ياام الشهيد جول جمال في دمشق سلام اليك من القاهرة

ياام الشهيد جول جمال في دمشق سلام اليك من القاهرة

تحقيق صحفي بقلم: عبد التواب عبد الحي وعدسة: محمود عارف
في عيد الام يذكر"المصور"امهات ابطالنا، اهدي لكل منهن باقة ورد، باقة لام البطل جلال دسوقي شهيد البحرية، باقة لزوجة الشهيد العقيد احمد عبد العزيز.. برقية لام البطل جول جمال الغالية في دمشق، وباقات اخرى لعدد من امهات ابطال الوطن..

و"المصور" يعترف انه لم يقدم باقاته لامهات ابطالنا جميعا، انهن بالملايين، والى كل منهن يرسل"المصور"باقة من العاطفة والعرفان لتصلها على عنوانها حيث تكون!..
لم اكن قد رأيتها من قبل، حتى صورها التي نشرتها لها الصحف لم تكن تعطي بوضوح تقاطيعها وشخصيتها، لهذا تصورتها في خيال بطلة، طويلة، عريضة، بادية الصحة، اسطورة!
ولكنني اضطررت ان اغير صورة السيدة مزيدة القصري في مخيلتي عندما قابلتها، اشجع ام ضحت بكليتها اليمنى لتنقذ حياة ابنتها ماجدة من مرض"التكلس الكلوي".. وجدتها انسانة رقيقة، نحيفة لدرجة ما، بيضاء البشرة كالملائكة، تتكلم بصوت خافت تتذوق فيه طعم حنان، تقول:
- انا لم اضح بشيء، اي ام في مكاني كانت تفعل نفس الشيء واكثر، ويا ريت العملية كانت نجحت.
* هل كانت كليتك سليمة مائة في المائة؟
- طبعا، وقد تاكد البروفيسور شاكمان من ذلك بعد ثلاثة اسابيع من الابحاث والتحاليل، والغريب انني كنت اشكو من مرض الكلى! اصابتني عقب وفاة ابي منذ 5 سنوات، لكن الاطباء اكدوا لي انه مرض وهمي، مرض عصبي او"نيوروتيك".
* كم يوما عاشت ماجدة بكليتك اليمنى؟
- 6 ايام، عاشها في شبه غيبوبة كاملة داخل غرفة الاوكسجين، لكن كميات الدم التي نزفتها اثناء العملية كانت اعظم من ان تعوضها عمليات نقل الدم، لهذا اصيبت بتهتك في المخ، وماتت المسكينة.
* ضحيت بكليتك اليمنى.. ماذا لو طلبوا منك كليتك اليسرى ايضا لانقاذ حياة ماجدة، هل كنت تتمادين في التضحية بعمرك؟
- بدون تردد!
* الم تحلمي بها.. هل جاءتك مرة في المنام؟
- حدث هذا كان ذلك قبل وفاتها بثلاثة ايام، رأيت فيما يرى النائم انني واقفة في محطة مترو لندن تحت الارض، وجاء المترو، ركبته ماجدة واختها الصغرى ميرفت، تحرك المترو قبل ان اركب، فجعت.. جريت وراءه خطفت ميرفت من الشباك واسرع المترو بعيدا وفيه ماجدة تلوح لي بيدها!
* وعزاؤك الان.؟
- قلب الرئيس عبد الناصر الذي امر ان تعالج ابنتي على حساب الدولة، وقلب السيدة قرينته التي ارسلت لي باقة ورد على البيت فور وصولي، وقلوب الناس كلهم، لقد اغرقوني من فيض عطفهم ومشاركتهم الوجدانية لي.
* وكم بلغت تكاليف العلاج؟
ورد"ابو ماجدة"– محمود القصري مدير فرع ادارة الكهرباء والغاز بالدقي -..:
- 1400 جنيه، خفضها الدكتور شاكمان الى 1200 جنيه، فقد تنازل البروفيسور العظيم عن 200 جنيه من اجره الشخصي!

سبقته امه الى رحاب الله
تذكرت ايام ثانوي.. ايام كنا نضرب عن الدراسة يوم 14 نوفمبر في كل سنة وتخرج في مظاهرة تهتف بذكرى الشهيد محمد عبد الحكم الجراحي.. وطنت في وجداني الذكرى وانا ابحث عن ام شهيد الجامعة، البطل الذي تحدى تصريح سير صامويل هور وزير خارجية بريطانيا!
اكتشفت ان للشهيد شقيقا يصغره بثلاث سنوات، المهندس علي الجراحي مدر عام التخطيط بوزارة التخطيط القومي، اكتشفت ايضا ان ام الشهيد – السيدة بهيجة عثمان – قد سبقت البطل الى رحاب الله، ماتت بالحمى الاسبانيولية التي انتشر وباؤها سنة 19 ماتت وعمرها 24 سنة، وعمر الشهيد محمد عبد الحكم 4 سنوات فقط!
قال لي المهندس علي الجراحي:"لا اذكر امي، لا اذكر شكلها، لكن بقدر ما اعي واسمع على السنة العائلة، كانت تحب محمد عبد الحكم حبا خاصا، كانت كثيرا ما تضبطه متلبسا بوحدته، عيناه زجاجيتان، سارح يتامل، كانت تقول: اني ارى مستقبلا مضيئا ينتظر محمد عبد الحكم، وماتت امي، وتولت رعايتنا – اخي وانا فليس هناك اشقاء غيرنا – خالتي السيدة اسماء عثمان، فكانت امتدادا لحياة امنا، وكان عبد الحكم يعاملها معاملة الام لا الخالة".
وعن البطل الشهيد حدثني شقيقه:"كان شاعرا واديبا، كان عضوا في جماعة ابولو التي كان يرأسها المرحوم الدكتور احمد زكي ابو شادي، الف ديوانا – عندي للان بخط يده! – باسم"الروح المسحور". كان رياضا، كان شجاعا، كان يشتعل بالوطنية، اذكر سنة 21، وكان عبد الحكم عمره 6 سنوات، كان تلميذا بالابتدائي، وكان كمال اتاتورك في قمة انطلاقته الثورية لتحرير تركيا، واضرب تلاميذ المدرسة ذات يوم وهتفوا مطالبين اتاتورك بان يجيء ليحرر مصر من الانجليز، واذا بعيد الحكم يتصدى لزملائه ويخطب فيهم لا ايها الزملاء، حاشا ان نستعين بتركي ليحرر وطننا، ان وطننا لن يتحرر الا على ايدينا"!
والكلام عن واقعة استشهاد البطل، حدثني المهندس علي الجراحي:"يوم 14 نوفمبر سنة 1935، كان سير صامويل هور وزير الخارجية البريطانية قد صرح بان دستور سنة 20 دستور صوتي – باق، والا عودة للدستور 22، وكانت عودة دستور 23 عن مطلب الشعب، وخرج طلبة الجامعة في مظاهرة، وعبد الحكم على رأس طلبة كلية الاداب، وصلت المظاهرة كوبري عباس"الجيزة الان"، فتح الانجليز الكوبري ليقطعوا سير المظاهرة، نزل طلبة الهندسة الى قاعدة الكوبري واغلقوه سارت المظاهرة الى الروضة، اعترضت قوات الانجليز وعلى رأسها"البكباشي ليز"المتظاهرين اطلقوا عليهم الرصاص، سقط الشهيد محمد عبد المجيد مرسي الطالب بكلية الزراعة فكان اول الشهداء، بدأ الطلبة يفرون من رصاص الانجليز، صرخ فيهم عبد الحكم، اثبت.. اثبت، ثم تقدم هو تجاه البكباشي البريطاني ليزن صاح فيه ليز، ارجع والا ساطلق عليك الرصاص، رد عليه عبد الحكم، اصرب ايها الجبانن واطلق عليه ليز ثلاث رصاصات اصابته في بطنه، وتلقى الشهيد الرصاصات الثلاث وهو يتقدم تجاه البكباشي البريطاني هاتفا، تحيا مصر.. تحيا مصر.
.. ثم سقط.. وفي مستشفى قصر العيني لفظ محمد عبد الحكم الجراح اخر انفاسه بعد 5 ايام".

"اشفع لي يا بني يوم اللقاء"
رمال فلسطين: دير البلح، 11 ابريل سنة 48، الجيوش العربية لم تدخل المعركة بعد، عبء المعركة في جنوب فلسطين يحمله البكباشي احمد عبد العزيز ورجاله، جماعة من المتطوعين مركزها قرية دير البلح، يرأس الجماعة عبد الرحيم عبد الحي المهندس بسلاح الصيانة.
غارة في الصباح كانت قد قامت بها القوات الاسرائيلية حامية مستعمرة كفار ديروم، بين المستعمرة ودير البلح كيلو متر واحد، قتل الاسرائيليون جميلة كانت ترعى الغنم، صرقوا 13 شاة احرقوا جرف القمح بالقرية.
في المساء قرر المهندس عبد الرحيم عبد الحي ان يغير بجماعته على مستعمرة كفار ديروم غارة استطلاعية، على ضوئها تقوم قوات البطل احمد عبد العزيز بهجوم انتقامي كبير ورسم قائد الجماعة – 24 مقاتلا – الخطة، 10 منهم يتسللون الى المستعمرة ليجمعوا المعلومات بمشاهداتهم ويبتوا الالغام حول الدشم القائد و14 مقاتلا يفرشون مواقعهم في نصف دائرة حول المستعمرة ليغطوا الباقين اثناء انساحبهم تجاههم.
تمت العملية بنجاح، انفجرت الالغام، انطلق الرصاص من الدشم الاسرائيلية يطارد الابطال المتسللين.. القائد المهندس عبد الرحيم عبد الحي ورجاله يردون على الرصاص بالرصاص وطلقات الهاون، اصيب زميله المهندس الزراعي محمد عبد الخالق برصاصة في صدره، انكفا وجهه في التراب، اسرع اليه القائد يرفع وجهه عن التراب ويسعفه، وفي غمرة اللهفة ارتفع رأس القائد دون ان يدري الى مستوى سحابة الرصاص المنطلقة من الدشم، اصيب برصاصتين في جبهته، وسقط المهندس عبد الرحيم عبد الحي بجوار زميله شهيدا.
ان ام الشهيد عبد الرحيم عبد الحي – السيدة نبوية حسن الشبيني 65 سنة – تعيش ايامها على ذكراه.. في 11 ابريل من كل عام تدهب الى مقبرة الشهداء بالعباسية، تضع باقة زهر على لحده، وتمضي اليوم تناجيه.
سألت السيدة ام الشهيد.
* ماذا تقولين له في مناجاتك؟
اجابتني:
- اطمئنه على ولديه"نادية"و"حسام"فالدولة تربيهما مجانا، اقول له، استشهدت لتعلي كلمة العروبة، وقد علت كلمة العروبة اطلب منه ان يشفع لي يوم اللقاء.

تأمل هذا المعنى!
دخلت بور سعيد كمراسل صحفي يوم 19 ديسمبر سنة 56 قبل ان تجلو قوات العدوان باربعة ايام، استطعت ان اتسلل الى بور فؤاد، وان اسجل بالصورة والكلمة تلك الافكار الملتهبة التي سجها الشهيد جواد علي زين العابدين حسن على جدران مخزن دخيرة بطارية السواحل، الفرقة التي قضى فيها الشهيد اياما قبل ان يجهز عليه جندي الفرقة الاجنبية الفرنسية الذي اطلق عليه الرصاص – وهو جريح – من الخلف!
واعيد الى ذاكرتك – بسرعة – قصة بطولة جواد، كان طالبا بالسنة الثالثة بحقوق القاهرة تطوع في قوات الفدائيين، وكانت بطاقة تطوعه تحمل رقم 1 كان قائد كتيبة كلية الحقوق اشترك بكتيبته مع الفرقة 18 مشاة بنادق – ابو عجلة وهي الفرقة التي صدر لها الامر بالصمود امام قوات اسرائيل لتغطية عملية الانسحاب، ثم انسحبت الفرقة 18 وغطت انساحبها قوات الفدائيين، ومن بينها كتيبة جواد حسني.
وعاد جواد الى القاهرة، امضى يومين فقط بين ابويه وشقيقته، ثم ودع امه ليسافر الى القنطرة، قالت له امه لحظة الوداع:"الا يكفيك يا جواد، لقد اديت واجبك نحو وطنك؟"ورد جواد:"لا يا امي.. انا لن استريح ما دام هناك جندي اجنبي واحد على ارض بلادي".
وقبلته امه، وقالته له – وهي البريطانية الاصل -:"الله يباركك يا ولدي، الله ينصرك على اعداء الوطن"!
وفي القنطرة سمع جواد ان هناك قافلة من نساء سيناء قادمة تطاردها قوات اسرائيل، فتوغل في سيناء حتى موقع على بعد 10 كيلومترات من القنطرة – هناك اشتبك، مع سريته، بمدفعه الرشاش – مع كتيبة – اسرائيلية! ظل يضرب من منتصف الليل حتى الفجر، ثم انفجر بالقرب منه لغم اصابه في ساقه اليمنى وفي صدره، واصرت سريته على العودة به، ولكنه ابى الا ان يواصل القتال وحده وهو جريح، وفي الليلة التالية"16 نوفمبر"التقى بطابور من الفرنسيين يزحف على القنطرة فواصل اطلاق النار وهو يغير مكانه كل يضع دقائق حتى ظن الفرنسيون انهم يواجهون جماعة كاملة، ثم اغمى عليه، وعلى ضوء النهار لقيه الفرنسيون منكفنا على وجهه واصبعه على زناد مدفعه، ووعيه غائب عنه! ونقلوه الى بورفؤاد، وهناك اغتاله جندي من الفرقة الاجنبية بعد ان استجوبوه اسبوعا.
ومن حين لآخر يجيء جواد لامه في المنام، تقول السيد خالدة:"جاءني اخر مرة.. طلب مني الا احزن، وان اطلب من ابيه ان يخلع رباط عنقه الاسود، وفي ناهية الحلم قال لي: انا حي يا امي.. انا حي عند الله".
وقلت لام الشهيد: ان ما قاله لك جواد في المنام هو نفس الاية الكريمة"ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله امواتا، بل احياء عند ربهم يرزقون".
ملحوظة: قرأت في مذكرات الشهيد جواد هذه الكلمات:"اذا بلغت المفكرة حد الايمان.. يلفت الشجاعة في تنفيذها حد الاستبسال"..
.. تأمل هذا المعنى:

امرأة لها قلب رجل
لم ار في حياتي سيدة بهذه"الرجولة"! السيدة امينة مراد"حرم الشهيد كمال الدين صلاح".
وقبل ان احدثك عن ارملة الشهيد ساحدثك عن الشهيد نفسه، كمال الدين صلاح كان عضو المجلس الاستشاري بالصومال، ايام كان الصومال – من 6 سنوات – خاضعا لوصاية الامم المتحدة، كان شعلة من النشاط، تفاني في عمله الجديد، اخذ قضية الصومال وكانها قضية تحرر وطنه، راح يبث الوعي في عقول الصوماليين، راح يطالبهم بالاتحاد ليسيروا باستقلالهم دون تعثر، ويحموه من اطماع المستعمر الايطالي.
ولم يجد المستعمر الايطالي منطقا آخر يرد به على كمال صلاح غير منطق الاغتيال، جاءوا بالحاج محمد، شخص مريض العقل وسبق له ان دخل مستشفى الامراض العقلية بمقديشو للعلاج، تسلطوا عليه، اغرقوه بالمال والهدايا قالوا له ان كمال صلاح خائن لقضية الصومال وتربص الحاج محمد بكمال صلاح في جفل اقامه"حزب ينادر"الصومال، وخطب كمال وقفز الحاج محمد قمة دهشة، انه يقول الصدق، انه يقول الحق، انه يطالب الصوماليين بالوحدة والاستقلال، ولكنهم قالوا له:"لا.. هذا خداع، اقتله فهو مضلل كبير!".
وعاد للحاج محمد ايمانه بالجريمة بعد ان هزه كلام كمال الدين صلاح، تربص له على باب القنصلية المصرية صباح 17 ابريل سنة 57، هاجمه بخنجره من الخلف، طعنه طعنتين اصابتا الرئة والطحال، وخرجت صحف روما في الصباح تهلل للتجربة وتقول ان دوافعها شخصية، وان الحاج محمد كان تلميذا لكمال صلاح في الازهر سنة 52، وان كمال صلاح فصيله من الدراسة، والحقيقة ان كمال صلاح لم يلتق بالحاج محمد الا لحظة مصرعه، والحقيقة ايضا انه لم يشتغل يوما بالتدريس في الازهر!
قلت للسيدة امينة مراد:
* بعد 6 سنوات من مصرع الشهيد.. ما هو عزاؤك الان؟
- عزائي ان رسالة الشهيد تمت كالزرع وخققت ثمارها، فقد استقل الصومال سنة 60 وعزاني اولادي: فريد، ليلى، والصغير هشام.
* اكملت دراستك واخذت ليسانس الاداب هل تنوين الالتحاق بعمل ما؟
- لقد كتبت لفترة مجموعة من المقالات في مجلة،"نهضة افريقيا"واعتقد ان انسب عمل لي هو الذي يتعلق بخدمة الناس: علاقات عامة صحافة، الخ، وسوف افكر جديا في العمل بعد ان يدخل فريد ابني الجامعة.
* عمرك 38 سنة، الا تفكرين في الزواج؟
- انا لا افكر في نفسي مطلقا، ان كل ما بقي من رسالتي في الحياة ان اربي اولادي.
وسألت الاولاد عن امهم، اجمعوا على انها"رجل"له قلب امرأة، تعاملهم بحزم وحنان! وقال لي هشام الصغير انه ادخر من مصروفه 4 جنيهات، سيشتري بها هدية لامه في عيدها!


المصور / آذار- 1963