(الحلقة الرابعة) : الانتخابات النيابية في العهد الملكي

(الحلقة الرابعة) : الانتخابات النيابية في العهد الملكي

معن عبد القادر آل زكريا
توطئة :
من أجل معالجة الفترة الزمنية التي يتحدث فيها السيد الهلالي عن ما عاشه من أحداث في العراق الملكي خلال الفترة الزمنية 1950 وما هو قريب منها من أيام ، بصفة كونه موظفاً في تشريفاتية القصر الملكي ، ينغمس السيد الهلالي في تدبيج وقائع حادثة ، نعدها نحن الباحث أنموذجاً على وفق ما كانت عليه الاوضاع (سياسية على نحو خاص) و (اجتماعية وثقاقية على نحو عام) ،

بحسب ان الأطراف المشاركة في تلكم الوقائع – تعد في نظرنا اليوم – شخصيات لم تكن على درجة واعدة من ثقل المسؤولية ، فضلاً عن صفات أخرى ينطبق عليها الوصف ايما انطباق ، ننأى بأنفسنا عن اطلاقها على اصحابها – الذين نظن أنهم يستحقونها فعلاً – .
فضلاً عن ان السيد الهلالي قد سطر شيئاً كثيراً فكهاً ومثيراً عن ظروف الانتخابات في العراق وما كان يرافقها من أحداث مضحكة مبكية … بل ان الصراع الطبقي في حينه كان يمثل عدم تكافؤ من قبل فئات اجتماعية كثيرة … وكان ذلك قدر اهل العراق .
ايضاح :
… ولأن التاريخ حلقات متصلة ، فكان لابد لنا ان نستشهد بوقائع وأحداث تلقي مزيداً من الأضواء على العلاقات العربية من جهة ، وعلى الوضع الداخلي في العراق من جهة أخرى .
ومن نافلة القول انما حدث في سوريا ابتداءً من انقلاب حسني الزعيم في 31 آذار سنة 1949 وما أعقبه من انقلاب ثان قام به اللواء سامي الحناوي وقضى به على حسني الزعيم ورئيس وزرائه محسن البرازي يوم 17 آب 1949 ، قد يكون مرتبطاً بأحدث العراق بشكل لا يقبل اللبس . ثم ان ميل سامي الحناوي إلى نظام الحكم في العراق ورغبته في اقامة وحدة بين سوريا والعراق بشكل عملي وفوري ، قد زاد من تعقيد الوضع (الشرق أوسطي) ما بين المخططات الانكليزية والمخططات الأميركية ، إذ وصل بغداد عدد من الضباط السوريين واجتمعوا بالوصي عبد الاله في عدة
زيارات ، وكان على رأس الوفد الدكتور سعد طلس عديل سامي الحناوي ، الرجل الذي عقد صداقات عديدة اثناء وجوده في بغداد . ثم عودته إلى العراق ولجوئه ثانية بعد الانقلاب الثالث الذي قاده أديب الشيشكلي في 19 كانون الأول 1949 وقضى فيه على انقلاب سامي الحناوي .
من هنا … كان لابد ان نستقرئ نظرية العمل من أجل (مشروع سوريا الكبرى) وتعيين الوصي عبد الاله ملكاً على سوريا ، الا ان الضغوطات الخارجية المتصاعدة بشأن سوريا وموقف القوى الداخلية منها ، دفع بالحكومة السورية إلى وضع القضية برمتّها بين يدي المجلس النيابي السوري لتقرير نوع الوحدة المراد تحقيقها مع العراق . الأمر الذي دفع بالطرفين العراقي والسوري ، ومن أجل الحفاظ على النظام الجمهوري السوري الحديث العهد ، إلى التريث … من أجل انضاج خطط واضحة تقود إلى اتحاد معتدل بين الدولتين .
الا ان انقلاب أديب الشيشكلي – واذاعته أموراً تخص العراق – أغضب كل الأطراف الداعية إلى الوحدة والعاملة في سبيلها ، وعلى نحو خاص البيان الذي أعلنه الشيشكلي بأسم الضباط السوريين باتهام كافة الأطراف بالاشتراك في (المؤامرة على سوريا) … وان الانقلابيين ليس لهم همّ سوى اعادة الأمور إلى ايدي رجالها الشرعيين!
لقد كانت أخبار الانقلاب صدمة قوية وقعت على يافوخ الوصي عبد الاله وعلى رجال حكومته (فأفقدته وأفقدتهم صوابهم) كونهم ذاهبين في مشروع سوريا الكبرى إلى منتهاه … وليس في بالهم ما حدث فجأة فأطاح بالمشروع ايما اطاحة … وسرعان ما أخذت الأمور بين سوريا والعراق تسوء ، فعاد بعض السياسيين العراقيين الذين كانوا في سوريا إلى العراق شبه مطرودين من قبل الانقلابيين ، ولجأ إلى العراق الدكتور اسعد طلس عديل سامي الحناوي ومجموعة من الضباط ، بينما لجأ اللواء الحناوي إلى بيروت وهناك لقي مصرعه على ايدي جماعة من اقارب السيد محسن البرازي الذي قتل في أول يوم من انقلابه .
الوصي واتفاق الكرام :
لابد ان نستذكر ان علاقات العراق وبعض الاقطار العربية في هذه المرحلة كانت تمر بحالة من التأزم وعدم الاستقرار . فخلاف البركان المفاجئ الذي أحدثه الشيشكلي بانقلابه ، و هناك سوء تفاهم واضطراب في السياسة الاقليمية بين العراق ومصر من جهة وبين العراق والمملكة العربية السعودية من جهة أخرى ، كانت طافية على سطح السياسة بشكل عام (المحور المصري السعودي ضد المحور الهاشمي) …!
وكون الوصي قد طلب من السيد علي جودت الايوبي تشكيل الوزارة – اثر استقالة وزارة توفيق السويدي – فقد اقترح الايوبي – المكلّف بتشكيل الوزارة – على الوصي عبد الاله وقبل تقديم تشكيلة وزارته ، ان يقوم بجولة عربية تكون على رأس أهدافها تسوية الخلافات وإذابة الغيوم وإزالة الشكوك بين العراق ومصر والسعودية .
فوافق الوصي على هذا الاتجاه ودعا له بالموفقية .
الا ان الذي حدث – بعد تشكيل الوزارة – ان رأس الوفد مزاحم الباجه جي نائب رئيس الوزراء يرافقه في الوفد نجيب الراوي وزير المعارف ، وسافرا (وحدهما) يوم 21 كانون الثاني 1951 إلى القاهرة لتحقيق هذه الغاية . وكان يومها يمثل الجانب المصري في المباحثات صاحب المعالي صلاح الدين بك وزير الخارجية المصرية . وبعد ان بقيا في القاهرة عشرة أيام ، قاما خلالها بالاتصال بالمسؤولين على كافة المستويات والاصعدة … عادا بعدها إلى العراق وهما يحملان (صيغة اتفاق) بغية عرضه على الحكومتين العراقية والمصرية لاقراره بعد عودتهما .
وبالنظر لأهمية ما ورد في ذلك الاتفاق (في حينه) فقد سارعت الصحف المصرية ووكالات الأخبار العالمية والاذاعات الأجنبية باذاعة أهم بنود – مشروع الاتفاق – وشيئاً وافراً عن صلب نصوصه قبل ان يصل إلى ايدي الوصي عبد الاله … بل ولم يطلع عليه أي مسؤول عراقي …!! الأمر الذي أزعج الأمير الوصي عبد الاله كثيراً من هذا السلوك اللاديبلوماسي واللاحصيف واللاأخلاقي … كون ان ما جاء في أهم بنود هذا الاتفاق (وكأن هناك تعمداً مقصوداً من قبل الوفد العراقي) وفي فقرته الأولى ما يأتي نصاً حرفياً .. (امتناع العراق ومصر مدة خمسة أعوام عن التدخل في امور سوريا الداخلية … الخ) .
لقد اعتبر الوصي (وكان على حق في ذلك) هذا النص – الفقرة الأولى منه – قيداً على العراق من جهة ، وتعريضاً به شخصياً من جهة أخرى ، وان المقصود بمدة (خمس سنوات) هي المدة التي تنتهي بعدها مباشرة وصاية الأمير عبد الاله على عرش العراق … وهذا ما أوضحه مزاحم الباجه جي نفسه كما سيأتي لاحقاً .
الباحث
… ولما عاد الوفد من القاهرة يوم الثلاثين من شهر كانون الثاني سنة 1950 حاملاً معه صيغة الاتفاق الذي سمي بـ (اتفاق الكرام) ، سارع الوصي عبد الاله بالأمر بعقد اجتماع يحضره رئيس الوزراء والوزراء ورئيس الديوان الملكي وبعض السياسيين في قصر الرحاب مساء هذا اليوم .
يقول عبد الرزاق الهلالي : وبالفعل قمنا نحن موظفو التشريفات باعلام الشخصيات المدعوة بذلك . وعقد الاجتماع برئاسة الوصي ، الذي حضر وهو في حالة غضب وتأثر شديدين.
وبعد الترحيب الشكلي بالحاضرين ، اخذ يتكلم مفتتحاً الاجتماع وبيّن كيف انه وافق على سفر الوفد إلى مصر لغرض تبديد الغيوم بينها وبين العراق ، ولكن الوفد عاد وفي جعبته اتفاق غريب عجيب !
ثم طلب من رئيس الوفد (مزاحم الباجه جي) ان يوضح للحاضرين النتائج التي توصل اليها مع الحكومة المصرية ، فأخذ هذا يشرح وجهة نظره في كل مادة .
ولما قرأ ما جاء في الفقرة الأولى ، حول مادة (عدم التدخل) سأله الوصي قائلاً:
- لماذا حددت المدة بخمسة أعوام ؟! …. فاجاب بصراحة ....
- لأنها المدة المتبقية من مدة وصاية سموكم على العرش !
إن هذا الجواب الصريح اغضب الوصي عبد الاله كثيراً ، وهنا اخذ الحاضرون يبدون معارضتهم للاتفاق وعدم الموافقة على ما جاء في بنوده ، لأنها تقيد حرية العراق في عمله لضمان مصالحه الوطنية واهدافه القومية . وهكذا اشتدت المناقشة والجدل ، فرفض الحاضرون الاتفاق بمن فيهم معظم الوزراء ، فاضطر الايوبي إلى تقديم إستقالة وزارته صباح يوم 1/2/1950 .
تعقيب :
اكتفينا إلى حد استقالة وزارة علي جودت الايوبي … وارتأينا عدم استفاضتنا بتفاصيل اجتماع الوصي في مناقشة (اتفاق الكرام) الذي أكثرت من تفاصيله غالبية الكتب المؤلفة وعلى نحو خاص حادثة قيام الباجه جي – بعد انفضاض الاجتماع وتلقي تقريع الوصي ولومه – .
وفي موعد اجتماع جلسة مجلس الاعيان في 25 شباط 1950 ، الذي نوقشت فيه منهاج وزارة توفيق السويدي ، أقول ، قام الباجه جي متكلماً … وتعرّض في معرض حديثه بسياسة البلاط ، بل أخذ يغمز من قناة الوصي ويطعن في تصرفاته تلميحاً مرة وتصريحاً أخرى ، فيكون بذلك الخطاب قد أحدث دوياً قوياً في نفس الوصي عبد الاله وأعوانه … وفي نفوس اعداء مزاحم الباجه جي (وما أكثرهم!) .
اذن … لابد من ابعاد الباجه جي عن الساحة …! وهكذا كان .
ولمتابعة تفاصيل هذه القضية ، الرجاء الرجوع إلى الملحق الخاص باسقاط عينية مزاحم الباجه جي في مجلس الاعيان .
الباحث
البلاط والانتخابات :
يقول عبد الرزاق الهلالي :
ولما كانت هذه الانتخابات أول مرة تجري وأنا موظف في البلاط الملكي ، فقد ظهر خلال جريانها ، ان للبلاط (دوراً وحصة) في نتائجها. وكنت ارى لأول مرة كثرة مراجعة الأشخاص من (افندية وشيوخ) للبلاط طالبين مواجهة الوصي عبد الاله ، ولما تحريت عن السبب عرفت ان بعضاً منهم يرشحون (عادة) من قبل الوصي ، وهم (كوتا) له بين عدد النواب .
والذي اذكره بهذه المناسبة ، ان رئيس التشريفات الملكية سلمني ذات يوم (قائمة) بأسماء بعض هؤلاء وطلب مني الاتصال بهم بسرعة ليأتوا إلى البلاط ، فلما سألته عن سبب استدعائهم ، قال انهم سيخرجون نواباً بمساعدة الوصي .
هذا وكانت الانتخابات تجري في هذا الوقت على درجتين … فقد كان للحكومة أو بالاحرى (وزارة الداخلية) ضلع كبير في سير هذه الانتخابات ، بل وتعيين النواب في معظم المناطق ، اما كيف كان ذلك يحدث فعلمه عند رجال السياسة في ذلك العهد وعند النواب الذين وصلوا إلى المجلس النيابي عن هذا الطريق !!
الصراع بين الوصي عبد الاله ونوري السعيد:
يقول عبد الرزاق الهلالي :
ومما لاحظته خلال هذه السنوات السبع ، ولاسيما الاخيرة منها ، ذلك الصراع الخفي تارة والصريح تارة اخرى ، القائم بين الوصي عبد الاله ونوري السعيد . فقد بدا لي ، ان السبب في ذلك اختلاف الرجلين في بعض القضايا السياسية ، وفي مقدمتها القضية السورية والأتحاد الهاشمي وغير ذلك من الأمور التي يعرفها سياسيو ذلك
العهد ، ولا أريد ان أبرهن على ذلك ، لأن الأحداث التي حدثت بعد خروجي من البلاط أثبتت ذلك بوضوح ، ولا أريد ان اكرر بعض الأمور التي كانت معروفة للقاصي والداني ، منها على سبيل المثال ، كيف تولى نوري باشا وزارته الأخيرة التي سبقت وزارة الأتحاد الهاشمي ، لأنها قصة معروفة .
دستورية عينية فخامة الباجه جي
على لسان النائب محمد جواد حيدر
طرحه بشكل سؤال نظامي
في الساعة العاشرة والدقيقة الأربعين عقد مجلس النواب جلسة برئاسة معالي السيد عبد الوهاب مرجان ، وتليت في غضونها الأسئلة والأوراق الواردة ، وكان من اهمها سؤال النائب السيد محمد جواد حيدر( )، وفيما يأتي نصه :
نصت المادة الاولى من القانون الاساسي العراقي على ان احكام هذا القانون نافذة في جميع انحاء المملكة . كما نصت المادة الثالثة والعشرون من القانون المذكور على ان للملك ان ينيب عند غيابه عن العراق بقرار من مجلس الوزراء –يجب نشره قبل غيابه- نائبا عنه او هياة نيابة ويعيّن الحقوق التي يفوضها لمن ينوب عنه بموافقة هذا المجلس . فتجاه هذه النصوص الصريحة هل يجوز لجلالة الملك المعظم خلال مدة غيابه عن العراق ممارسة الحقوق التي فوضّها لمن ينوب عنه ؟.
انا اعتقد انه لايجوز له ذلك لأن جلالة الملك المعظم قد منح حقوقه الدستورية إلى هيأة النيابة باستثناء بعض الحالات التي اشترط فيها الرجوع اليه قبل اتخذ قرار بشأنها ، وعلى هذا الاساس ارجو من فخامة رئيس الوزراء ان يجيب على النقطة:
يقول عبد الرزاق الهلالي :
وبسبب الخلاف القائم بين ولي العهد ونوري السعيد ، اشيع في حينه ان عبد الاله سوف يعين سفيراً للعراق في فرنسا لأبعاده عن العراق ، وكانت هذه الاشاعة ذات تاثير كبير في نفسية عبد الاله .
وقد ايد بعد ذلك الدكتور مجيد خدوري في كتابه (العراق الجمهوري) هذه الإشاعة اذ قال في الصفحة (58-59) ما نصه :
(ويبدو ان صموئيل فول السكرتير الشرقي في السفارة البريطانية ، كان قد رفع مذكرة عن أوضاع البلاد الداخلية إلى السفير البريطاني في العراق السير مايكل رايت اقترح فيها تشكيل حكومة جديدة إذا اريد الحد من الاتجاهات الثورية برئاسة عسكري قدير قد يرضي عنه القصر والجيش ، ويدخل عدداً من الزعماء الوطنيين لأعادة الثقة بالحكومة ، لأن (الجنرال نوري السعيد) في رأي (فول) قد بلغ من العمر ما لا يصح معه ان يكون في رئاسة الحكومة ، وان يعين عبد الاله ولي العهد سفيراً لبلاده في الولايات المتحدة نظراً لكره الشعب العراقي له . فإذا تم الانسجام والتعاون بين الملك ومثل هذه الحكومة فانه يستطيع إنقاذ البلاد من حالة الأستياء العام) .
ولكي يوضع هذا الاقتراح موضع التنفيذ راح السفير البريطاني يضغط على كل من ولي العهد والجنرال نوري السعيد وهو أمر لا يستطيع أي سفير ان يقوم به إذا لم توعز له حكومته بذلك ! وقد نقلت هذه المقترحات إلى (ولي العهد) . الاّ إنها لم تلق اذناً صاغية .
وهكذا ظل هذا الصراع قائماً بين الرجلين إلى ان حدث ماحدث في الرابع عشر من تموز سنة 1958 واختفى كلاهما نهائياً عن سطح الحياة .ماذا بين السعيد والجمالي* …؟!
بعد سلسلة من الهزات والانتفاضات التي تميزت بسفك الدماء والعنف البالغ ناحية السلطة ، والجماهير بالمقابل ،خاصة ايام الوثبة ضد معاهدة "بور تسماوث" واحداث سنة 1952 ، ارتأى قسم من المسيطرين على الحياة السياسية في العراق ان الوقت قد حان لتبديل الوجوه القديمة مثل السعيد و جبر و المدفعي و الصدر و السويدي و جودت وغيرهم بوجوه شابة قد تتمكن من مجابهة الموقف الذي بات ينذر بأوخم العواقب ، سيما وان العوامل التي ادت إلى احداث سنة 1952 مازالت على حالها وان ازدادت الامور تفاقماً "بانقلاب" الفريق "نوري الدين محمود" السلمي وتنكيله بالأحزاب العلنية والسرية على حد السواء وتزييفه الانتخابات لمصلحة "السعيد" بحيث ضمن له الاكثرية في مجلس النواب .
ولم يكن رأي التغيير بعيداً عن الصراع بين بريطانيا والولايات المتحدة في المنطقة ، ذلك ان أميريكا اخذت بتشديد تغلغلها الذي بدأ في اواخر الحرب العالمية الاولى وازداد بعد الثانية ، بينما كانت بريطانيا تدافع عن وجودها الذي يعود إلى احقاب طويلة تمتد إلى القرنين الثامن عشر والتاسع عشر .
واذا قيل بأن المدرسة السعيدية موالية تقليدياً للانكليز ، فقد كانت هناك مدرسة اخرى من ابرز اقطابها الوزير السابق "فاضل الجمالي"( )، تتجه نحو الأميركان ، وكان الاخير قد نال تعليمه في الولايات المتحدة وله هناك ارتباطات شتى وأن زوجته أميركية الجنسية . وعندما حل صيف سنة 1953 اخذ الاخير بالمناداة علناً بضرورة التغيير وتسليم المسؤولية "للشباب"
ومما ساعد على تقوية مركز مدرسة الجمالي ودعوته … نجاح عملية الانقلاب في اواخر آب سنة 1953 ضد الدكتور احمد مصدق رئيس وزراء ايران ، الذي قام بتأميم نفط بلاده سنة 1951( )،مع العلم انه بات اكيداً قضية كون وكالة المخابرات المركزية هي التي دبرت الانقلاب بعد عجز الانكليز عن القيام بذلك .
وبناءً على ما سبق ، فما ان استقالت وزارة "المدفعي" في 15 ايلول حتى كان للجمالي الحظ الأوفر في الحصول على المنصب المنشود . وبالفعل اختار رئيس الوزراء الجديد زملاءه من أشخاص هم في سن غير متقدمة نسبياً ولم يسبق لمعظمهم ان اشتركوا في ادارة دفة الحكم .
و عندما شرع الجمالي في تنفيذ البرنامج الذي جاء من اجله ، وجد نفسه في مواجهة اول مأزق يتعلق بالسماح للاحزاب السياسية العلنية التي كان نور الدين محمود قد بادر الى حلها في العام السابق ، وبالعمل على اساس ان قرار الاخير باطل من الناحية الدستورية . ونتيجة للضغط المتواصل من جانب الرأي العام وللتنفيس من الضغط الشعبي - اذ ان مدرسة الأميركان تميل الى ذلك عكس الانكليز - فقد صدر قرار من ديوان التسفير الخاص بالغاء الحل فبرزت الاحزاب الوارد ذكرها في الفصل السابق الى الوجود ثانية ومن بينها "حزب الاتحاد الدستوري" برئاسة السعيد ايضاً وهو غير مؤمن بالأحزاب وبالحركات الحزبية ، وكان هذا القرار من الأسباب التي أدت ألى ابتعاده عن الجمالي ، فضلاً عن عوامل اخرى .
في الواقع ، لم يكن هناك خلاف جذري بين السعيد و الجمالي من حيث الارتباط سياسياً وعسكرياً بالغرب ، غير ان الاول كان يرى وجوب ترك المجال فسيحاً امام بريطانيا للعب الدور الأكبر في المنطقة ، بينما عمل الثاني من اجل ترك الولايات المتحدة للقيام بذلك ، غير ان المشكلة الثانية التي وقع فيها رئيس الوزراء اعتقاده بأن نفوذ السعيد العجوز قد وهن وضعف ، خاصة بعد ان اخذ "عبد الاله" بالاتجاه نحو واشنطون ، ناهيك عن ان الجمالي كان يظن ان مجلس النواب سيكون طوع بنانه ، خاصة وأنه كان رئيساً له ، رغم ان الاكثرية الساحقة تدين بالولاء للرجل العجوز . في غضون ذلك ، كان السعيد قد أدرك ما يدور في الخفاء ، لذا آثر الانتظار إلى حين حلول الظرف المناسب وقتما تحل ساعة النزال ليبرهن لعبد الاله وللجمالي ومن يقف خلفهما عن مدى قوته ، ولكي يضمن الفوز في الحلبة ، أو عز لاعوانه بعرقلة اعمال الوزارة الجمالية بأي شكل كان خاصة ، في مجلس النواب . ثم غادر بغداد إلى لندن للاستقرار فيها مصرحاً بأن ذلك يعود إلى احتجاجه على عدم
استشارته عند تأليف الحكومة الجديدة خلافاً للتقليد المعمول به منذ سنوات طويلة( ).
وبالفعل ، لم تمر الا شهور قلائل ، بذلت الديبلوماسية الأميركية في غضونها اقصى الجهد لإدخال العراق وسوريا ولبنان والأردن في مشاريع الدفاع المشترك دون اية نتيجة ، حتى وجد الجمالي نفسه مرغماً على الاستقالة في 19 نيسان سنة 1954 ، بعد ان عرقلت أغلبية السعيد إقرار بعض اللوائح في المجلس ونتيجة لزيادة الاوضاع تفاقماً واهتزاز البلاد نتيجة لسوء الاوضاع المعيشية التي وصلت ذروتها بإضرابات عمال نفط البصرة في أواخر سنة 1953 و إضراب عمال السكاير في بغداد ، وحدوث الفيضان الهائل الذي كاد يكتسح العاصمة بأسرها في آذار سنة 1954 .
وهنا اراد عبد الاله الانتقام بأي شكل من الاشكال ، كما ان السعيد اراد ان يعرف بالضبط مدى نوايا الأميركان نحو المنطقة وتجاهه شخصياً ، لذا فما ان استقال "الجمالي" وتم استدعاؤه لتأليف الحكومة الجديدة ، حتى اشترط الأخير ان يكون وزيراً للخارجية فيها ، فلما قوبل هذا العرض بالرفض ، اعتقد السعيد ان هناك مؤامرة ضده تستند الى قاعدة عرفية مفادها ان عليه ان يترك وحده امام غضب الرأي العام وسخطه ، سيما بعد اشتداد النشاط السياسي للأحزاب السرية حزب البعث العربي الاشتراكي والحزب الشيوعي والأحزاب العلنية ، فضلاً عن ان الإتجاه نحو تأليف جبهة وطنية تهدف إلى إحداث تغيير جذري في أوضاع العراق تبدأ بخوض الانتخابات لمجلس النواب سواء على يد العجوز أو غيره . وهنا عاد السعيد أدراجه إلى أوروبا متنقلاً بين لندن و باريس بانتظار تطور الأمور .
ومن الواضح ان البلاط كان غافلاً عن إدراك خطورة الوضع ، فقرر عبد الاله المضي قدماً في خططه الخاصة وبادر إلى المراهنة على حصان قديم لغرض تزييف انتخابات المجلس والقضاء على أغلبية السعيد ربما بأمل اعادة الجمالي إلى السلطة . وهكذا عهد إلى ارشد العمري بتأليف الحكومة الجديدة في 29 نيسان سنة
1954 . ولما لم تكن لدى الأخير اية فكرة واضحة عما يدور في الخفاء وعدم إدراكه ان مهمته مؤقتة ، فقد اختار زملاءه من كبار الموظفين ثم بادر إلى حل المجلس السعيدي تمهيداً لاجراء انتخابات جديدة . وكانت هذه فرصة لبروز الجبهة الوطنية في 12 مايس والتي ضمت الاطراف التالية : حزب الاستقلال ، الحزب الوطني الديموقراطي ، ممثل الفلاحين ، ممثل العمال ، ممثل الشباب ، ممثل المحامين ، ممثل الطلاب