مدير الشرطة يرفض طلب الحكومة مراقبة تصرفات الملك غازي

مدير الشرطة يرفض طلب الحكومة مراقبة تصرفات الملك غازي

د. أكرم عبدالرزاق المشهداني
تُشكل (ذكريات) و(مذكرات) عدد من كبار ضباط الشرطة العراقية التي صدرت خلال القرن الماضي، مرجعاً مهماً في سِفر تاريخ جهاز الشرطة العراقية، وتحليل لمحطات مشهودة من تأريخ هذا المسلك الذي شابته شوائب عديدة، وتعرض تأريخه للطعن والتحريف والتأويل، كلّ يراه من زاوية نظره وتفسيره ومرجعيته، فالبعض من السياسيين العراقيين

يرى في الشرطة أداة النظام وعصا للقمع والتنكيل والإضطهاد، وآخرون يرون غير ذلك وأنها مجرد جهاز حرفي، منطلقين من كون الشرطي إنما يمثل عصا القانون، وهو المنفذ للأوامر والتعليمات. ولايفترض أن نتخيل الشرطي سياسياً أكثر من السياسيين، فهو لا يعرف غير القانون والأوامر والتعليمات ولاشيء فوقها ولا بعدها.
ومن كتب المذكرات الشخصية المهمة التي دونها كبار ضباط الشرطة العراقية هي مذكرات المرحوم الفريق عبدالجبار الراوي، أحد أبرز قادة الشرطة في القرن الماضي، الذي دون فيها اهم الاحداث التي صادفته من خلال مسيرة عمله المضني في سلك الشرطة، وخصوصا في المراحل المبكرة من تأسيس الشرطة، وتنطوي تلك المذكرات على تفسير للأحداث، وعرض لتفاصيل الإجراءات والمواقف الميدانية التي تعرضت لها الشرطة في بغداد ومحافظات العراق، وسنحاول أن نسرد في هذه الحلقة من محطات من تأريخ شرطة العراق أهم الأحداث والمواقف التي واجهتها الشرطة العراقية، كما دونها الفريق الراوي في مذكراته.
عبدالجبار الراوي عسكري محترف ومتمرس، شارك في الحرب الأولى ضابطا في الجيش العثماني والتحق بعدها بالثورة العربية، وانتمى للجيش العراقي بعد تأسيسه 1921، وشغل منصب مدير إدارة البادية في الشرطة، ومتصرفا لألوية الحلة وكربلاء ومديراً للسجون وعميداً لكلية الشرطة ونائباً بالبرلمان بعد إحالته الى التقاعد عام 1955.
سيرته:
-الفريق عبد الجبار عبد الله احمد الراوي، من مواليد راوة 1898 شارك في الحرب العالمية الأولى ضابطاً في الجيش العثماني سنة 1916 وجرح أثناء حصار الجنرال ثاونزند في الكوت ومنح وسام الحرب .
-أنضم إلى قوات الثورة العربية سنة 1917 وعين في جيشها الشمالي برتبة ملازم أول وتولى فيه وفي جيش الحكومة العربية في الشام واجبات مختلفة، وبعد سقوط دمشق في يد قوات الاحتلال الفرنسي، عاد إلى العراق .
-انتمى إلى الجيش العراقي عند تأسيسه في سنة 1921 برتبة ملازم أول، ونقل إلى الخدمة في الشرطة سنة 1922 لقيادة بيرق الهجانة الشمالية، وتدرج في الوظائف والرتب من معاون شرطة (ملازم أول) إلى درجة مدير شرطة عام (برتبة فريق)..
وسام الرافدين في العهد الملكي
-منح أوسمة عديدة منها: نوط معان، نوط الاستقلال، وسام النهضة، وسام الرافدين.
-تم انتخابه نائباً في المجلس النيابي سنة 1958 وأختير لعضوية مجلس (الاتحاد العربي). له مؤلفات عديدة أشهرها : كتاب (البادية) وطبع ثلاث طبعات. وكتاب (أحكام من القرآن) وطبع طبعتين، ومخطوطة بعنوان (من ثمرات المطالعة) .
-توفي في بغداد يوم 26/12/1987 ودفن في مقبرة الكرخ .
المناصب والمسؤوليات التي شغلها الراوي:
يقول الراوي صاحب المذكرات:
((عملت بشرطة بغداد عدة مرات، في أوقات مختلفة، تغيرت فيها المناصب والمسؤوليات، فقد عملت معاوناً لمدير شرطة لواء بغداد في العشرينات وعملت مديراً لشرطة لواء بغداد في عقد الثلاثينات كما عملت معاوناً لمدير الشرطة العام للحركات، ثم مديراً عاماً للشرطة في عقد الأربعينات وأخيراً عميداً لكلية الشرطة في الخمسينات)).
كما عهدت إليه وظائف :
مدير إدارة البادية، متصرف لواء الحلة، متصرف لواء كربلاء 1939، مدير السجون العام، ثم عميد كلية الشرطة (مدير المدارس) وأحيل إلى التقاعد سنة 1955.

ذكريات من معاونية شرطة بغداد في الكرخ في العشرينات:
يضيف الفريق عبدالجبار الراوي:
(( التحقت بوظيفة معاون مدير شرطة لواء بغداد في الكرخ في 17 تشرين الأول 1926 وكانت تشكيلات مديرية شرطة لواء بغداد حينها تتألف من المدير، تتبعه خمس معاونيات وهي :
1.معاونية السراي: وتشمل المنطقة ما بين الشورجة والصليخ وبضمنها الأعظمية.
2.معاونية العبخانة: وتشمل المنطقة الممتدة ما بين الشورجة حتى الباب الشرقي.
3.معاونية الكرخ: وتشمل مناطق الكرخ وكرادة مريم والكاظمية والمحمودية ونهر دجلة بكامله ضمن حدود بغداد.
4.معاونية الكرادة الشرقية: وتشمل المنطقة من الباب الشرقي وحتى سلمان باك (المدائن).
5.معاونية شرطة سامراء: وتشمل سامراء والدور وتكريت وبيجي ((وجميعها كانت نواحي تتبع قضاء سامراء التابع لبغداد)).
وكانت قوات الشرطة مؤلفة من فرسان ومشاة فقط، ولم تكن فيها سيارة مسلحة أو سيارة للنقل وكان لمعاونية شرطة الكرخ زورقان صغيران يتسع الواحد منهما لخمسة أشخاص).
ويذكر الراوي أنه كان مخولاً (سلطة محقق) من وزير العدلية، لذا كان يحضر التحقيق في جميع جرائم الجنايات التي تحدث ضمن المنطقة، وكان يقوم بتنظيم التقارير الخاصة بالجرائم الواقعة.
الموظفون البريطانيون في الشرطة
كان للموظفين البريطانيين المنسبين الى مسلك الشرطة في تلك المرحلة، نفوذ وسلطة كبيرين، فمثلا كان في مقر شرطة بغداد ضابطا تفتيش بريطانيان هما (الميجر بتلر) و (الكابتن ولكنس)
وكان الضباط العراقيون، ومنهم مدير شرطة لواء بغداد، يتهيبون منهما ويحسبون لهما حساباً. وهذان الضابطان كانا تابعين لمفتش عام الشرطة (الكولونيل بريسكوت) وهو كان صاحب نفوذ وسلطة في مديرية الشرطة العامة، و يستمد سلطته من مستشار وزارة الداخلية المدعو (كنهان كورنووالس)، ومع ذلك فيروي عبدالجبار الراوي في مذكراته ان مدير الشرطة العام في العشرينات (الحاج سليم) كان يقف بوجه الكولونيل بريسكوت بقوة ويتصدى لنفوذه، ولا يسمح له بالتدخل في قرارات الشرطة .
وكان في مركز شرطة السراي عريف بريطاني يدعى (سير جنت دين) ومفوض تدريب هندي اسمه (واجه) يقومان بتعليم المراتب الذين يعينون حديثاً في قاعة تقع عند سطح مديرية شرطة لواء بغداد .
الراوي يحارب الفساد في الشرطة:
يقول الراوي في مذكراته:
((تبين لي من خلال تحقيقاتي، أن مأمور مركز شرطة الكرخ (المدعو توفيق) كانت له علاقة بالسراق، وكان متفقا معهم حول السرقات، وذلك لأنه كان ملتزما من قبل ضابطي التفتيش البريطانيين، وحين أصررت على إحالته للمحكمة، بعد أن كشفت هذه العلاقة المشبوهة، فقد دبرت لي مكيدة وتم نقلي إلى شرطة بعقوبة في 24/5/1927.
وبعد التحاقي بشرطة بعقوبة جاء مدير الشرطة العام الحاج سليم إلى لواء بعقوبة للتفتيش، فقال لي:
لقد عاقبنا المفوض توفيق بتنزيل الدرجة مع غرامة نقدية، فهل يرضيك هذا ؟.
قلت له:
كنت افضل أن يساق إلى المحكمة لكي تبرهن الشرطة بوضوح إنها لا تتستر على عيوب المنتسبين اليها، ولكي يكون هذا الإجراء رادعا للآخرين الذين تحدثهم نفوسهم بالإساءة إلى واجباتهم، وفعلا تمت إحالة المفوض المذكور الىالمحكمة وعوقب)).
الراوي يشغل منصب مدير شرطة لواء بغداد
في الثلاثينات كان المنصب الأول الذي شغله الراوي هو معاون مدير الشرطة العام للحركات، إلا إن وزارة الداخلية طلبت منه في 25 ايلول 1935ان يشغل منصب مدير شرطة لواء بغداد، ويقول الراوي:
((قد وجدت في بغداد بعض الأمور التي عددتها مخالفة للعدالة، إذ كان المشبوهون بالسرقات يحتجزون في المراكز ليلاً، خوفاً من ارتكابهم السرقات. فلم أقتنع بهذا الإجراء لأنه مقيد للحرية، ومخالف للعدالة، فالشخص أما أن يكون بريئاً فتترك له حريته، وإما أن يثبت ارتكابه جرماً ما، فيجب تقديمه إلى المحاكمة، لذلك أبطلت هذا الإجراء، وأنشأت خفارة للمراكز، وأخرى لمراقبة الدوريات، وجعلت هذه الدوريات مع الحراس مسؤولين عن حوادث السرقة التي تقع ضمن مناطق واجبهم، باعتبارهم أما شركاء في الجريمة أو مهملين لواجباتهم... وكنت كلما حدثت سرقة في منطقة ما، طلبت توقيف حراسها ودورياتها باعتبارهم مهملين لواجباتهم . وباتخاذ هاتين الخطوتين انعدمت السرقات في العديد من مناطق العاصمة تقريباً. الأمر الآخر الذي لم يرقني، هو قيام الشرطة، خلال الليل، بطرق أبواب الأشخاص المحكوم عليهم بوضعهم تحت مراقبة الشرطة ليظهروا مبرهنين وجودهم في الدار، خاصة الأشخاص المحكومين بقضايا سياسية، لذلك أصدرت أمرا بإبطال هذا الأسلوب غير المقنع، والذي يزيد من كراهية الشرطة، لقد كان كل همي أن ينام الناس في بيوتهم مطمئنين ملء عيونهم آمنين)).

قصة توقيف جورج نعيم:
في أحد الأيام، كان وزير الداخلية على خط الهاتف، يحادث مدير شرطة بغداد عبدالجبار الراوي، طالبا منه أن يقبض فورا على شخص اسمه (جورج نعيم)، فما كان من مدير شرطة بغداد إلا أن يجيب :
(سيادة الوزير، من الأفضل أن يأتيني هذا الأمر عن طريق متصرف لواء بغداد).
فوافق الوزير –على مضض - على ذلك، وبعد أقل من ساعة كان المتحدث على الهاتف هو متصرف بغداد شخصيا، وهو يطلب من مدير شرطة بغداد توقيف نفس الشخص (جورج نعيم)، فما كان من مدير شرطة بغداد إلا أن يطلب من متصرف بغداد أن يعزز هذا الأمر الشفهي تحريريا، لكن المتصرف انزعج، وأبدى امتعاضه من اصرار الراوي على عدم تنفيذ امر الوزير وامر المتصرف، لكن مدير بغداد أصر على مبدئه موضحا للمتصرف أن هذا هو الطريق القانوني السليم، لأن الشرطة لا تقبض على الناس دون أوامر قبض صريحة وتحريرية وواضحة مع ذكر التهمة.
مدير الشرطة يرفض امر الحكومة بالرقابة للحد من تصرفات الملك غازي الشخصية
عدّت وزارة ياسين الهاشمي بعض سلوك الملك غازي وتصرفاته الشخصية لا تليق بملك البلاد، لذلك فقد أقدمت وزارة الداخلية على بضعة إجراءات وابتداءً من 14 حزيران 1936 للحد من تصرفات الملك.
فأحدثت مثلا مخفرا للشرطة بجوار قصر الملح – الحارثية - الذي اتخذه الملك قصرا ثانيا له يقضي فيه اكثر اوقاته. ولم تكتف الوزارة بذلك، فأرادت أن تبعد عنه سائق سيارته (إبراهيم)، إلا أنها اتبعت طريقة غير مألوفة، فبدلاً من أن تتبع الإجراءات القانونية، فقد طلبت من مدير الشرطة العام أن يهيئ أشخاصاً يتشاجرون مع السائق المذكور في إحدى الليالي، لاتخاذ ذلك ذريعة لتوقيفه وإبعاده عن مصاحبة الملك.
ولما جرت محادثة مدير شرطة بغداد بذلك، فقد استنكر هذا الإجراء وقال لمن بلغه الأمر:
إنه من العار على الحكومة أن ترتكب مثل هذا التزوير الشائن، ولكن في إمكان الشرطة القبض على السائق وزجه في السجن فقط في حالة مشاهدته وهو في حالة سكر بيّن، أو عند ارتكابه جرما مشهودا، وبخلاف ذلك يمتنع مدير بغداد عن المشاركة في تنفيذ إجراء غير قانوني!!.

يقول الراوي في مذكراته :
((إن معارضتي للأمر ليس فقط لأنه يمس ملك البلاد، ولكن لأنه مخالف للقانون والعدالة، ولاعتقادي إن كل حكومة تزور الحقائق مهما كانت الغاية من ذلك العمل، تمهد لنفسها الزوال).
الراوي في منصب مدير الشرطة العام
شغل عبدالجبار الراوي منصب مدير الشرطة العام في 6 حزيران 1945 في ظروف صعبة، في أثر انهيار ألمانيا النازية واستسلامها للحلفاء في 8 أيار 1945 باعتبار إن العراق كان حليفاً لبريطانيا في تلك الحرب.
كما حصلت حركات الشمال على إثر حركة الملا مصطفى برزاني، وعزيز ملو في الشمال، إضافة إلى تفاقم الواجبات الاعتيادية للشرطة.
وعند تسلمه مهمات وظيفة قيادة الشرطة العامة فقد كان يتبعها 14 مديرية شرطة لواء إضافة إلى مديريات شرطة السكك والكمارك والسفر والجنسية والإقامة والمرور والمخابرة والقوة السيارة والمدارس والبادية الجنوبية والبادية الشمالية وبادية الجزيرة، فضلا عن تشكيلات المقر وهي : التفتيش والحركات والتحقيقات الجنائية (التي أصبحت فيما بعد الأمن العامة) والإدارة والمحاكم والصحة .
خطة العمل التي اتبعها عبدالجبار الراوي:
يقول عبدالجبار الراوي في مذكراته:
((لقد مارست العمل في سلك الشرطة 24 سنة أمضيتها في شمال العراق وجنوبه وشرقه وغربه وفي البوادي والمدن، واكتسبت خبرة عن محاسنه ومساوئه، حتى توليت منصب مدير الشرطة العام. وإذا كنت قد رسمت خطة وعينت لها أهدافاً، فإن ذلك لم يكن ارتجالاً وإنما كان نتيجة تفكير يعتمد التجربة وكانت خطتي في العمل ترمي إلى ثلاثة أهداف :
1. رفع مستوى ضباط وأفراد السلك .
2. تقوية قوات الشرطة وجعلها قادرة على القيام بواجباتها .
3. جعل الشرطة خادمة للشعب حقاً وصدقاً)
تطوير الجهاز
كان الراوي أول من وضع نظاما في عدم ترقية (معاون مدير شرطة) إلى درجة (مدير شرطة) ما لم يجتز دورة الضباط العليا أولا،ً ثم يقود بنجاح فوجاً من أفواج شرطة القوة السيارة ثانياً، حتى يصبح معلوماً للجميع في سلك الشرطة أن التعلم والثقافة والتجربة العملية هي الطريق الوحيد للتقدم.
وقد حدث أن طلب وزير الداخلية منه إصدار أمر إداري يتضمن ترقية (بهجة العطية) وكان وقتها وكيل مدير شرطة لواء الديوانية،إلا أن الراوي رفض إصدار أمر ترفيعه، وأصر على التمسك بخطته المشار اليها، لأنه لا سبيل إلى ترفيع أي ضابط مهما كان موقعه، من معاون (نقيب) الى مدير شرطة (رائد) مالم يدخل الدورة، وينجح فيها، ومن ثم ينجح في قيادة فوج في القوة السيارة، ومن ثم يرفع ويعاد إلى الديوانية، وهكذا لم يتم ترفيع بهجت العطية طيلة مدة وجود الراوي في رأس الشرطة العامة، يقول الراوي:
((ليس ذلك لأن بهجت العطية لا يستحق الترفيع، بل من أجل الإلتزام بالخطة التي رسمتها لرفع المستوى المهني والكفاية العملية لرجال هذا المسلك . ولكي يعلم رجال الشرطة الآخرون إن هذا الأمر لا يخضع للمؤثرات ولا يستثنى منه أحد.
كما يذكر عبدالجبار الراوي في هذا المجال حادثة أخرى، فيقول:
((كنت قد ذهبت بصحبة وزير الداخلية إلى شمالي العراق أثناء حركات الشمال، وكانت دورة المفوضين البالغ عددهم (500) تلميذ قد تخرجت، فأمرت بتوزيع جميع خريجي الدورة على أفواج الشرطة السيارة في منطقة الحركات في الشمال، وطلبت من صالح حمام، وكيل مدير الشرطة العام يومئذ، أن يتم تسفيرهم جميعاً ليتسنى لبدائلهم العودة إلى بغداد والألوية الأخرى، فلما عدت لبغداد وجدت أنه قد جرى توزيعهم جميعاً ما عدا المفوض (شهاب المختار)، فاستفسرت من صالح حمام عن سبب تأخيره، فأجاب :
إن رئيس الوزراء توفيق السويدي قد طلب منه ذلك. فأنبته على استجابته لطلب رئيس الوزراء، لأن هذا الموضوع مسلكي وهو من صميم واجباتنا وليس لأحد مهما كانت درجته التدخل فيه . وأفهمته بوجوب تسفيره ذلك المساء، رضي رئيس الوزراء أم لم يرضى، فقام بتسفيره بالقطار في نفس اليوم، و من غير تلكؤ)).

العلامة الأثري يصف مذكرات عبدالجبار الراوي:
لقد قدم لمذكرات الراوي الواقعة بـ (217 صفحة) الأستاذ العلامة (محمد بهجت الأثري) الذي وصفها بقوله :
(وواقع هذا السفر، الذي بين أيدينا نقرأه، قد يجعله الفذّ أو الأول من مدونّات التاريخ المعاصر في بآبه وموضوعه، وفي جملة متطلبات التاريخ المثبت الممحص، التي تحدّث في النفس الوثوق به، والاطمئنان إليه، والاعتماد عليه. وهو في إيماءاته هذه إلى مضامين سفره، قد بالغ بتواضعه، تمشيا مع فطرته الطبيعية السمحة، فلم يخلع عليه من النعوت أكثر مما فيه، واختصر واقتضب، بل تسامح كثيرا فذهب يقول: إن (كتابه ليس سيرة شخصية، أو تاريخا للأيام التي عاصرتها، وإنما هو سرد للأحداث.. )، وهنا مكمن تواضعه ، فما كتابه كما توهم عبارته بالسرد الإنشائي ، ولكنه ذخيرة ضخمة من مادة تاريخية وافرة وخصبة ، تولّدت عنده من المعاناة في ثلاثة عهود من عهود العصر الحديث ، تداولت الحكم والسياسة والإدارة في العراق . وقُدر له منذ نشأته الأولى أن ينغمس في جوانب منها ، ويشغل أنواعا من الوظائف العسكرية والإدارية والمدنية ، متدرجا في رتبها ، رتبة بعد رتبة ، ثم يقتحم ميدان السياسة العامة في مضطربها الواسع ، وتستوي له من جملة أطوار حياته من التجارب هذه الذخيرة يودعها سفره في أصفى صورة ، وأصدق أداء).
ولكن ما يقوله العلامة الأثري يكشف جانبا من أهمية هذه المذكرات وليس الأهمية كلها ، لان قيمتها الكبرى تتمثل في جوانب أخرى هامة منها :
أنها تكشف الكيفية التي بني فيها العراق الحديث من خلال شهادة رجل عاش لهيب الأحداث وتسنم مناصب كثيرة جدا ، كما أنها تُلقي الضوء على متغيرات في الحياة العربية سياسة واجتماعا أحاطت بها شكوك وتناقضات مربكة . أضف إلى ذلك أنها وثيقة اجتماعية وأنثروبولوجية لا تقل قيمة عن كتب احتفينا بها طويلا كتبها باحثون ورحالة أجانب مثل ثيسيفر في كتابه عن الأهوار.
لقد عاش الراوي وقائع ثلاثة عهود كان فاعلا في كل منها وشاهدا حيا على أحداثه وصراعاته فحقت تسميته بالضابط المخضرم:
ففي العهد الأول الذي كان فيه العراق تابعا للدولة العثمانية كان الراوي من ضباط الجيش الذي كان يحاصر القوات البريطانية بقيادة الجنرال ( تاوزند ) في الكوت ، ويصد في الوقت نفسه هجمات القوات البريطانية الأخرى التي تحاول فك الحصار. ويعرض هزيمة تاوزند ثم اندحار القوات العثمانية ودخول الجنرال مود بغداد ويصف حالة بغداد آنذاك ومعاملة البريطانيين للضباط والجنود الذين تخلفوا عن الجيش العثماني المنسحب .
أما في العهد الثاني الذي خضع فيه العراق للاحتلال البريطاني فقد تطوع كضابط في الثورة العربية وانتقل بحرا عام 1917 للالتحاق بجيش الثورة الشمالي ووصف أوضاع جيش الثورة منذ انضمامه إليه حتى دخوله دمشق، وتتويج الأمير فيصل ملكا عليها ثم إسقاط الجنرال”غورو” هذه الحكومة وتشتت العاملين فيها وعودته الخطيرة عبر الصحراء .
وفي العهد الثالث ؛ العهد الوطني وإنشاء الحكومة العراقية فقد وصف الوضع بعد ثورة العشرين وإعلان العفو العام ودعوة الضباط العائدين وهو منهم للتسجيل في وزارة الدفاع عام 1921 ، ثم سلسلة المناصب الطويلة التي تسنمها – وأغلبها هام عاش بفعلها خضم أحداث جسيمة منها : قيادة الهجانة الشمالية والخلافات العشائرية وولاءاتها وسلوكها ، قدوم عصبة الأمم إلى الموصل بعد مطالبة تركيا بها ، ثورة من سمّوا ” الإخوان ” النجديين أيام كان مديرا للبادية ، تمرّد عشائر الديوانية عام 1935 لما كان مديرا لشرطتها ، انقلاب بكر صدقي لما كان مديرا لشرطة بغداد ، تمرد الملا مصطفى البارزاني وعزيز ملو لما كان مديرا عاما للشرطة . وقد رصد تفصيليا التحولات الإدارية والاقتصادية في العراق من خلال ملاحظاته حول الزراعة والعلاقات الزراعية ، وقانون إدارة الألوية ونظام دعاوى العشائر والتدخل الحكومي في الانتخابات النيابية لما كان متصرفا للحلة ، وأوضاع السجون لما كان مديرا عاما للسجون ، وكيفية ترشيحه للمجلس النيابي وانتخابه نائبا عن لواء الدليم ، وأخيرا اختياره لعضوية مجلس الاتحاد العربي إلى قيام الثورة على الملكية في 14 تموز 1954 .
إن مذكرات عبدالجبار الراوي تعد وثيقة اجتماعية وانثروبولوجية لأن الراوي يقدم وصفا تفصيليا لحالة كل مدينة كانت محطة في سفره الطويل ، فعلى سبيل المثال حين التحق بجيش الثورة العربية الشمالي فإنه يقدم وصفا لأحوال المدن من حيث عمرانها وأهميتها الاقتصادية والجغرافية وطبيعة سكانها وعاداتهم وتقاليدهم وأحوالهم المعيشية ، مثل بومبي وكراجي وبور توفيق والسويس والعقبة ومعان والقطرانة وعمّان ودرعا ودمشق وتدمر والسخنة ودير الزور ثم راوة . وقد قدم مثل هذا الوصف عن المدن العراقية التي تولى مناصب فيها مضيفا إليها وصف أحوالها الديموغرافية وحالتها الإقتصادية وطرقها المهمة وأنهارها وعشائرها الرئيسية ومشكلاتها والحوادث المهمة التي وقعت فيها وسلوك الضباط البريطانيين وصداماته بهم لأنه كان يرفض تدخلاتهم . ومن المدن التي وصفها الموصل ولواء الدليم ولواء وديالى (خانقين وبلدروز والنفط خانة ومندلي ) والديوانية والبادية ( التي وضع كتابا مستقلا عنها طبع ثلاث طبعات) والحلة وكربلاء .
ومن المفارقات التي تثير الألم في النفس أن نجد المدن العراقية قي الثلاثينات من القرن الماضي أكثر ثراء منها الآن ، ففي إحصاء عام 1927 كان في ديالى ( 800000 ) شجرة نخيل و ( 82474) شجرة مشمش و ( 68775) إجاص و ( 60000) برتقال ، أما الماشية فالغنم (275032) والماعز ( 87643) والإبل (9461) والجاموس (2298) ، عدا ما يُهرّب ويُقدّر بالضعف .
وفي شأن السلوك السياسي سوف تكتشف الكيفية التي يمزق بها السياسيون الإنتهازيون نسيج الشعب من خلال اللعب على المسألة العشائرية .
يقول الراوي : ( مذكراتي التي دونتها قبل أربعين عاما ، وأستعرضها اليوم مملوءة بالشكوى والألم ، حتى أنني كنت أجهر بأنه يجب محاسبة السياسيين في بغداد ومعاقبتهم قبل معاقبة هؤلاء الذين تمردوا بإغواء منهم ، لأنها فتنة ليس من المصلحة إثارتها ، إذ هي تشبه اللعب بالنار التي قد تحرق صاحبها قبل غيره . إن مجيء وزارة تمثل كتلة عشائرية معناه إثارة الفتنة التي قد تؤدي إلى محنة في البلاد ، وهي حديثة عهد بحكم نفسها يجهل عامة الناس ألاعيب السياسة ومسالكها التي يحرص المتمرسون والمحترفون فيها على استغلال بساطة الناس وعواطفهم ، ولاسيما أبناء العشائر).
وفي مسيرة الثمانين عاما يدهشك السلوك المبدئي ؛ السياسي الذي لا يعلي غير مصلحة العراق والإداري الذي لا سلطة فيه إلا للقانون ، وهذا الأمر أدخل الراوي في مشكلات وصدامات كبيرة ذكرها تفصيليا . وفوق هذا كلّه فإن المسيرة الثمانينية بأكملها تترفع عن أي سلوك ميكافيلي يقوم على أساس أن الغاية تبرّر الواسطة . وهناك عشرات الأمثلة خذ منها ما يتعلق مثلا بسلوك الملك غازي .يقول الراوي أيام كان مديرا لشرطة بغداد:
(عدّت وزارة ياسين الهاشمي بعض سلوك الملك غازي وتصرفاته الشخصية لا تليق بملك. وابتداء من 14 حزيران 1936 أقدمت الوزارة على أعمال للحد من تصرفات الملك . فأحدثت مخفرا للشرطة بجوار قصر الملح الذي اتخذه الملك قصرا ثانيا له يقضي فيه أكثر أوقاته . ولم تكتف الوزارة بذلك ، فأرادت أن تبعد عنه سائق سيارته إبراهيم ، إلا أنها اتبعت طريقة غير مألوفة ، فبدلا من أن تتبع الإجراءات القانونية ، طلبت من مدير الشرطة العام أن يهيئ أشخاصا يتشاجرون معه في إحدى الليالي ، لاتخاذ ذلك ذريعة لتوقيفه وإبعاده
عن الملك .
ولما جرت محادثتي بذلك استنكرته قائلا : إنه من العار على الحكومة أن ترتكب مثل هذا التزوير الشائن ، ولكن في الإمكان القبض على السائق وزجه في السجن حين يكون في حالة سكر . وأصررت على مخالفتي هذه الأعمال وأمثالها ، وامتناعي عن المشاركة فيها ، لا لأن ذلك ضد الملك فحسب ، بل لأنه عمل مخالف للحقيقة والعدالة ، ولاعتقادي أن كل حكومة تزوّر الحقائق ، مهما كانت الغاية من ذلك العمل ، تمهد لنفسها الزوال ، فلما رأى مدير الشرطة العام إصراري على موقفي ، تجاوزني ، واتفق مع أحد المعاونين على غير علم مني ، ودبر للسائق ما أسلفت ذكره من الخطة لتوقيفه).

سيرة تستحق التخليد:
من المؤسف أن سيرا عراقية وعربية كبرى مثل هذه تمرّ دون أن تحظى بالاهتمام الكافي بها إعلاميا ونقديا .
لقد اهتم الإعلام الغربي بدور ” لورنس ” بصورة واسعة حتى صنعوا منه أسطورة هائلة ، في حين أن حياة الكثيرين من ضباط الثورة العربية من العراقيين – ومنهم السيّد ” عبد الجبار الروي ” – توازي حياة لورنس وتكاد تفوقها . حياة ملحمية زاخرة بالمخاطر الجسيمة والتضحيات وروح الفروسية والمعارك القومية والوطنية الهائلة التي تغطّي كتبا وأفلاما ومسلسلات.