عصمــــة اللغـــة وخفة الروي في      ذاكرة أرانجا

عصمــــة اللغـــة وخفة الروي في ذاكرة أرانجا

اسماعيل ابراهيم عبد
الرواية اشتغال متداخل الرؤى , متظافر الغايات, متعدد الآليات , يتوسع ليصير طموحاً إعلاميا ينشدُّ إليه الكثير من المبدعين والعاملين في الحقول والمؤسسات الإعلامية والمعرفية الأخرى.

لقد حظي الإعلام الحديث بانتشار تداولي تواصلي , واسع مادياً ومعنوياً , خلط لغات العالم وقنوات اتصاله , ومن ثم صارت اللغة الوسيطة , بل الهجينة , ظاهرة تهم الدارسين , ليس لأن ذلك دخل الى الرواية بشكل متسارع ومؤثر , وليس لأن الرواية هي فن العصر , ولكن لأن (الاتجاه التخاطبي الحديث يميل الى الواضح والمعلن والمباشر , والشكل القابل للتسويق , والمضمون الاستثنائي جدا). والعصر هو عصر الكثـرة والجمهرة لكل شيء , فلن يضيع الصغير بفعل الوجود الكبير, إنما العكس , كل شيء يكبر ويكبر ليصل ويقترب فيقترن بالمثال والمختلف.

ومن مهمات التداولية الجديدة /
1ـ تحييد لغة الأدب بتعويضها بالكلام والصورة والمتعة الحسيّة. 2ـ أنه يجمع المؤتلف مع المختلف , العاطفي والعمري , العفة والخرق , الشهوة والتقاليد, عصمة اللغة واستعمال اللغة. 3ـ اتساع وكثرة المتابعين عددياً ونوعياً وهو ما يبرز كفاءات القراءة دون الالتفات بدقة الى مبادئ التأويل الثقافي و كفاءة الإنتاج. ولأجل تحقق الهدف من التداول المعنى به فأن ذلك يستدعي وجود أدوات مختلفة الأداء. نراها أدوات عديدة. سنركز على نوعين منها لتعلقهما بتوجهنا في , رواية ذاكرة أرانجا للروائي محمد علوان جبر ,نحو التداول التعبيري , خصوصاً , ذلك المتعلق بالتبادل الاستعمالي للغة الروي.
الأدوات الكبرى / تستحصل من رهانات التعبير النصي حيث أن/ "النص يدل على الحقيقة وعلى الاحتمال وعلى الممكن.. وهذا يعني أن النص لايعبّر عن الحقيقة وحدها إنما يعبّر عن الاحتمال , بل والممكن والمستحيل إذا أردنا أن نذهب بالاستدلال الى أبعد مداه"( ). إذاً سنتعامل مع التعبير برهانات قيم التأويل المتصلة برهانية تداول الحقيقة والاحتمال والمستحيل. مع ذلك فأن هذا التعامل سطحي الى حد (ما). والسبيل الى تجاوز هذه السطحية ـ كما نرى ـ هو التركيز على الكفاءة التداولية. تتقيد الكفاءة التداولية ـ كما هو شائع ـ بالمنطق الاستدلالي. نستنتج من هذا كله الآتي/ أ ـ تلاشي علاقة المنتج بالمستَقْبِل: إن تشكل جمهور جديد للقراءة الجديدة هو تشكيل لطبيعة خاصة بجمهور , "تلاشت علاقته العضوية بالمنتج على نحو عام تقريباً"( ). ب ـ تهشم علاقة المنتج بالجمهور من خلال قوّة الكتابة: "الانسجام يجب أن يتهشم بواسطة قوّة الكتابة من خلال خلق عملية لامتناهية من اللعب بالمعنى"( ). ج ـ تداول الفهم القرائي هو إنتاج عمليات تحوّل المعنى: "إن القراءة هي إنتاج للمعنى الناشئ من العمليات التحويلية"( ) د ـ التداول تنسيق للنص ليسهل إدماجه بالتحليل. "التداول تسخيرلوصف ظاهر التناسق النصي لإدماجه في التحليل النصي"( ). هـ ـ تداول القص ازدواج نصي منعكس داخلياً: "إن الازدواج الذي يتعلق بالفضاء المنعكس الى داخل النص , يستدل عليه بما يتحرك به النص من رموز واستعارات وأقنعة معكوسة من خارج النص الى داخله"( ). لنمعن النظر في / [ آه.. كم أحب هذه الليالي التي نمضيها في غرفتي ونحن نتحدث عن كل شيء.. لا أشعر بهذا الإحساس مع أحد غيرك.. معك فقط يصبح لكل شيء معنى , بدءا من الغرفة التي تساقط كلسها والفوضى التي تعمّها , رغم أن أمنا تصعد كل يوم وتعيد ترتيب كل شيء وتوصينا بلهجة قاسية وهي تطلب أن نساعدها.. ـ لم يبقى إلا أن........ ثم تشير بإصبعها ناحية أكداس الكتب والأوراق.... ـ لكني سأحرقها يوما..... سأحرق كل هذه الكتب والمكاتيب.. ـ أعدك أن لا أفعل أماه... لا أفعل... شيئا.... يغضبك.... حينما تسمعك! وأنت تحدثها بطريقتك البطيئة , تتوقف ثم تبتسم وهي تضمك إليها: ـ سلام ولدي.. لا أقصدك... أقصد هذا الضيف , وهي تشير بإصبعها ناحيتي فتقاطعها.... ـ إنه أخي عازف الناي...! ـ كلا.. هو مجرد إبراهيم ملعون... يزورنا كالضيوف... يخرج من الصباح ويعود ليلاً وهو يتأبط كتبه وكيسه المنفوخ هذا.. وتشير ناحية كومة من الأكياس التي رصفتها في كارتون مليء بالقناني الفارغة التي تجبرني عـلى حـمـلها لـيـلا ورمـيـها فـي السـاحـة الـتي تحـولت الى مـكان هائـل للقذارة ] ( ). من المشهد أعلاه نرى بأن كفاءات التوليد القرائي تقع في إطار الفرائض / أ ـ وجود رهانات ثلاثة: الحقيقة , الممكن , المحتمل. ب ـ انقطاع المنتج عن نتاجه.ج ـ محدودية علاقة المنتج بالقارئ.
د ـ تداول تحول المعنى. هـ ـ التناسق بين أجزاء المقطع المنصص. و ـ توافق الانعكاس النصي مع المنجز القولي. * في المحور(أ) نجد رهانات الحقيقة تستمد وضعها من أدوات اللالغة , الغرفة. الأبن إبراهيم , سلام , الأُم , الكتب , القناني الفارغة. وهي موجودات تتبادل التعالق في الحوار والتودد وتقاطع الرؤى. فيما نجد المحتمل القرائي يستدل على ذاته بالعلائق المضمرة التي يشكلها القارئ , لوحده ولأجله , من خلال كشوفاته , وأراها في , انفتاح السرد على محمولات أحداث , أهمها , وجود مدفون من التأريخ , ليس في المشهد سوى ذيول منه , يمكن معرفتها عند إتمام القراءة , وهي , موت الأب , هجرة إبراهيم , مرض سلام. * في المحور (ب) تكون القطيعة التداولية بين المنتج ونتاجه في كونه وَضَعَهُ وغادر ساحة التأويل ويُعَبَّر عنها نقديا بموت المؤلف لولا أن المؤلف يستلف دور الراوي ليقول ما يراه جديرا بمكانته , فالمؤلف شخصية تقود القول وتتحكم بالأحداث.. وحتى لو أن هذه الشخصية لا دليل على وجودها كحضور سردي فأنه ما من أحد غير المؤلف من يقول الوصف والفعل والروي. ولسوف يكون الحضور معنويا للمؤلفين عند انزوائهم وراء مظلة أحد الشخوص الفاعلين!. ليس هذا ما يرسم خروج المؤلف من دائرة الفهم هنا , إنما التداول نفسه غير مرئي , فالتدوين أتمَّ مروية عن حياة وتأريخ أسرة كنموذج لحياة وتأريخ بلد.. أعني أن المدونة صارت وثيقة بيد البلد , أي , بيد ثقافة البلد.. لعلي أريد القول: أن أرانجا صارت ذاكرة ثقافية ليس ملكا للقارئ ولا للمؤلف , إنما لعلائم النهوض للتآلف بين ثقافات البلد القديمة والحديثة , المتناصّة مع قيم ثقافة التجديد والتحديث لرؤى الماضي من الإرث الحضاري الرافديني. * في محور (ج) يضع الكاتب علاقة افتراضية محدودة للعلائم الإشارية المضمرة مع الظاهر المروي يؤكد بها ضرورة التلاقي أفقيا وعموديا بين أركان القراءة: الرسالة , المرسل , المستقبل. ولسوف يقوم التداول باختزال ذلك عن طريق التحدي القرائي بين المؤلف والمتلقي في فهم البلاغات الثلاثة / ـ بلاغ الحادثة = الرواية = مشاهد مجزأة = مقاطع مروية. ـ بلاغ القص = السيرة = التأريخ = العائلة. بلاغ الجماليات = ألغاز = رؤى = ابراهيم وسلام وألام. ولهذه البلاغات لواحق هي / سلام : يروي حوادث حميمة لأنه الأبن المحبوب. إبراهيم: يتلقى اللعنات ويحظى بلقب عازف الناي. الأم : تحيل الى مبررات الحوادث القادمة المتعلقة بالصبر والجمال والعطاء والتفهم. اللغة : تتناوب بين السرد المبسط حين تكون لغة حميمية , وسرد فني بلغة بليغة حين تعبر عن حالات الهذيان , وتصير لغة ألغاز حين يدور السرد حول توقعات حدثية مضمرة. ـ المؤلف: يُراد منه أن يقرّب الحقيقة الروائية من الحقيقة الإجتماعية , فالوظائف الحقيقية الاجتماعية كحقيقة: "ليست أصلية مــن تركيب الـبـنـيـة الاجتماعية , إنـما تـتـعـلـق بمن يدركون الأشياء"( ). * في المحور (د) رهانات عدة منها: ـ أن العائلة فقيرة , ليس لها معيل , ليس فيها من يضحي عدا الأُم , ليس لها موارد , كل فرد يعيش بعالمه الخاص بعيدا عن المتغيرات الحياتية العامة , العائلة مبتعدة عن الحاجات المبتذلة للناس. ـ للعائلة تأريخ طويل , يبدأ من الأسى ثم يشارف على التحول نحو الحياة الموسرة , ولسوف يكون تأريخ الأسى جزءا من نقاء ترميم الذات وصيانتها من النكوص الى الماضي المذل. ـ العائلة حصيلة ممثلة لمجمع طيبة الأبناء وتفاني الأُمهات , مثلما هو مجتمع أهل أرانجا , كركوك. ـ ماضي العائلة نموذج للاجدوى في العمل والتفكير والتبصر برفقة الأنظمة الظلامية , اللاجدوى التي يراد لها أن تتصيّر قدرة مقاومة لصالح التحولات الجديدة نحو الحرية والثقافة المتنوعة المنفتحة. يوجّه هذا فعل فلسفي وجودي. تلك إذاً أربعة فرائض لتحولات المباني الغائية للمعنى يمكن تحديدها حسب إمكانيات ورغبة القارئ وقدراته في الكشف والتخمين , اللذان يزيدان في لذة التكثيف المشع بموحيات الدلائل المتعددة. يتعلق التحول ـ التخمين المعني ـ بالثقافة النقدية والعامة والتخصصية والنوعية , ودرجة التعلم , هذا التحول ليس سوى مستوى قرائي رفيع للتداول الدلالي بين أطراف الفهم المتبادلة (الموجّه , المُسْتَقْبِل , الأداة , الرسالة). * في المحور (هـ) علو جديد في التمهيد القرائي , أي ارتفاع لمستوى التداول الإنتاجي , هذا المستوى , بحسب فهمنا لمنطلقات البناء والدلالة لعبد اللطيف محفوظ , هو مستوى معرفي قوامه: "ـ التنافر الدلالي للسياق. ـ الإشارة المضمرة والعلامة الظاهرة. ـ الخطابية المموضعة مشهديا والخطابة الموجهة للفهم"( ). لنحاول تلخيص الموجهات القرائية السابقة بجدولة تحيل الى حكاية مجزوءة من النصوص والمشاهد الروائية للوصول الى بعض موجهات العمل بمستوييه التقني والدلالي. لسوف نرى الكيفية التي تمتلأ بها مفردات الروي في تركيب المشاهد المشيرة الى موضوعات كارثية لكن بواسطة حوارات ومناورات كلامية تتبنى اللغة الوسطى بعلائقها التداولية ذوات الآثار المباشرة وغير المباشرة. عندها تكتمل عملية بث الموحيات الثقافية للأفكار الفلسفية والإجتماعية السائدة في المرحلة الخاصة بفترة تأريخ العائلة , والتي هي ذاتها زمنية القول الحكائي في الرواية. لنتابع الجدول الآتي /

النص الساكن سياق مقتربات التنافر الإشارات المتبدلة الدلالة خطابية النوع النصي
آه..كم أحب هذه الليالي ليالي بغداد , ألف ليلة وليلة نرسيسية الحب قص خطابي مباشر
سأحرق الكتب حرائق بغداد والإسكندرية التدمير اللامتحضر للكتب والثقافة إيماء الى لاجدوى الخطاب الثقافي
سلام.. أقصد هذا الضيف! التنويه الى العطالة عن العمل التهكم والوعيد الإيحاء بالنفور والانعزالية
تشير الى القناني الفارغة التمرد على العائلة والمجتمع اللامبالاة والمازوكية الإفاضة بالقول غير المأثور

* في المحور (و) عودة الى تقدير التداول كما لو أنه مستويات تأويلية في درس نقدي يؤالف بين ذهنية القارئ , وذهالية المؤلف كقارئ , ورصانة الناقد كقائد لعملية التقييم المحايد. نرى بأن الدرس النقدي يأخذ ببعض خصائل القراءة (الإيزيرية) حيث تتمدد العبارة السردية بين طروحات الهيمنة الشخصية للمنتج والهلامية الدلالية للجمــلة المدروسة / ـ القوام الهلامي /في/عبارتين هما , معك فقط يصبح لكل شيء معنى , الساحة تحولت مكانا هائلا للقذارة. القوامان يجمعان الذهني (معنى) الى الذهالي (معك) الى الحسي (الساحة , القذارة). ـ التضليل الإشاري/ في / إنه أخي عازف الناي , كلا.. هو إبراهيم ملعون. العبارتان فيهما معنى مضلل حيث أن إبراهيم لايعزف إنما يكتب , والأم تلعنه وكأن لإبراهيم سلوكا لا أخلاقيا. القصد ـ في العبارة الأولى ـ هو , أن إبراهيم يكتب كما لو أنه يعزف فيخلق الأشياء الجميلة , ويقرأ مايكتب لأخيه كترويح له عن مرضه. وفي العبارة الثانية تكون حقيقة اللعنة نوعاً من التدليل على سوء الحظ اللصيق بإبراهيم. ـ الاستنكار وتقريع الذات / في /الغرفة تساقط كلسها والفوضى تعمها , أعدك أماه أن لا أفعل شيئا يغضبك. العبارتان تحتويان على الاعتذار وتقريع الذات بما يشكل العلائق الحميمية في الأسرة. ـ الحوار المستعاد / في جمل المشهد كافة / تقاربات تشي بوجود ذاكرة تقول الأشياء.. فالحوار ليس مكتملا ولاتوجد حركة مادية توجهه , فسلام على فراش الموت ويروي.. وإبراهيم بعدعشرات السنين يستذكر.. والأم لاملامح لها ولا وصف ولاهيئة فهي صورة مستعادة من الذاكرة , وحتى المكان ليس سوى خان في تلافيف ذاكرة عقل أرانجا ـ كركوك ـ وأعني أن الحوار هذا هو حوار تذكري تماماً , حوار يعوض به الراوي عن جموع من عوائل بعائلة واحدة هي أرانجا وادي الرافدين. الأدوات الصغرى * الإيماء حسب ما وضحه فان دايك يخص الاعتقادات أساساً / "إذ الإعتقادات هي قضايا لاتحتاج الى أن تُصَدّق , وإنما يأخذ الفاعل بصدقها أو يعتقد في إمكان صدقها"( ). إن اختياري للنوع هذا , (الإيماء) , قائم على مأثرتين / ـ أن الفن ليس معنيّاً بالصدق الحسي إنما يهمه هو الإقناع الجماعي. ـ وأن الـفـاعـل في الروي هو نموذج جمالي يستجيب لرغبة المنتج في توجيه الأفعال. لعلنا فَهِمنا حقيقة واحدة هي , أن الفاعل سيوحي أو يومئ , أو يعطي , أية إشارة جسدية ليدل على عمل (ما) في الفعل الروائي. إذاً كل عمل جسدي للفاعل هو نمط من الإيماء , إن لم يتعلق بفعل سلوكي يخص الصدق الحسي , وكأن الجسدانية الإيمائية هي الخلفية التراثية لطقوس العبادات القديمة. من المفيد أن نشيرالى بعض الإيماءات المستثمرة في الفعل الثقافي الكتابي / ـ إيماء الفعل النفسي الإجتماعي: لهذا النوع كثير من التشكلات , وجميعها إيماءات ثقافية , لاتشترط لأفعالها الكتابة , وسلوكها سيكون سلوكا نفسيا يتشبه بحركة الجسد الذي يقر بحاجات فرزتها جموع الذوات , وهو يجمل حالات كثيرة منها ما يؤلب على مظهوروعلائن الأنفس مثل الخوف , الرغائب السائبة , التخوّف من الجديد ,... لقد طُرِحت تلك الحالات كموضوعات أثيرة في علم النفس الإجتماعيوالإنثوبولوجيا. ما يهم هنا , الانصياع الروائي , أي توقف الروي على الإفتراضات بين الأفراد ـ الشخوص ـ من حيث السلوك , كإيماءات الخوف والارتباك والذعر والتي تنتج الارتجاف وهي سلوكيات فردية جماعية بمثيرات واحدة وحالاتها الدالة هي حركات الوجه واليد والأرجل وبعض ما يمكن طيّه أو ليّه من الجذع , كلها في ـ الروي ـ إيماءات علائمية تشير الى مضمورات غرائزية بحاجة الى إشباع , الأدب هو الأقرب لسد مثل هذه الحاجات. النوع الأول ـ الهشاشة والإصابة والاضطراب والهلع.. هي إيماءات للشكل الخارجي والداخلي للفرد , وليس للراوي أو الفاعل أو المولّد للسرد. هي علائم للأسى البشري الذي لايؤثره الكلام إنما الشكل واللون والهيأة , وتلك تراسيم للمظهر المحوّل من النفسي الى الاجتماعي الى المروي , يحفز على الصدق الفني , ليس إلّا. ـ البذخ في السكينة.. حيث أن الهرب , مثلا , فعل حركي جسدي يرافقة جلوس وصمت وتفكر وربما تعمق في تأمل الذعر , وهذه جميعا ستخلط الفعل النفسي بالفعل الاجتماعي الذي يستجيب له العمل الروائي , وكأن الروي (مجازا) مدفوع غرائزي للقول وليس فعلا فنيا في السرد. النوع الثاني ـ التماهي مع الفلكلور.. هو مركب متجانس في تماهيه وامتداده في حركة الجسم ومظهر الفرد العام , ينسجم مع المكونات الفلكلورية كالملابس والغناء والرقص التقليدي... هذه المتماهيات تحيل الى قوّة أثر الفلكلور المنعكسة في مضمون المرويات , على سبيل المثال محتويات. قد تتسرّب إيماءات هذا النمط الى الاشتغال الروائي الجديد كاستثمار أسطوري خاص ببناء السرد الحديث الذي يضيف للسرد قوة فرادة إشارية وتلقائية وانسجام عفوي باطني تـحـتـفـظ بجـماليات تسم العمل الروائي بالاتساق والتظافر بين عناصر الروي. [ ثلاثة مناهج نظرية تتدخل لإبراز الزي كهوية كلية / الأول: في علاقة الملبوس وتناغمه مع حركة الجسد (الإيروتك). الثاني: في علاقة الألوان مع بعضها ومع المحيط الكلي للانسجام والهورمونية الحدثية. الثالث: يتمثّل في مديات القبول الكلي ومستوى الإعلان عنه والترويج ثم الإنتشار] ( ). ومن المعلوم أن أية إشارة الى الملابس هي إشارة الى الفلكلور المتعلق بالإيماء الجسدي من حيث الرشاقة وانتصاب القامة وامتداد الأطراف , ويعطينا إشادة بإيماء ينحت فجا في المعنى السردي , خاصة أن كان النحت فعلا نثريا وصفيا في القص.
لننظر / [ حلمُهُ يتنامى بأن يقف أمام نجمة بكل رتبه ونياشينه.. وسط بيت حقيقي , مشيّد من حجارة صلدة وجدران مصبوغة بألوان تشبه الأماني الصغيرة التي كان يلتقطها من فمها , يحلم بأن يغادر البيت الطيني رغم حميمية الغرف الثماني المطلّة على ساحة الحيوات الكبيرة , أو ـ حيوات المتداخلات الخرافية ـ كما سمّتيها لاجلايا وأنا أتحدث عن التأريخ , تأريخ الحيوات التي كانت تغلّف البيت الكبير , حيوانات مضمّخة بالأسرار العصيّة على الجميع , فالكل مشارك فيها حتى الجدران , جدران الطين وغرف الطين وشبابيك الطين , تلك الكوّات الدائرية المزروعة في أعلى الجدار أو وسطه والتي تشكل مفاتيح للضوء المتسرب من خلالها ] ( ). الحلم الأساس هو , أن يقف الأب , كونه نائب عريف , أمام حبيبته نجمة كزوج له بيت صلد وجميل. لكن الحلم تحوّل الى إيماء إبداعي حين أُضيف إليه الروي المعقّد ليصير حكاية في رواية على لسان الأًم الراوية تُعلِم بها الابن الأكبر , الذي سيرويها للأخ الأصغر. لكن كيف نقرر أن الحكاية في المشهد هي حلم إيمائي إبداعي؟ أجد أن في المشهد خمس إشارات دالّة على كون المشهد حلما تحوّل الى إيماء كتابي / ـ حلم يتنامى... بألوان تشبه الأماني الصغيرة. ـ حيوات المتداخلات الخرافية. ـ أجلايا. ـ حيوات مضمخة بالاسرار العصيّة. ـ الكل مشارك فيها حتى الجدران. هذه المؤشرات الخمسةلايمكن أن تكوّن حقيقة ولاتخيّل , إنما هي مستحيلات مخزونة في ذاكرة صائغة لأحلام الطفولة والصبا والشباب , وقد تسرّبت بهذه الهيئة , حين التدوين , عبر ذاكرة السرد , فتمثلت الأشياء شبه الجسدانية على هيأة: أب , أم , ابن أكبر , ابن أصغر , بيت طيني , امرأة مثالية (أجلايا).
هذه النماذج من المجسّرات قامت بملء فج?