كيف دخلت وسائل النقل الحديثة الى العراق..؟

كيف دخلت وسائل النقل الحديثة الى العراق..؟

■ د. خالد حمود السعودي
التحديث هو الخروج من المجتمع المحلي الضيق والانفتاح على العالم الخارجي العريض، كما نعني به استخدام طرق ووسائل جديدة في الاقتصاد والسياسة وطرق الإنتاج والمواصلات ولنقل مستمدة من تلك التي تستعمل في الدول الأوروبية.

كانت بغداد حاضرة العراق – بموقعها الداخلي – منعزلة عن العالم الخارجي فلم تكن تتصل بخطوط الملاحة العالمية إلا عبر طريقين طويلين – أولهما هو طريقي الملاحة النهرية في دجلة إلى ميناء البصرة. ورغم أن هذا الطريق أسرع وأيسر نسبياً، الا ان الباخرة النهرية كانت تتم رحلة الصعود من البصرة الى بغداد في خمسة أيام، وتتم رحلة العودة في ثلاثة إلى أربعة أيام – اما الطريق الآخر فهو الذي يصل بغداد بالساحل الشرقي للبحر المتوسط. وكانت العربات تقوم برحلة مضيئة عبر الصحراء الى حلب تستغرق ما بين اثنين وعشرين الى ثمانية وعشرين يوما – أما قوافل الجمال فكانت تتجه إلى دمشق ناقلة البريد في سير متصل يستمر احد عشر يوما. ولم تكن الطرق الداخلية التي تربط بغداد – برا ونهرا – ببقية انحاء القطر احسن حالا من الطريقين الخارجين – ولا اهدف هنا للاستفاضة في بيان حال تلك الطرق- ولكن هدفي هو تتبع المحاولات الاولى لادخال وسائل النقل الحديثة الى العراق – مثل السيارات والزوارق الالية والدراجات الهوائية والبخارية والترامواي. وسأحاول ايضا رصد مدى نجاح تلك المحاولات، واعرض العقبات التي وقفت في طريقها – ولن اتطرق هنا لمشروع سكة حديد بغداد، رغم صلته بالموضوع ، حتى لايتسع الحديث من ناحية، ولكثرة ما كتب عنه وخاصة في نواحيه السياسية من ناحية اخرى. اما نواحيه التنفيذية والمالية فلعلي اخصها ببحث منفرد في المستقبل.
ويحسن القول بداية إن الاتجاه الى إدخال وسائل النقل الحديثة قد بدأ في بغداد قبل سنة 1908 . ولكن التغيرات السياسية التي حدثت في الدولة العثمانية بعد تموز 1908 سرعت في ذلك الاتجاه. وقد لاحظ السيد بيرد Bird نائب القنصل الامريكي في بغداد تلك الظاهرة، فكتب في اذار 1909 قائلا: "ان كون الحكومة الدستورية الحالية مستعدة لدعم اي مشروع تطويري شجع الاعتقاد بان بغداد ستدخل حقبة جديدة من النمو الصناعي والتجاري. لقد اشرب التغيير في النظام السياسي سكان تركيا بروح المغامرة التي كانت خامدة لحد الان – فاخذت شركات عديدة تنشأ لتطوير التجارة والصناعة الحديثة والمشاريع العامة ذات النفع العاجل.
وقد لقي الإعلان الرسمي الصادر في استانبول عن استعداد الحكومة لمنح الامتيازات تأييدا حارا من الناس الأكثر استعدادا للمغامرة.. وانشأ فرع للجنة الأشغال العامة في بغداد برئاسة سعادة الوالي لمناقشة المشاريع العامة التي تتطلب عناية فورية. وقد دعي التجار او المهتمون الآخرون لزيارة اللجنة مرتين أسبوعيا من اجل تشجيعهم على نيل الامتيازات" ولتتبع صدى ذلك فيما طرأ على وسائل النقل من تحديث، سنبدأ بالسيارات.
ادخال السيارات الى العراق
لم تكن بغداد – والعراق كله – قد عرفت السيارات عمليا عند قيام انقلاب تموز 1908 في الدولة العثمانية . ولكن ذلك لا يعني انه لم يتم التفكير في ادخالها للعراق قبل ذلك الحدث. فلقد اشار القنصل الامريكي في بغداد في تقرير اعده في كانون الاول سنة 1907 الى انه لم يدخر جهدا منذ تعيينه في بغداد لشرح فوائد السيارات للجهات المعنية. واضاف ان جهده ذاك لم يذهب هباءا فقد علم للتو بان امتيازا منح للإدارة السنية لإقامة وتشغيل خط للسيارات بين مدينتي بغداد وحلب. ثم استطرد قائلاً: "ان هذه هي البداية فقط، ولي ايمان راسخ بانه حالما تبدو لسكان ما بين النهرين جداة ومكانة السيارات فان ذلك سيقود الى تنافس من اجل الامتيازات لتشغيل تلك الاليات.. وصلتني بعض الكتالوغاتن فأرسلت بعضها لسعادة والي بغداد وبعضها الاخر لسعادة ناظم باشا الذي يرأس لجنة إمبراطورية من استانبول هدفها تحسين الأحوال فيما بين النهرين.. ولقد اعترف الرجلان بالحاجة الكبيرة للنقل المتطور، وهما يستخدمان نفوذهما لأحداث تعريف بالسيارات" ثم ذكر القنصل بان سمع بقيام احد المواطنين الأمريكان برحلة حول العالم بسيارته، وانه سيصل في نطاق رحلته تلك إلى مصر، واعلن عن نيته الكتابة له لإقناعه بالإقدام على القيام برحلة من سوريا للعراق بسيارته، اذ ان وصول سيارة الى العراق للمرة الأولى يعني كسب نصف المعركة لإيجاد سوق معهم لتجارة السيارات الأمريكية.
ولم يقتصر الاهتمام بإدخال السيارات إلى العراق حينئذ على الجهات الحكومية والقنصلية فقط، بل كان هناك اهتمام بالأمر من قبل التجار المحليين ايضا – ففي رسالة كتبها القنصل الامريكي في بغداد في كانون الثاني 1908، ذكر إن السيد محمود الشابندر مهتم بتأسيس شركة تسير سيارات ثلاث مرات أسبوعيا بين بغداد وحلب. ورغم ذلك لا يبدو أن أيا من المشروعين – الحكومي والاهلي – فد وجد طريقة للتنفيذ قبل انقلاب سنة 1908 ، فلا شيء يدل على ذلك وان كان القنصل الامريكي عاد في شهر شباط وذكر ان هناك مشروعا قيد التنفيذ لاقامة عدة خطوط للسيارات للسيارات في العراق، وان شراء السيارات اللازمة سيتم في استانبول تحت إشراف وزارة الأشغال العامة. والغريب ان تقارير القنصلية الأمريكية في بغداد كفت خلال الاشهر التالية عن ذكر اي شيء يتعلق بالموضوع، مما يدل على ان تلك المشاريع جمدت او ألغيت لسبب ما.
ولكن شهر تشرين الثاني من السنة نفسها شهد حدثا مهما في تاريخ النقل في العراق. وكان ذلك حين قاد السيد ديفيد فوربس D.Forbes، مدير شركة هك اندروس وفوربس الامريكية Mac Andrews and forbes Co.، سيارته من ميناء الاسكندرونة الى بغداد عبر حلب ، ولاهمية ذلك الحدث، افضل ان اورد نص التقرير الذي قدمه فوربس للقنصل الامريكي في بغداد عن رحلته تلك – وهي كما يلي: "ملاحظات حول رحلته بالسيارة من الاسكندرية الى بغداد عبر حلب"

الاسكندرونة الى حلب
تبلغ المسافة ستة وتسعين ميلا. القسم الاول من الطريق في حالة سيئة جداً، اذ انه يصبح غير سالك بعد فترة من الطقس الممطر، غادرنا الاسكندرونة في جو ممطر، فوجدنا الطريق زلقا الى ابعد حد، واخذت الاطارات تنزلق، واصبح من المستحيل تقريبا التحكم بالسيارة في شبه المنحدر الذي اعترضنا، وكان الطريق ايضا سيئا ومليئا بالحفر، لذلك كان تقدمنا بطيئاً. ورغم ان المطر لم يكن غزيراً، الا ان السيارة انزلقت الى حقل مجاور وغرزت هناك لمدة ساعة، ولكن الطريق اصبح جيداً بعد اجتياز الحمام، فسرنا مسرعين طيلة ثلاث ساعات حتى وصلنا حلب دون عقبات.

حلب إلى مسكنه
كان الطريق صخريا الى حد ما خلال الساعة الاولى، ولكنه تحسن بعد ذلك حتى قرب دير حفر، حيث صادفنا خندقا بدا سهلا تماما، ولكن سيارتنا غرزت فيه، واضعنا ثلاث ساعات لاستخراجها منه – ان على اي شخص يكرر المحاولة ان يفحص الارض بصورة تامة، ولاشك انه سوف يعثر على طريق جيد قريب من نقطة عبورنا – وبعد تلك النقطة بمسافة حوالي نصف ساعة وصلنا لارض ملساء، اطلقنا خلالها العنان للسيارة للسير بكل سرعتها – واستمر الطريق رائعاً الى مسكنه، وبامكانك ان تقطع مائة ميل في الساعة اذا كنت راغباً.

مسكنه الى الحمام:
لم نجد صعوبات في هذه المرحلة، عدا رمل ناعم قليلا، ووحل يمكن ان يكون سيئا جداً بعد امطار غزيرة.

الحمام الى الصبخة
وهي اسوأ مرحلة في الطريق وغير ملائمة تقريباً للسيارات، الجزء الاول منها عبارة عن كثبان من الرمل وبعد اجتيازها دخلنا في ممر ضيق من شجيرات الطرفاء ملاصق لضفة النهر حيث الرمال ناعمة جداً. وقد غرزت السيارة لحد محاور اطاراتها في الرمال، ولم نستطع اخراجها الا بعد ست ساعات، بالاستعانة بقطع شجيرات الطرفاء ووضعها تحت الاطارات حتى لا تغطس في الرمال – وبعد ذلك اصبح الطريق لزجا وزلقا واستمرت الاطارات تنزلق طيلة الطريق حتى نهاية الصبخة.

الصبخة الى طبيني
خلال اول ساعتين بعد الصبخة سرنا في ممر مستو او سهل احيانا، ولكنه جيد عموما. وبعدها كان هناك صعود صعب بعض الشيء على تلال صغيرة، حيث احتاجت السيارة كل قوتها لاجتياز هذا الجزء. تبعت ذلك مسيرة ساعة جيدة، وصلنا اثرها واديا وعرا جدا، وذا ميل حاد بصورة استثنائية في قعره. وكان على السيارة ان تناور حتى تستطيع تجاوزه. اذ كان يجب ارجاع السيارة الى الخلف صعودا نحو قمة التل بدرجة ميل 1/9 او 1/10. ومع ذلك لم تستطع اكمال الصعود الا بتقسيم هذا المنحدر الشاهق جداً. الى مراحل ن تنطلق السيارة في كل مرحلة منها الى الخلف باقصى سرعة، ثم تكبح فجأ وتعاق الاطارات بحاجز للحيلولة دون انحدار السيارة نزولا – ثم واجهنا قرب طبيني فندق يليه منحدر شاهق قاس بصورة مفرطة بحيث لايمكن لسيارة اعتيادية ان تتجاوزه، ولهذا احتجنا لكل قوة الأحصنة في سيارتنا لتجاوزه. ويجب على السيارات تجنب هذه المرحلة من الطريق وسلوك طريق عبر الصحراء بدلا عنها. كذلك يفضل للسيارات اتباع طريق مستقيم عبر الصحراء من الحمام الى طبيني وربما حتى الدير بدلا من التزام طريق العربات.

بيني إلى الدير
سلكنا طريق العربات وهي جيدة بصورة واضحة، ولكن في نقطة واحدة هناك منحدر شاهق تتلوه رمال ناعمة جداً، ثم استقام الطريق فيما عدا واحدة او اثنتين من الانحدارات الحادة التي تتطلب عناية كاملة.

الدير إلى ميادين: الطريق جيد.
ميادين إلى عانة:
الطريق جيد، ولكنه صخري قاس، دونه صعوبة أخرى، وكان علينا في عانه اجتياز نهر الفرات، وقد تطلب ذلك إعداد رصف قوي وشحن السيارة على (شخاتير). وتطلب ذلك منا يومين كاملين. وعلى اي امرئ يرغب في عمل ذلك دون إضاعة الوقت ان يرسل قبله من يهيئ الرصيف والشخاتير.
وبعد عبورنا النهر مباشرة كانت الساعة الاولى من الطريق وعرة جدا وصخرية أعاقت سير السيارة الى حد ما – وفي الساعتين التاليتين كان الطريق رائعاً. وبعدها سرنا ثلاث ساعات، وحوالي اربعين ميلان في ارض بيضاء صلبة ذات رؤوس حادة متلألئة ناتئة فوق سطح الارض مباشرة. واي شخص يسلك هذا الطريق يجب ان يكون مزوداً باطارات صلبة حتى يتجنب عطل الاطارات نتيجة للصخور الحادة جدا. وخلال الساعتين اللتين تلت كانت الارض هشة الى حد ما في عدة اماكن، ولكنها جيدة جدا على العموم حتى وصلنا لابار الحلوة Halwat ومن هناك باستقامة الى عقرقوف اصبح الطريق منبسطا تماماً، ولم ارمثله صالحا للقيادة. واستمر الطريق جيدا بعدها لمسافة قصيرة حتى وصلنا ارضا سبخة صعبة جداً ويجب قطعها ببطء شديد. وتمتد تلك السبخة عمليا حتى الوصول الى الكاظمين. كانت سيارتنا من نوع Argyll بقوة اربعين حصانا. وقد استهلكت من الاسكندرونة الى بغداد مائة وسنة وثلاثين غالونا من الغازولين – واذا عرفنا ان السيارة حين كانت في طور التجارب استهلكت ما معدله غالونا واحدا لكل اثنتي عشر ميلاً، يمكن القول ان معدل استهلاكها خلال هذه الرحلة كان يتطلب غالون واحد لكل سبعة اميال. وبذلك تكون قد قطعت بين الاسكندرونة الى بغداد مسافة تسعمائة واثنين وخمسين ميلاً.

بغداد، في الثامن والعشرين من تشرين الثاني 1908
ومن ناقلة القول الاشارة الى اهمية تلك الرحلة، ويكفي انها كانت الاولى من نوعها، وانها اثبتت عمليا امكانية ربط بغداد بساحل البحر المتوسط بخط سيارات يوفر الكثير من الوقت على المسافرين اذ قطعت السيارة الرحلة من الاسكندرونة الى بغداد خلال سبعة ايام، في حين كانت الرحلة بين بغداد وحلب فقط تستغرق بالعربات ما بين اثنين وعشرين الى ثمانية وعشرين يوما كما مر سابقا، ومن الطريف الاشارة هنا الى ان رد فعل السكان في بغداد لرؤية هذه الالة لاول مرة كان مزيجا من الدهشة وسوء الفهم، لذلك اطلقوا على السيارة اسم "شمندفر" من الكلمة الفرنسية Chemin de fer اي سكة حديد.
وقد ادت رحلة السيد فوربس الى تأثير فوري، اذ تشكلت في بغداد شركة اهلية مساهمة هدفها شراء عدد من السيارات وتسييرها لنقل الزوار بين خانقين وكربلاء مروراً ببغداد. وتقرر ان يكون عدد اسهم الشركة اربعة الاف سهم، قيمة السهم الواحد منه خمس ليرات عثمانية (22.000 دولار امريكي). وقد استطاع القائمون على امر الشركة لغاية الاسبوع الاول من شهر كانون الثاني 1909 بيع الف واربعمائة سهم من اسهمها، اودعت قيمتها في البنك الامبراطوري العثماني وكان الساعيان في تأسيس الشركة هما مناحيم دانيال وعبد الجبار باشا. وقد خطط هذان الرجلان للشركة ان تشتري عشر سيارات، تقل كل واحدة منها مابين عشرة الى اثني عشر راكباً. كما انهما اخذا يبحثان عن ميكانيكيين وسواق اجانب يرضون بالقدوم الى بغداد بعقود عمل لمدة سنتين.
ورغم تلك الخطط والاستعدادات التي اتخذت صفة الجدية، فيبدو ان الشركة المذكورة لم تخرج مشروعها الى حيز التنفيذ العملي. اذ لم اجد اي ذكر لذلك في تقارير القنصلية الامريكية في بغداد طيلة المدة المتبقية من سنة 1909 وسنة 1910. ولم يستجد شيء الا في اواخر سنة 1910، حين كتب الوكيل القنصلي الامريكي في البصرة مشيراً الى ان احد الاثرياء تلك المدينة جلب سيارة من استانبول. ولكنه اضطر لاعادتها ثانية من حيث اتت، اذ انه لم يستخدمها الا نادراً لعدم وجود طرق ملائمة . واعرب الوكيل عن اعتقاده في انه لا امل في ايجاد سوق للسيارات في العراق عموماً، بسبب عدم وجود الطرق الملائمة ، وعدم توفر الغازولين والبنزين لان البواخر البحرية ترفض شحنهما. وبالفعل كانت شوارع المدن العراقية حينئذ عبارة عن ازقة ضيقة لم يدخل عليها اي تطوير ، منذ محاولة مدحت باشا والي بغداد المصلح قبل حوالي اربعين سنة اذ انه امر بجلب حادلة بخارية صغيرة من اوربا لاستخدامها في تمهيد طرق بغداد. ولكنه غادر بغداد عائدا لاستانبول بعد وصول الحادلة المطلوبة، فبقيت مركونة جانبا دون فائدة. ولم تبذل محاولة اخرى بعد ذلك لتوسيع وتمهيد الشوارع في بغداد الا زمن ولاية ناظم باشا سنة 1910 ، حين خطط لفتح شارعين او ثلاثة شوارع عريضة. ولكن خطته تلك قوبلت بمعارضة شديدة من اوساط السكن في بغداد، بسبب ما تؤدي له من ازالة كثيرة من المباني. وفي خلال ذلك يبدو ان سيارتين قد استوردتا لبغداد خلال سنة 1909 او سنة 1910 لغرض تشغيلهما في نقل الركاب. اذ كتب القنصل الامريكي في بغداد سنة 1912 ان تينك السيارتين استوردتا منذ "عدة سنوات" ولكنهما بقيتا دون تشغيل. وقد علل القنصل ذلك الوضع خاصة، وسبب عدم نجاح ادخال السيارات في العراق عامة بالعوامل التالية:
1- ان العراق غير متطور عموماً، وليست فيه طبقة كبيرة من الأثرياء. كما ان عدد الأوروبيين المقيمين فيه ضئيل ، وهم ينظرون لبقائهم باعتباره مؤقتاً، علاوة على ان قلة منهم فقط قادرة على شراء السيارات. ثم ان السكان المحليين محافظون جداً، ولا يتكيفون بسهولة مع اي شيء جديد.
2- ان الخيول رخيصة، والعناية بها غير مكلفة. ولذلك فان امتطاء الخيول شائع بين المواطنين والاجانب معاً.
3- ان الاحوال الطبيعية تبدو وكأنها تجعل استخدام السيارة غير ممكن عملياً. فشوارع المدن ضيقة الى ابع حد وغير منتظمة، والكثير منها عبارة عن ازقة يتراوح عرضها بين خمسة وستة اقدام فقط. وليس في بغداد الا شارع واحد مرصوف طوله حوالي ميل واحد، عريض بما يكفي لمرور سيارة واحدة، افتتحه ناظم باشا. اما الطرق خارج المدن فتمتد في سهول متربة لا تصلح لمرور السيارات اثناء الشتاء. وتمر الطرق قرب الانهار فوق سدود غير منتظمة.
4-ان الوقود غال، والغازولين نادراً ما يمكن الحصول عليه، وليس هناك محطات شحن للسيارات الكهربائية.
5-ان العمالة رخيصة جد في العراق، فاذا اضيف ذلك لحالة الشوارع، يصبح استخدام الحافلات للنقل العام في المدن غير عملي.
وفي ختام تقريره، اعرب القنصل عن اعتقاده بان الاحوال ستتغير بعد اكمال سكة حديد بغداد بعد خمس سنوات، حيث سيتطور القطر، ويزداد فيه عدد السكان الاجانب وتزدهر التجارة ويتوفر الوقود باسعار ارخص. وعندها ستتهيأ الفرصة لاستخدام السيارات على نطاق واسع.
ورغم تلك المعوقات، الا ان سنة 1912 شهدت تطوراً في مجال استخدام السيارات لنقل الركاب اذ نجحت شركة مشعل اخوان Mashal Bros في تسيير سيارتين في خط منتظم لنقل الركاب بين بغداد وبعقوبة ولكن استخدام السيارات على المستوى الشخصي استمر متعثراً. اذ اشترى ثريان من بغداد سيارتين بيد انهما اخطرا للتخلي عنهما بعد قليل. ويبدوا ان الشركات الاجنبية المنتجة للسيارات استمرت تعتبر السوق العراقية سوقا واعدة لتسويق منتجاتها. ولذلك جاء خلال سنة 1912 ثلاثة او اربعة وكلاء لبيع السيارات الى بغداد جالبين معهم عينات من سياراتهم ولكنهم لم ينجحوا في تسويق شيء منها. ولم ترد اية معلومات عن تطور استخدام السيارات في العراق خلال سنة 1913، ولكن معلومات السنة التالية تتنبئ عن تطورات مشجعة . فقد نجحت شركة مشعل اخوان في مواصلة تشغيل سيارتيها بين بغداد وبعقوبة، على الرغم من انهما كانتا تعانيان من نقص السواق الماهرين، ومن سوء الطريق الذي يجعلهما عاطلتين في اغلب الاحيان بانتظار اجراء التصليحات اللازمة. كما ان استخدام السيارات على المستوى الشخصي شهد تلك السنة دفعة قوية، حين استورد والي بغداد سيارتين، ومدير شركة ستيفن لنج lynch واحدة اخرى لغرض استخدامهما الشخصي. ويبدو ان كل ذلك قد شجع مؤسسة المانية عاملة في بغداد هي روبرت فرنخاوس وشركاه Robert Won Ckhaus and co. للتفكير في انشاء وكالة دائمة في بغداد لاستيراد وبيع السيارات، فضلا عن ورشة لتصليحها، وتجد الإشارة الى أن هذه المؤسسة كان لها دور بارز في مشروع سكة حديد بغداد – برلين.

القوارب الألية:
كانت الطرق النهرية انسب واسهل الطرق للنقل في العراق . لذلك كان نهر دجلة بالذات يعج بحركة نشطة، فكانت تعمل فيه ثمان بواخر في خطين منتظمين بين بغداد والبصرة،. كانت ثلاث منها مملوكة لشركة لنج Lynch الانجليزية، والبقية تملكها الإدارة الحميدية المملوكة من قبل السلطان عبد الحميد الثاني شخصياً. وبالإضافة إلى تلك البواخر، كانت مئات من السفن الشراعية والمهيلات والقوارب تعمل في انهار العراق. وتوجد إلى جانب ذلك كله أنواع من القوارب المحلية ذات اسماء واشكال متعددة. ففي منطقة بغداد ، كانت "القفف" تستخدم على نطاق واسع. وكل "قفة" عبارة عن هيكل دائري تماما يتراوح محيطه بين ستة إلى ثمانية أقدام. وهي ذات جوانب تنحني نحو الداخل مثل كرة ضخمة، وتطلى بالقار (الزفت). وتعمل في نهر دجلة بين الموصل وبغداد "الاكلاك". والكلك عبارة عن طوف من جلود الماعز المنفوخة. التي تسطح بالاخشاب او القصب او الحصر. وهي تنحدر مندفعة مع تيار النهر، وبعد وصولها بغداد اوفراغ حمولتها، يعود ملاحوها مع قربهم الى الموصل عن طريق القوافل البرية. وتستخدم في نهر الفرات "الشخاتير" بدلا من الاكلاك وهي عبارة عن قوارب مسطحة تنحدر مع تيار النهر.
ورغم ان تلك الوسائط النهرية كانت تغطي جزءاً كبيراً من حاجة النقل بشقيه الحمولات والركاب، الا انها كانت غير كافية، خاصة في مجال نقل الركاب والحمولات الخفيفة التي تتطلب سرعة اكبر. ولذلك كان من المناسب ادخال القوارب الالية الخفيفة لهذا الغرض . واول من ادخل قاربا اليا صغيراً الى العراق هو عبد القادر باشا الخضيري. اذ انه خلال سنة 1904 في زيارة لباريس، وتجول هناك في معرض للقوارب الالية، فاقتنع بفائدتها، وامر بشحن واحد منها الى بغداد، وكان ذلك القارب بقوة ستة عشر حصانا، وبمحرك نفطي ذي ثلاث سلندرات. وقد أثبتت التجربة فشل ذلك القارب، فقد كان مكلفا جدا من حيث قيمته ومن حيث المبالغ التي صرفت لإصلاحه من الأعطال المتتالية. وكذلك كان الحال بالنسبة للقارب الآلي الثاني الذي ظهر في بغداد خلال ربيع سنة 1907 ، وهو قارب جلبته القنصلية البريطانية العامة في بغداد. وكان ذا محرك قوته اربعة وعشرون حصانا باربعة سلندرات، ووقود من النفط والكيروسين. ومع انه جيد، الا انه باهض الثمن، وذو محرك معقد لدرجة ان المهندسين المجربين يجدون بعض الصعوبة في التعامل معه. وكان اصلاح دينك القاربين من الاعطال يمثل مشكلة لمالكيهما. اذ انهما كانا يستعينان عند الحاجة بمهندس تابع لمؤسسة بلوكي وكري وشركاهما Blocky & cree and co. يستقدم ن بومباي حيث يقيم في بغداد خصيصاً لهذه الغاية.
ورغم ان إدخال تلك القاربين لأول مرة في العراق قد أثار اهتماما كبيرا بين السكان أول الأمر، إلا أن ذلك الاهتمام تحول الى خيبة أمل نتيجة لكثرة الأعطال التي ألمت بالقاربين وسببت إنفاق مبالغ كبيرة على إصلاحهما. ولكن إخفاق القاربين في التجربة لم يقف حائلا دون ادخال مزيد من القوارب الالية خلال السنوات التالية. ففي سنة 1913 ذكر القنصل الامريكي في بغداد ان هناك عددا من القوارب الالية كانت مستخدمة بالفعل. ولكنه اضاف ان الوقود يشكل عقبة امام اتساع استخدامها وغير عن امله في ان يؤدي طرح منتجات مصفى شركة النفط الانجلو فارسية في عبدان في الاسواق العراقية الى تذليل تلك العقبة. ولعل ذلك الامل هو الذي دفع بعض الشركات الاجنبية العاملة في بغداد لاعتبار تسويق الزوارق الالية في العراق قابلا للاتساع ، فاقدمت في السنة نفسها على تجارب بناء هياكل تلك الزوارق في بغداد ذاتها وتركيب محركات مستوردة عليها. وقد اتسع في سنة 1914 استيراد وبيع القوارب الالية ذوات المحركات التي تدار بالكيروسين والنفط، مما ادى الى زيادة عدد المؤسسات التي تمارس تجارتها حتى بلغت في بغداد ست مؤسسات.

الدراجات الهوائية والبخارية:
لم تدخل الدراجات بنوعيها العراق قبل سنة 1908 بل إن القنصل الامريكي في بغداد كتب في شباط من تلك السنة عن عدم توقعه ان يكون هناك طلب على الدراجات في العراق قط. وعلل رأيه ذاك بكون الشوارع في بغداد سيئة. ثم ان المنطقة المحيطة ببغداد منبسطة تماماً، ولكن الصيف فيها لاهب الحرارة لدرجة تجعل الناس مضطرين لقضاء النهار في السراديب والليل على السطوح وفي ظروف مثل هذه لايمكن لهم استخدام الدراجات. اما في الشتاء فان تلك السهول المنبسطة تتحول الى اوحال يستحيل استخدام الدراجات فيها. ويبدو لنا ان القنصل كان مغاليا في تقدير دور العوامل المناخية، ناسيا ان العراقيين قد الفوا تلك العوامل وتكيفوا معها، فاصبحت لا تؤثر فيهم بالدرجة التي يتصورها . ونعتقد ان وصفه لحياة العراقيين في الصيف وكانها تتوزع بين السراديب والسطوح، ربما كان ينطبق على الاوروبين المقيمين في بغداد، وعلى بعض المترفين من السكان المحليين. اما اكثرية السكان فكانوا بلاريب ينصرفون لمزاولة اعمالهم اليومية رغم حرارة الصيف.
ولم يتحقق توقع القنصل حول استحالة ايجاد سوق للدراجات في العراق. اذ ما ان جاءت سنة 1913 حتى كان عدد من الدراجات الهوائية قيد الاستخدام . بل وتم في تلك السنة ايضا استيراد دراجتين بخاريتين من قبل مؤسسة بلوكي وكري وشركاهما الانجليزية في بغداد لغرض التجربة. وقد اثبتت التجارب التي اجريت على الدراجة البخارية في الطرق الواقعة حول مدينة بغداد، وبينها وبين بعقوبة وكربلاء ان استخدامها مرض تماما. ولكن العقبة التي كانت تحول بين تلك المؤسسة وبين تسويق عدد كبير منها هي ان سعر الدراجة البخارية كان يجب الا يتجاوز الخمسين ليرة عثمانية (220.00 دولار أمريكيا لان الطلب عليها سينحصر بين اولئك السكان الذين لا يستطيعون دفع سعر أعلى. ولعل ذلك هو السبب الذي جعل عدد الدراجات البخارية التي سوقت يقتصر لغاية سنة 1914 على خمس دراجات فقط. بالرغم من ان مؤسسة روبرت فونخاوس الالمانية دخلت منافسة للمؤسسة الانجليزية المارة الذكر في تسويقها. وكانت المؤسستان تتوقعان اتساع تسويق الدراجات البخارية كلما ازدادت معرفة السكان بها. اما الدراجات الهوائية فقد كسبت الجولة، فاصبحت سنة 1914 معروفة تماما من قبل السكان الذين اقبلوا على شراء اعداد ضخمة منها.