100 عام على زيارته التاريخية بحثا عن الحلاج.. ماسينيون في بغداد سنة 1907

100 عام على زيارته التاريخية بحثا عن الحلاج.. ماسينيون في بغداد سنة 1907

د. كامل مصطفى الشيبي
جاء ماسينيون الى بغداد في ربيع سنة 1907؛ فكان اول موقع يزوره سنة 1908 قبر الحلاج الذي نشر صورته في كتابه (ديوان الحلاج)، وقد كان منه مثار ملاحظة الناس بحيث ذكره في محاضرة القاها في بغداد 1945 بهذا الافتتاح وقالوا له: (الظاهر انك زرته- يعنون قبر الحلاج- قبل ان تزور احد)؛ فضحك ماسينيون

وقال: انه يحب الحلاج، وقبل ذلك بسطور اشار المرحوم عباس العزاوي (ت1391هـ- 1971م) الذي كان حاضرا هذه المناسبة؛ يعتقد الاستاذ لويس ماسينيون ان الحلاج كان موحدا ومن اهل العشق الالهي، وتلك اشارة الى قول الحلاج في ديوانه:

تفكرت في الأديان جد محقق
فألفيتها أصلاً له شعب جماً
فلا تطلبن للمرء دينا فإنه
يصد عن الأصل الوثيق وإنما
يطالبه أصل يعبر عنده
جميع المعالي والمعاني فيفهما
وتعلمون ان هذا المعنى يذكر بقول ابن عربي ورهطه من القائلين بوحدة الوجود:
لقد كنت قبل اليوم أنكر صاحبي
إذا لم يكن ديني إلى دينه دان
فقد صار قلبي قابلاً كل صورة
فمرعى لغزلان ودير لرهبان
وبيت لأوثان وكعبة طائف
وآيات توراة ومصحف قرآن
أدين بدين الحب أني توجهت
ركائبه فالحب ديني وإيماني

وبدأ ماسينيون من هذا الوقت المبكر في البحث عن رجال متسامحين يأخذ عنهم ويسترشد بهم فكان السيد علي علاء الدين الالوسي (1277- 1340هـ/ 1860- 1921م) اول من قصده منهم، وكان زميله في الدرس المرحوم عباس العزاوي الذي اشار الى ذلك في رسالة له اودعها نجله الاستاذ فاضل. واضاف ان مكان الدرس كان جامع مرجان الذي تعبنا كثيرا في البحث عن صورة له حتى وجدناها في (بغداد كما عرفتها) للمرحوم امين المميز، بطبع بغداد سنة 1985 ص97، وتظهره بصورته الكاملة قبل ان يقتطع منه جزء لادخاله في شارع الرشيد.
وذكر الاستاذ ماسينيون انه صحب السيد محمود شكري الالوسي (1273- 1342هـ/ 1856- 1924م) واخذ عنه وصادقه وكتب في رثائه له يقول (توجعت وتأسفت اي تأسف... جمعنا الله تعالى في الخيرات تذكارا من المرحوم الى تلميذ المرحوم الاخص من اقل تلامذته الفقير الخاضع لربه سبحانه... ماسينيون) سرد ذلك في سنة 1924، كما ورد ذلك في كتاب الاستاذ محمد بهجة الاثري (اعلام العراق) طبع المطبعة السلفية بمصر (1345هـ/ 1927م)، ص174.
وكتب ماسينيون في هذا الشأن رسالة مؤرخة في 25/7/1923 اثناء وجوده في المغرب في مدينة فاس يطلب فيها معلومات اضافية عن الحلاج، ويذكر تلمذته له وحبه له ولابن عمه الشيخ علي علاء الدين، وقد ضمنها عبارت جميلة تشع اسلامية وصوفية، منها قوله: (تمسكت منذ سنين بتقوى الله تعالى واداء فرائضه وبورع حلاله وحرامه، ونويت الاخلاص لله تعالى في جميع اعمالي، وقمت (اقمت) القيامة في الادعية راجيا من غفرانه الواسع كل عفو ورحمة)، وتحتفظ دار المخطوطات والوثائق بهذه الرسالة تحت رقم 881، ومن الطريف ان الاستاذ ماسينيون صنع له ختما باسم لويس ماسينيون وتحته لفظ (عبده)، وقد صنعه له السيد محمد تقي بهيمني الحكاك (صانع الاختام) في الكاظمية بتاريخ 1326هـ/ 1908م)، وكان ذلك باقتراح وانشاء وتصديق من استاذه الشيخ علي علاء الدين قاضي بغداد في ايامه، ونورد بعد هذا التاريخ وجدنا صورة للمرحوم ماسينيون بالزي الازهري بتاريخ 1909، وهذا يعني انه توجه بعد بغداد الى القاهرة ليكمل تحصيله الصوفي الخاص بالحلاج وغيره ليبدأ رحلته العلمية الطويلة التي لم تتوقف الا بتوقف نبضات قلبه، وكانت مشاركته في مؤتمر المستشرقين في اثينا سنة 1912 اول علامات نبوغه: اذ أثار الاعجاب ببحثه عن كلمة (انا الحق) الحلاجية، واذاد بها الاب انستاس الكرملي في مجلة لغة العرب المذكورة وضمناها فاتحة كتابنا شرح ديوان الحلاج (ص10)، وكان له عند ذلك من العمر اربع وعشرين سنة.
وكتب ماسينيون كتبه وابحاثه المعروفة عن الحلاج والتصوف والخطط والادب التي اعجب بها الباحثون والفنانون والروائيون والشعراء؛ فحذا حذوه (حذو النعل بالنعل والقذة بالقذة) في البلاء العربية والهند وغيرهما من البلاد.
ولعل اقدم واول من تأثر باعماله وجهوده شاعر العراق وفيلسوفه جميل صدقي الزهاوي في روايته الشعرية (ثورة في الجحيم) التي وردت في ديوان الاوشال الذي طبع سنة 1934: انظر ديوان الزهاوي الذي نشره وقدم له عبد الرزاق الهلالي، المجلد الاول، دار العودة بيروت 1962 (ص734)، وقال الزهاوي (1279- 1354هـ/ 1863- 1939م) في هذا الشأن: (منصور الحلاج يخاطب الله ويعاتبه.

ورأيت الحلاج يرفع منه الطر
ف نحو السماء وهو حسير
قائلاً: أنت الله وحدك قيو
ما وأما الألوان فهي تبور
أنت، من حيث الذات، لست كثيراً
غير أن التجليات فهي كثير
إنك الواحد الذي أنا منه
في حياتي شرارة تستطير
وبه لي بعد الظهور خفاء
وله بي بعد الخفاء ظهور
لم شئت العذاب لي؟ ولماذا؟
لم تجرني منه وأنت المجير
كان في الدنيا القتل منهم نصيبي
ونصيبي اليوم العذاب العسير
قلت: إن المقدور لابد منه
أو حتى إن أخطأ المقدور
ثم سال السيل بهؤلاء

وعلى كل حال فقد الف ماسينيون مجموعة من الكتب تتناول حياة الحلاج وكتبه واراءه منها كتبه: الديوان والطواسين والاخبار والنصوص الاربعة وما الى ذلك، وقد حظيت كل هذه المصنفات بحظوة وجاذبية واهتمام من الكتاب والقصاص والمفكرين من شتى انحاء العالم، فبالنسبة للطواسين رأيناه يعاد طبعه مع زيادات بقلم المرحوم الاب بول نويه، وكذا بشار نوري (التركي)، وبالنسبة لاخبار الحلاج وجدنا له طبعة ساذجة اصدرها الاستاذ عبد الحفيظ بن محمد مدني هاشم في مصر، وبالنسبة للبحث في سيرة الحلاج وارائه وجدنا كتاب الحلاج شهيد التصوف الاسلامي لطه عبد الباقي سرور بطبع القاهرة سنة 1961، وبالالمانية كتبت الاستاذة آنه ماري شيميل كتابها عند سنة 1968، وكتب د. محمد جلال شرف كتابه (الحلاج الثائر الروحي في الاسلام) سنة 1970 في الاسكندرية وسامي طرطبيل كتابه (اسطورة الحلاج) سنة 1979، واصدر الفنان سامي مكارم كتابه (الحلاج في ما وراء المعنى والخط واللون) من دار رياض الريس للكتب والنشر في لندن سنة 1989، وفي مجال الابحاث الفرعية وجدنا لزميلنا المرحوم محمود قاسم بحثه (الحلاج والقرامطة وماسينيون) الذي نشرته له مجلة اصالة الجزائرية العدد 57 لسنة 1978، وهكذا كتب د. عبد الحكيم حسان بحثه (الروح الايرانية في حياة الحلاج وتصوفه) في مجلة جامعة ام درمان الاسلامية العدد2، 1969.
واستقاء من الاخبار التي تضمنتها كتب ماسينيون في موضوع سيرة الحلاج ظهرت مجموعة من الروايات منها كتاب (الحلاج او وضوء الدم) لميشال فريد غريب الذي طبعه الروائي في مطبعته في بيروت، ومنها رواية (الشهود والشهداء) للكاتية العراقية لطيفة الدليمي التي نشرتها لها مجلة افاق عربية سنة 1976.
وفي عالم المسرح كتب صلاح عبد الصبور مسرحيته الشعرية المعروفة (مأساة الحلاج) التي نشرتها له دار الاداب، بيروت، سنة 1965، وكتب عدنان مردم بك مسرحيته (الحلاج) بوصفها مسرحية شعرية من اربعة فصول، ونشرتها له دار عويدات، بيروت 1971، وكتب الاستاذ هربرت ميسون (الامريكي) مسرحيته الانكليزية بعنوان (موت الحلاج) وطبعتها مطبعة جامعة نوتردام سنة 1979، وقد ترجمت هذه المسرحية الشعرية الى العربية بقلم امل الجبوري وطبعت في شركة الشرق الاوسط للطباعة في عمان سنة 1995.
ومن الطبيعي ان يكون لكاتب هذه السطور اسهامه في شؤون الحلاج تعبيرا عن حبه له من ناحية، واعجابا بماسينيون واعترافا بفضله من ناحية اخرى، ونورد هنا الكتب والبحوث التي اسهم بها في هذا المجال:
1- الكتب:
(أ‌) ديوان الحلاج الذي اسبغ فيه على النصوص الحلاجية روح عربية واضحة تعتادها اذان النقاد والباخثين والقراء العاديين، وظهرت الاولى منه في بغداد سنة 1974، والطبعة الثانية المزيدة المراجعة سنة 1984، والطبعة الثالثة في دار الجمل في المانيا سنة 1997.
(ب‌) شرح ديوان الحلاج، طبع بيروت 1974.
(ج) الحلاج موضوعا للاداب والفنون الشرقية والعربية، طبع بغداد 1976.
2- الأبحاث:
(أ‌) شعر الحلاج، مجلة الرابطة (النجفية، العراقية)، العدد6، 1976.
(ب‌) مصنفات الحلاج، مجلة البيان (الكويتية)، العدد 121، 1976.
(ج) ذيل ديوان الحلاج، مجلة زانكو، جامعة السليمانية، 1977.
(د) الحلاج في الادب المقارن، مجلة كلية التربية، طرابلس، العدد21، سنة 1996.
وثمة عدد من المقالات وعدد من الاشارات في مصنفات اخرى لكاتب هذه السطور تكمل هذه المعاني.
ومن اطرف وجوه النشاط لاحياء ذكرى الحلاج وبيان تصور الناس له اهتمام الاستاذ ماسينيون بالرسوم التاريخية التي عني بها الرسامون المسلمون تعبيرا منهم عن تصورهم لمنزلة الحلاج وصبره على الشدائد ومواجهته للموت بالطريقة التي قتل بها، ويلاحظ في كثير منها ان راسميها تصوروه قد قتل مصلوبا كالسيد المسيح، بل لقد صوروه مسمر اليدين والقدمين والى جواره الرمح والخل والسلم التي رقي بها الجلاد اليه، وينبغي ان نذكر في هذا المجال ان الحلاج الذي قيل انه صلب لم يشنق كما تصوره رساموه وانما علق على مكان عال بامر الوزير علي بن عيسى قبل موته بثماني سنين بقصد التشهير به واغراء الناس باهانته والغض من قدرته- كما ذكرنا ذلك في كتبنا عن تاريخ بغداد للخطيب البغدادي- واما الشنق فلم يحدث قطعا؛ وكيف يشنق وقد قطعت اطرافه وحز رأسه واحرق جسده والقي في دجلة رماده؟
وعلى العموم فقد جمع المرحوم ماسينيون من هذه الرسوم تسعة عشر يتفاوت تاريخها بين القرنين العاشر والثاني عشر الهجريين (السادس عشر والثامن عشر الميلاديين).
في هذه المرحلة تجمعت عندنا ملاحظات تتعلق باستدرامات واستكمالات للنشاط الذي بذله المرحوم ماسينيون لتشكيل صورة كاملة للحلاج سيرة واراء منها:
اولاً: اننا وجدنا في كتاب (شرح شطحيات) للشيخ الصوفي روزبهان البقلي الذي حققه هنري كوربان الذي طبع في طهران سنة 1866- اي بعد وفاة المرحوم ماسينيون، ويتضمن هذا الكتاب فصلا طويلا عن شطحات الحلاج تبلغ خمسا واربعين عبارة، وتشكل مادة غزيرة في هذا المجال، وتضيف تفاصيل كثيرة الى ما نعرفه عن سيرة الحلاج وارائه.
وفي هذا الكتاب فصل عن الطواسين يتضمن عبارات كثيرة لا نعرفها مقترنة بشروح وافية ومقدمات، وقد عددناها فوجدناها نحو ست وسبعين فقرة وعبارة تتعلق بهذا الموضوع وهي موزعة على الطواسين (الالهامات) الاتية: السراج، والفهم، والدائرة، والنقطة، والأزل، والمشيئة، والتوحيد، والتنزيه، والنفي، والاثبات.
ومن اهم الاستدراكات التي تعن على الذهن ما وجدناه من تفسير اشاري للحلاج لايات مختارة ذات مضمون ميتافيزيقي وكلامي تمس الحياة الصوفية مسا لصيقا، وقد عددنا السور التي فسرها الحلاج فوجدناه سبعا وخمسين تعد نصف عدد سور القران الكريم، ولعل هذا العدد يعني شيئا فيه سر من اسرار الحلاج، وقد تضمن هذا التوجه كتب مخطوطة ومطبوعة لها جاذبية خاصة للباحثين في شؤون الحلاج والتصوف.
وبعد...
فقد اهتم ماسينيون بوطن الحلاج فسكنه لاول نزوله فيه، والقى فيه عددا من المحاضرات حول الحلاج ووطنه، واهتم بشؤون ذوي دينه والمسيحيين واعان على الرفع من مستوى التدريس في دير الكرمليين (المارونيين) الذي كان يترأسه صديقه الأب انستاس ماري الكرملي (1866- 1947م/ 1283- 1368هـ) الذي يحتفظ دار المخطوطات والوثائق بمئتي وست وثمانين رسالة ارسلها فقيدنا الى صديقة الاب الراهب اللغوي البحاثة الكبير.
ومن ناحية اخرى فقد اختير ماسينيون عضوا مراسلا في المجمع العلمي العراقي بين سنتي 1947 و1954، وكانت له محاضرة فيه ذكرتها مجلة المجمع العلمي في عددها الاول في سنته الاولى، وكانت بعنوان خطط البصرة، ونشر قبل ذلك كتابا بعنوان (خطط الكوفة)، وقد ورد ذلك في كتاب لزميلنا الاستاذ سالم الالوسي بعنوان (المجمع العلمي العراقي في خمسين عاما) (1947-1997) طبع المجمع العلمي العراقي سنة1997.
واخيرا فقد كان المرحوم لويس ماسينيون مستشرقا (شعبيا) محبوبا متسامحا يحب الناس ويحبونه ولو كان مخالفا لارائهم وعقيدتهم، وكفاه ذلك تقديرا، وكفانا منه اخلاصا وحبا، ورحمة الله على ماسينيون فقد كان من عباد الله الصالحين واوليائه المقربين...

نشر المقال في الذكرى المئوية لماسنيون ضمن كتاب تذكاري باشراف حسن حنفي.