كلاسيكيات  السينما: عناقيد الغضب

كلاسيكيات السينما: عناقيد الغضب

حميد مشهداني
اود الكتابة عن فيلم صنع قبل اكثر من 70 عاما، من مفارقات التاريخ الذي اعتاد كتابة نفسه كل بضعة عقود تجعل منه وثيقة نادرة في تاريخ السينما. الفيلم يتحدث عن نتائج الكارثة الاقتصادية التي عانتها”أميركا”في عام 1929، وتاثيرها على حياة الملايين من الاميركان الفقراء الذين قدموا إلى هذه الارض من كل اطراف العالم بحثا عن”الحلم الاميركي".

وهم على وشك تحقيق احلامهم و بجهود شاقة في ظروف قاسية، تعلن”بورصة”نيويورك افلاسها و مع هذا السقوط يتساقط العديد من أصحاب الاسهم، و مدراء البنوك من نوافذ ناطحات السحاب كما حشرات في حالة انتحار جماعي..... اليوم، و نحن نعاني أزمة اقتصادية و مالية خطيرة تدخل في عامها الخامس على المستوى الاوربي بشكل خاص و العالم بشكل عام نشاهد بالم تسريح مئات الوف من العمال و الموظفين كل يوم، ثم مصادرة البيوت من قبل البنوك الفاشلة، الفارق الزمني بين الازمتين هو 80 عاما، في الازمة الاولى و كما ذكرت انتحر العديد من مسؤولي البنوك و اصحاب الاسهم بسسبب سوء ادارتهم، و جشعهم ومساهمتهم الضرورية في افلاس المؤسسات المالية، اليوم، يحصل العكس، فهؤلاء غادروا وظائفهم مع مكافات مالية لا يحسد عليها أمام فشلهم في الادارة. وفسادهم على حساب دافع الضرائب.
دون شك فيلم”عناقيد الغضب”1940 يعتبر واحدا من التحف للعظيم”جون فورد”1895-1973 الايرلندي الاصل، يتبنى فيه احدى الروايات الاميريكية الأكثر”ماركسية”للكاتب العظيم ايضا”جون شتاينبك”1902-1968 و التي كان قد كتبها قبل عام من صنع الفيلم حيث فاز بجائزة”بوليتزر”الادبية. الغرابة هنا هي عدم تطابق ايديولوجية الرجلين السياسية، فكما هو معروف عن الكاتب انه كان محرضا سياسيا، و يساريا كما نرى في معظم اعماله الاولى بسبب من اصله الطبقي الفقير، فهو كان من أبناء مقاطعة”ساليناس”الفقيرة انذاك في”كاليفورنيا”و مارس كل المهن الصعبة للعيش، من منظف الى مزارع ثم حارس اسطبلات الخيول. بينما كان”جون فورد”معروفا في افكاره اليمينية و المحافظة التي وثقها في العديد من افلامه اللاحقة.
الرواية”عناقيد الغضب”من كل جوانبها تعتبر من اكثر روايات”شتاينبك”ماركسية”كما اشرت سابقا، فيها يفصل هموم المواطن الاميركي الفقير الذي اصبح رمزا لملايين الاميركان الذين تضرروا اثناء سنوات القحط بعد نكسة الاقتصاد في 1929، و هذه حرقت”اليابس و الاخضر”في بلد شاسع كان محطة المهاجرين من كل انحاء العالم.
في مقابلة مع السينمائي و الباحث المستقل”بيتر بوغدانوفتش”يجيب”جون فورد”في اواخر ايامه عن سؤال هذا، و سر صناعته هذا الفيلم الذي هو في الاساس ضد افكاره السياسية المحافظة، كما يبرهن عليه كل تاريخه في الاخراج و صناعة السينما، هذا كان جواب فورد”ببساطة اعجبت بالفكرة لا اكثر، قرأت الرواية و كانت رائعة، و ايضا أعجبت بالسيناريو الذي كتبه”نونالي جونسون”1897-1977 الذي قدمه لي”داريل زانوك”مدير شركة”فوكس"
حينها، كان هذا بالنسبة الي مسألة شخصية، لانني أتذكر جيدا ما حدث في”ايرلندة”و لفقرائها حيث سلبت أراضيهم، و تركوا لمصيرهم هائمين لينتهوا امواتا من الجوع في نهايات الطرق، -ربما لهذا السبب-، لكن فكرة هجرة العائلة بكاملها اثارتني كثيرا، العائلة التي تتخذ قرارا مصيريا في سبيل الخلاص من هذا العالم الشرس".
في صيف 1936 كلفت صحيفة”سان فرانسيسكو نيوز”الصحفي الشاب اليساري"جون شتاينبك"1902 -1968 كتابة مجموعة من التقارير الصحفية حول الهجرة الجماعية من شرق و وسط امير كا الى”كاليفورنيا”التي ازدهرت فيها مزارع العنب و البرتقال، وهو شخصيا كان يسافر مع المهاجرين، و تمكن من انجاز 7 تحقيقات صحفية كانت تنشر بانتظام، فيها يصف هول الهجرة و قسوتها، و عناء الاف من العوائل التي فقدت كل شئ، من مزارع و بيوت بعد سقوط الاسواق المالية التي ليست لهم فيها لا ناقة و لا جمل، ولكنهم كانوا من اكثر المتضررين بعد مصادرة البنوك مزارعهم و حيواناتهم، في هذا السفر المرير كان الكاتب معهم، و عاش عن كثب طريق الهجرة الطويل و المتعثر ليصلوا”كاليفورنيا". من هذه التقارير الصحفية يتمكن الكاتب حياكة رواية مليئة بالقسوة من خلال واقعيتها المريرة و الموثقة.
في هذا الفيلم يؤدي الممثل العظيم”هنري فوندا”1905-1982 اجمل ادوار شبابه في شخصية الشاب”جوود”الذي يكتشف واقعا مؤلما، بعد اطلاق سراحه من السجن. البنك صادر كل املاك العائلة المتواضعة، و المزرعة و كل شيء ليقرر الهجرة من”أوكلاهاما”الى كاليفورنيا كما كل العوائل التي عانت شرور البنوك حينها، و يقود عائلته في سفر طويل بحثا عن لقمة العيش و امل العمل بكرامة، وبعد السفر المتعب و الجهد الخارق تصل العائلة مزارع عنب كاليفورنيا الواسعة، اي الارض الموعودة، ولكنهم سرعان ما يكتشفوا خبث الوعود، و قسوة و جشع ملاكي هذه المزارع الذين يستغلون حاجة هؤلاء و ضعفهم في ساعات عمل طويلة و شاقة برواتب تكاد لا تسد رمق العوائل هذه، و هؤلاء وجدت في منظمات”المافيا”الاجرامية قبضتها الحديدية في في منع تشكيل النقابات العمالية اولا، ثم سحقها بدون رحمة في اضراباتها اللاحقة، و”جوود”يكتشف لاول مرة انتمائه الطبقي رغم مروره بتجربة سابقة في اوكلاهاما، ليصير هذه المرة محرضا نقابيا واعيا خطورة المهمة التي ستضاعف العناء.
بدون شك، هذا من اجمل افلام”جون فورد"، ففي شعرية سينمائية رائعة ممزوجة بـ"دراماتية”الحدث الاجتماعي و الشرط الانساني في نهاية العشرينات حيث يعكس هموم الانسان المصيرية و اهمية التضامن و الاتحاد امام وجه الرأسمالية القبيح و جشعها، ليضع المشاهد متحيزا و بحق في موقفه امام هؤلاء البؤساء الذين سرقتهم وحشية و لا انسانية النظام المالي القائم انذاك، و ها هو يعود اليوم من جديد في حلة اكثر قسوة.
يحاكي فورد وضعا اجتماعيا و اقتصاديا مؤلما بالغا في الرداءة، فبعد السفر المتعب و الطويل يكتشف المهاجرون سراب الارض الموعودة، و ان جهدهم و عملهم اليومي الشاق أصبح أقل ثمنا من السابق، و رغم هذا لم يسقط في ديماغوغية الشعار السياسي، أكتفى بتصوير الرواية كما كتبها”شتاينبك"، و بمناسبة الحديث عن التصوير يمدح المخرج المصور الشاب”غريك تولاند”1904-1948 الذي سيصور لاحقا مع”اورسون ويلز”اهم الافلام في تاريخ السينما”المواطن كين”1941، يقول فورد كان”تولاند”من أهم عناصر صناعة الفيلم، و قام بكل ما يستطيع، كنا نصور حتى الظلام حيث لاشئ امام الكاميرا، و كنت الح عليه اثناء التصوير المخاطرة في في عمل شئ مختلف في التصوير السينمائي، و هذا ما صار،”اما السيناريو الرائع كان على عهدة المخضرم”نونالي جونسون”1897-1977، و على قرب منه كان”شتاينبك”كمشرف على هذا.
عناصر الفيلم الاساسية ربما كانت ثلاثة، اذا أستثنينا مؤلف الرواية،”جون فورد”الذي يفوز الاوسكار، و هنري فوندا الذي في هذا يحدد مسيرته السينمائية اللاحقة و مواقفه السياسية و الاجتماعية امام العنصرية ليصير واحدا من اشهر نجوم هوليوود في مناصرة الحقوق المدنية في الولايات المتحدة، و المصور”غريك تولاند”في أروع تصوير سينمائي حتى ذالك الحين، و طبعا لا ننسى دور”جين دارويل”المميز، فهي كما الام الشجاعة. تمتزج في نضال صعب. و تحصل على الاوسكار ايضا في دورها الثانوي..
اخيرا، هذا المقال هو نتيجة ملاحظات عديدة اعتدت كتابتها منذ سنوات طويلة كل مرة فيها أشاهد فيلما كلاسيكيا، و رأيت مناسبا تجميع ما كتبته عن فيلم”عناقيد الغضب"، فهو رغم مرور العديد من العقود على صناعته يعتبر اليوم اكثر معاصرة من العديد من الافلام التي انتجت في الفترة الاخيرة حول الازمة التي تعاني منها اوروبا والعالم كله، و في اسبانيا بشكل خاص لانني كنت من اوائل ضحاياها، فيلم ملتزم، فيلم محترم، فيلم يستحق المشاهدة، كما يستحق المقارنة لان مزامير الرأسمالية القبيحة عادت العزف من جديد.

عن موقع إيلاف الالكتروني