة منها دافع العداء والحقد الشخصي بسبب ما يصيب مصالح بعض الأشخاص من أضرار من جراء موقف المسؤول حيال مسألة عامة أو خاصة وما يتبع ذلك من حصول رد فعل لهذا الموقف يتخذ شكل حقد شخصي عند بعضهم على ذلك المسؤول

ويترجم هذا الحقد عند البعض الأخر إلى عمل عدائي وقد يستغل هذا الأمر من قبل جهات سياسية أو غير سياسية لغرض تنفيذ مخططاتها بهدف تصفية هذه الشخصية السياسية..
وحادث اغتيال رستم حيدر وزير المالية في الحكومة الملكية العراقية بتاريخ 18 كانون الثاني 1940 تدخل في إطار هذا النوع من دوافع الاعتداء.
وقبل البدء بسرد مجريات حادث الاعتداء على حياته وأسباب ذلك لابد من وقفة تأمل في سيرة حياة هذا الرجل السياسي.

سيرة حياته
ولد محمد رستم حيدر عام 1889 في مدينة بعلبك اللبنانية , وكان اصل عائلته من العراق وتنتمي إلى قبيلة بني اسد.
تخرج في المدرسة الملكية الشاهانية في اسطنبول عام 1910 ، ثم سافر إلى باريس لإكمال دراسته وتم له ذلك في عام 1912 وعاد إلى مسقط رأسه ، وبما أنه كان من الأعضاء المؤسسين لجمعية العربية الفتاة فقد التحق بالأمير فيصل في 10/8/1918 عندما كان الأخير على رأس الحملة العسكرية المتجهة إلى سوريا ولبنان وفلسطين لطرد الجيش التركي بدعم مباشر من القوات البريطانية.
استمرت ملازمة رستم حيدر للأمير فيصل في سوريا ورافقه بعد ذلك عند قدومه إلى العراق في 23/6/1921 وأصبح سكرتيراً خاصاً له بعد تتويجه ملكاً على هذه الدولة الحديثة ثم تقلد بعد ذلك منصب رئيس الديوان الملكي ثم وزيرا للمالية في 1/10/1930 وكان ذلك بداية تقلده سبعة حقائب وزارية مختلفة في فترات متقطعة ولحين اغتياله في عام 1940 في ديوان وزارة المالية في العاصمة العراقية بغداد ...

اغتيال رستم حيدر
كانت الساعة تشير إلى الحادية عشر قبل ظهر يوم 18 كانون الثاني 1940 وبينما كان وزير المالية رستم حيدر جالساً في مكتبه الرسمي دخل عليه المدعو (حسين فوزي توفيق) وهو مفوض شرطة مفصول وقدم له كتاباً وأثناء قراءته توجس الوزير من المذكور شراً غير أنه لما هم بالخروج من مكتبه صوب الباب أطلق المذكور عليه من الخلف رصاصة من مسدسه أصابته في خاصرته اليسرى.
اعتقل الجاني ونقل المجني عليه إلى المستشفى الملكي حيث لفض أنفاسه الأخيرة بعد أربعة أيام من إصابته وكان اعزباُ وفي الحادية والخمسين من عمره ودفن في المقبرة الملكية في بغداد.
لقد خلقت هذه الجريمة مشاكل سياسية وطائفية اجتماعية على نطاق واسع وانتشرت الإشاعات والأقاويل حول الدوافع والأسباب الحقيقية لاغتيال المذكور وعما إذا كانت هذه الجريمة سياسية أو شخصية فتوزعت الاتهامات في الاتجاهات ووفق الدوافع التالية:
أولاً/ الدافع الشخصي: حيث يروي السيد جميل الأورفلي حاكم تحقيق منطقة الرصافة آنذاك بأنه تلقى خبر الاعتداء على حياة وزير المالية وانتقل فوراً إلى المستشفى الملكي إلى أنه تعذر عليه استجوابه لكونه كان تحت تأثير المخدر وخطورة حالته الصحية فتوجه إلى بناية مديرية الشرطة العامة لكون الجاني كان موقوفاً في إحدى غرفها وقام باستجوابه بحضور المدعي العام السيد ( معروف جيا ووك ) ومدير الشرطة العام السيد ( وجيه يونس) وقد اعترف الجاني اعترافاً صريحاً بمحاولته اغتيال الوزير المذكور لعدم إعادته إلى وظيفته التي كان قد أوعده بها ولكن بدون جدوى وأنه بعد أن يأس من وعوده أقدم على اغتياله دون أن يحرضه أو يعاونه أو يشترك معه أي شخص أخر ...
ثانياً/ الدافع السياسي: يمكننا أن نحصر اتجاهات هذا الدافع في السببين التاليين :
1/ في نهاية الثلاثينيات من القرن الماضي شهد العالم صراعاً محموماً بين ألمانيا الهتلرية وحلفائها ودول الحلفاء فإتخذ هذا الصراع أشكالاً وصوراً عده , فبالإضافة إلى الصراع العسكري والسياسي والاقتصادي حاولت كل جهة كسب واستمالة الدول الأخرى إلى جانبها قبل الحرب العالمية الثانية وأثنائها لغرض تعزيز قوتها العسكرية والمالية وقد كان العراق بموقعه الجغرافي الاستراتيجي وموارده النفطية الغزيرة محط أنظار طرفي الصراع لاسيما الحكومة الألمانية التي بذلت جهوداً مكثفة من خلال المنظمات الخيرية والاستكشافية والعلمية المتواجدة داخل العراق التي أفلحت في عملها وكسبت العديد من الشخصيات السياسية والعسكرية والدينية وتأليبها ضد سياسة الحلفاء وخاصة بريطانيا التي كانت لها باع طويل في مضمار السيطرة على دول الشرق الأوسط ومن ضمنها العراق بموارده وإمكانياته الهائلة وفي هذا المجال يقول العقيد (جيرالدي غوري) المستشار العسكري في السفارة البريطانية في العراق حينذاك ( إن المؤامرة الألمانية التي كانت تعمل في الخفاء لم تظهر إلا في شهر كانون الثاني 1940 يوم أقدم ضابط شرطة سابق يعطف على الألمان على قتل ( رستم حيدر) صديق فيصل الأول ومستشاره ومن أكثر أعضاء الحكومة اعتماداً وخبرة).
2/ لا تخلو دولة من دول العالم من ظاهرة الصراع على السلطة والنفوذ بين رجال السياسة والعسكريين وبصور تتساوق ونوع النظام السياسي المطبق فيها يتم عن طريق الانقلابات أو المؤامرات ويظهر هذا الصراع في الدول الديمقراطية من خلال صناديق الاقتراع وما يكتنفها من اتفاقات وتلاعب وتزوير.
إن الصراع السياسي في العراق ومنذ قيامه في عام 1921 اتخذ أشكال وألوان عديدة ولم تزل للظفر بالسلطة والتنعم بامتيازاتها المختلفة.
ويلاحظ بأن نوري السعيد كان طرفاً في معظم الصراعات التي كانت تنشب عندئذ بحكم كونه كان يتمتع بامتيازات كثيرة وفي هذا السياق يتطرق السيد (ناجي شوكت) أحد أقطاب العربي ومن رؤساء الوزارات المتميزين في مذكراته ذاكراً ( إن نوري السعيد بعد أن قضى على خصومه السياسيين الواحد بعد الأخر بالقتل والسجن والإبعاد عن المناصب الوزارية لم يبق من ينافسه على الزعامة غير رستم حيدر الذي كان أحق برئاسة الوزارة لولا جنسيته السورية ).
ومن ثم يستطرد قائلاً :
كان نوري السعيد يخشى شخصيتين (1- شخصية تنافسه في صداقة بريطانيا 2- وأخرى تنافسه بوطنيتها وصدق إخلاصها لبلادها) لقد كان رستم حيدر يملك هاتين الصفتين:
الأولى: إخلاصه وولائه المطلق لبريطانيا باعتبارها الحليف المثالي والصديق الوحيد .
والثانية: وطنيته وإخلاصه بمقاييس السياسيين المرتبطين بالسلطة في ذلك الوقت بالإضافة إلى علاقته وقربه من العائلة المالكة.
وتأكيداً على هذا السلوك عند نوري السعيد نقتطف من الرسالة الموجهة من رشيد عالي الكيلاني إلى الملك عبد العزيز بن سعود ما يلي ( فنوري باشا مسجل لدى الانكليز أنه صديقهم الحميم ويعتمدون عليه وكل ما يقوله لهم يصدقونه بلا تردد فهو لا يريد أن يبقى أي شخص يمكن للانكليز ان يعتمدوا عليه , يريد احتكار صداقتهم واعتمادهم عليه).
وهناك أحداث ووقائع واكبت الحدث المذكور وتثير الشكوك وتعزز الاعتماد في هذا الاتجاه ويمكننا التطرق إليها على سبيل الاستشهاد بها وهي تدخلات (نوري السعيد) في كافة مراحل وأدوار التحقيق والمحاكمة وتنفيذ الحكم مما أثار حفيظة الكثير من السياسيين داخل السلطة وخارجها وأفرزت ردود أفعال مختلفة تباينت بين رفع الشكوى والاحتجاج وتطورت الحالة إلى استقالة الوزارة وإعادة تشكيلها مجدداً من قبل (نوري السعيد) ..

المحتجين على هذه التدخلات:
أ‌-بعد انتهاء التحقيق واعتراف الجاني اعترافاً صريحاً بأنه القاتل , وأنه لا شريك له في هذه الجريمة وفي مساء نفس يوم الحادث وقبل مغادرة حاكم التحقيق حضر رئيس الوزراء وطلب منه أن يتركه يختلي بالمتهم وحيداً حيث تم له ما أراد واختلى بالمذكور نصف ساعة تقريباً وبعد منتصف الليل طلب الجاني قرطاساً وقلماً وسجل اعترافات جديدة بخط يده اتهم أشخاصاً بتحريضه على ارتكاب جريمة قتل وزير المالية وهم الوزيرين السابقين إبراهيم كمال وصبيح نجيب والمحاميين نجيب الراوي وشفيق نوري السعيدي والمتصرف (المحافظ) المفصول أحمد عارف قفطان , ومدير الشرطة العام السابق حسن فهمي. ب‌-بعد صدور قرار الحكم بإعدام القاتل هرع (نوري السعيد) إلى وزير الدفاع (طه الهاشمي) وألح عليه التعجيل في تنفيذ القرار وأن يجري ذلك عند الفجر وفي ساعة مبكرة وفسر طلبه هذا في رغبته أن لا يسمع أحد ما يكشفه المجرم في لحظاته الأخيرة من أسرار عند تنفيذ الحكم والذي لم يبلغ به إلا قبيل شنقه بدقائق وبحضور الجماهير التي احتشدت لتشاهد عملية الإعدام بخلاف رغبة ( نوري السعيد) في تنفيذ الحكم بصورة سرية حيث صحت توقعاته إذ كان القاتل يصرخ بأعلى صوته وهو يقاد إلى المشنقة ( إن نوري السعيد هو السبب ... نوري السعيد هو اللي ورطني) واستمر في ترديد هذه العبارة حتى لحظة إعدامه.وكان الجاني قد كتب قبل إعدامه رسالة إلى ( نوري السعيد) يعظمه فيها ويسبغ عليه أحسن الصفات ويلتمس منه تحرير رقبته ليكون عبداً مطيعاً وظهيراً قوياً له. وأخيراً يذكر ( خلدون الحصري ) في مذكراته : لقد هز هذا الحادث نوري السعيد من أعماقه وأصبح في وضع نفسي صعب عند مقتل رستم حيدر موجها ضده ويستهدف شخصه بالذات فتقدم باستقالته إلى البلاط في شباط 1940 إلا أن التحقيقات حول ملابسات القضية كشفت فيما بعد أن لنوري السعيد دوراً في مقتل رستم حيدر فهو من جهة تخلص من أبرز منافسيه على السلطة ومن جهة أخرى استطاع أن يوجه ضربة مؤلمة إلى خصومه من خلال تحريضه القاتل على توريطهم في الحادث.
ثالثاً/ الدافع الطائفي: لا يمكن استبعاد الدافع الطائفي المستهدف لحياة رستم حيدر.
مما حدا بالسيد ( صالح جبر) وزير الشؤون الاجتماعية في ذلك الوقت إلى تقديم استقالته من الوزارة احتجاجاً على عدم إجراء تحقيق كامل في القضية.
وأخيراً يرى الأستاذ (مجيد خدوري) أن مقتل (رستم حيدر) يجب أن يعزى إلى تفاقم الحزازات الطائفية وإن بقي سببه المباشر غامضاً .

الخاتمة
قدم القاتل ( حسين فوزي توفيق) والمتهمون بالتحريض على اغتيال (رستم حيدر) كل من صبيح نجيب وإبراهيم كمال وعارف قفطان ونجيب الراوي ومحمد صالح الجعفري إلى المجلس العرفي العسكري في معسكر الرشيد في 3/3/1940 , وبعد سلسلة طويلة من المرافعات المكثفة والسريعة وفي صباح يوم 20/3/1940 , أصدر المجلس المذكور قراره بالحكم على المجرم حسين فوزي توفيق بالإعدام شنقاً حتى الموت وفق المادة 214 من قانون العقوبات البغدادي وتبرأة المتهمين الموقوفين معه من تهمة التحريض على القتل .
وبعد أسبوع واحد من صدور قرار المحكمة وفي ساعة مبكرة من فجر يوم الأربعاء 27/3/1940 نفذ حكم الإعدام شنقاً بالقاتل على المشنقة التي نصبت في وسط ساحة باب المعظم في بغداد وبحضور حشد كبير من المواطنين الذين جاؤوا لمشاهدة عملية الإعدام حيث بقيت جثة القاتل معلقة على المشنقة وأنزلت في تمام الساعة التاسعة من صباح ذلك اليوم لتدفن ويدفن معها سر اغتيال هذا الرجل العصامي.