تغريب واقعية الحرب والموت بفنتازيا التماهي ضوءاً ولوناً في المجموعة القصصية (شرق بعيد)

تغريب واقعية الحرب والموت بفنتازيا التماهي ضوءاً ولوناً في المجموعة القصصية (شرق بعيد)

د. نادية هناوي سعدون
الموت والحرب ثيمتان سرديتان مأساويتان تهيمنان على قصص المجموعة القصيرة (شرق بعيد)الصادرة في طبعتها الاولى عن دار الشؤون الثقافية العامة ببغداد عام 2011.
ويقوم التغريب للموت والحرب على اساس تماهيهما باللون والضوء كتأثيرات فيزيقية مضادة تعمل بفاعلية حرة وبرمزية ايجابية في تبديد مأساوية كل ما هو مرعب وبشع أنتجته الحرب قسرا وخلفته موتا شرسا يعم كل ما هو جميل في الحياة

ويداهم الحقيقة بقسوة وفظاظة لا تعرف حدودا بين ما هو معقول وما هو غير معقول.
وتضم المجموعة سبع عشرة قصة قصيرة يستبطن كاتبها محمد علوان جبر دقائق الواقع العراقي الراهن حربا وحصارا واحتلالا متخذا من الحرب السمة الاساس ومن الموت الملمح المساير لتلك السمة اذ الاحياء اموات او هم موتى صيرتهم الحياة هشيما او هم موجودات هامدة متوالدة باستمرار
والحياة بمأساويتها لها بداية وليست لها نهاية وهي تخفي ما لا تدركه المخيلة ولا تستوعبه الواقعية التي ترى الامور بموضوعية ومن ثم لا يمكن استشراف افاق القادم الا بتغريب الحقائق ليغدو كل شيء الواناً واضواءً ترسم املاً امام الحيوات وتمنحها ثقة بان كل ما هو مأمول قد يتحقق وان كل ما هو مرغوب قد يتمثل قادما .
الضوء كرمز لاستشراف المأساة الانسانية
يوظف القاص موضوعة الحرب في عدد من قصص هذه المجموعة والغاية بيان دورها المأساوي في إحالة الانسان الى كيان مهمش وعاجز وسوداوي، ففي القصة القصيرة ( نجمة) تحتل ثيمة الضوء حيزا مركزيا وهي بالنسبة لنجمة المرأة التي ذهب زوجها للحرب تاركا في رعايتها طفلا منغوليا ووالدا عاجزا يتجلى لها الضوء بمثابة نيزك اخترق ايامها وبالنسبة للاب يكون الحدث ضوءا يطل من بعيد في اعماق السطح اللامرئي لزجاج يراه بعين واحدة، ولا يرى الطفل في الزجاج الا انعكاس صورته فيها ويحير الجد بهذا الضوء الذي يطل من بعيد والذي يطالع فيه اشياء يراها هو وحده فقط ومن ثم يكلم الضوء الذي يلوح في اعماق السطح اللامرئي للزجاج ليرى مياها كثيرة تنحدر من عينه الوحيدة .
وهؤلاء الثلاثة هم عينة من ضحايا حرب لم ترأف بهم بل تركتهم يتيهون في دوامتها بلا قرار من دون بارقة امل بإمكانية الخروج منها وهذا الواقع الذي تعسكر كل شيء فيه لا يرحم طفلا ولا شيخا ولا امرأة من الذين لا طائل لهم بالحرب التي تضعهم في طاحونتها بلا ارادة منهم.
ولأن في الضوء كشفا واظهارا فانه يفقد وظيفته في الدلالة على الامل والخلاص لنجمة وتبقى للعتمة دلالة الخيبة والتلاشي . اما النافذة التي منها يرون مستقبلهم القادم فقد بدت مضببة بالمطر الذي يبدو للرؤية بعين واحدة عوزا وحرمانا في حين يكون لنجمة بمثابة تبديد للذكريات داخل الغرفة المعتمة مع الاب المعوق والطفل المنغولي.
واذ تعرض القصة مأساوية هذا الواقع من وجهة نظر هؤلاء الثلاثة فإنها تقدم السرد على شكل مقطوعات منفصلة بنجمات متخذة نسق السرد المكرر بضمير الانا .
وعن علاقة الضوء باستشراف افاق المستقبل تأتي قصة( نزهة ) التي بطلتها جثة هامدة لجندي ميت وقد تعطلت كل حواسه الفيزيقية لكنها تظل تلتقط انعكاسات الضوء التي تومض تشتعل وتنطفئ وتراه قريبا منها ليصدمها منظر جسد رجل مسجى الى جانبها.. وقد اسهمت هذه الانعكاسات في تعريف الجندي الميت بمساحات الجسد وتعرجاته التي جعلته يبدو حيا ثم وجهت انتباهه صوب وجه المرأة التي جاءت تندبه واجدا ان شعرها صار يتموج كلما سقط عليه عمود من الضوء المتأرجح وبقية ضوء مكنه من رؤية الدهشة مع الحزن في وجهها الجميل.
ولم يكن الضوء المتسرب من النافذة مجرد خيط جامد يشعره انه ما زال حيا حسب بل الضوء كائن حي يواصل ارتعاشاته وسقوطه وسط دوامات لا مرئية ليرى الجثة قربه والمرأة المتشحة بالسواد تبكي قربه واذ اشعره الضوء بالألفة فان العتمة كانت قاسية وحشية لانها لم تعطه فرصة رؤية القاع المظلمة لكنه ما ان طفا على السطح حتى عاد يرى جسده وراسه . ولأن الضوء هو الزاوية الوحيدة التي منها يرى ما حوله فان انطفاءه يحيل النوافذ الزجاجية الى حفر عملاقة منطفئة بالعتمة وتبقى المرأة النائحة تعويضا له عن الضوء الذي بهت وانطفأ ليكون حضورها انبعاثا جديدا للحياة على شكل نزهة .
ويشكل الضوء المار عبر النافذة في القصة القصيرة (بورتريه) معبرا رمزيا للذات الإنسانية المتطلعة للحياة بتفاؤل ، فمحاسن بطلة القصة ترى نفسها متماهية في المكان الذي يضمها( الصالة) وبتوظيف الوصف يصبح المكان معادلا موضوعيا للحضور الآدمي ، فمحاسن محنطة بقدم واحدة وجسد مقوس امام النافذة لكن الضوء الصادر من النافذة يبعث الحياة في اشياء الصالة وما حولها وهو يتسرب بقوة لكي يزيح الركود عنها.
ولأن الواقع اكثر بؤسا تتحول لحظة التماهي الى استيهام فانتازي يسيح عبره الضوء كيانا يراقص المرأة محاسن متوسلا اليها الا تغلق النافذة خوفا من ان يموت.
وتمنحها غربتها الروحية احساسا جميلا بهذا الاستيهام فقد شعرت انها انثى والضوء رجل خارجة بذلك الاستيهام من صمتها الطويل كاعلان غير شعوري عن رغبتها في اداء رقصة المحارب الذي يرفض الموت وتدخل معهما فراشات الصالة التي يقتادها الضوء اليه وكذلك يقتاد محاسن مميلا جسدها مع الايقاع لتبلغ تلك النقطة التي بحث عنها السرياليون في احلامهم ، انها نقطة مضيئة تفضي بها الى الحياة ولذلك واصلت رقصها مقتربة من مصدر الضوء (النافذة) مرتين لكنها ظلت تتحرك حركات لها لغة تنتظر ان يصل الضوء اليها وهو لا ينفك يردد دعوته لها في ابقاء النافذة مفتوحة كتطلع للحياة ورفض للموت في اجواء تجلٍ سريالية فيها محاسن راقصة باليه لا يثنيها عن الرقص مأساوية هذا الواقع الدامي وعجز الجسد المحنط عن تغييره.
وتكون النافذة معادلا موضوعيا لرؤية القادم مستقبلا في القصة القصيرة (المحطة) اذ تتماهى الذات وهي جالسة امام نافذة من زجاج مع الموجودات المكانية لتتحول الى مجرد جماد تخشَّب فعجز عن التغيير ونمطية حياته حولته جزءا من موجودات صغيرة يتوحد في داخلها بصورة فانتازية ، اما الزمان فانه غدا قطارا غادر محطته من دون ادنى علم من الذات انه مضى او حضر او غادر.
ويكون التطلع من النافذة مضببا مشوشا بالغبار الذي يحجب الرؤية للغد ويحول دون النظر الى الامام حتى استحال المكان ممثلا بالمحطة بلا زمان وقد توقفت فيها الحياة بفعل سلبية الرؤية التي تجعل القادم مجهولا.
والاشجار بدت ترابية فقدت خضرتها لان الغبار علاها ولكن بارقة الامل بغد اكثر وضوحا ستتجلى في اسئلة الطفلة المتكررة التي لا تنتهي..
وهذا المجهول هو الذي جعل الشرق بعيدا في القصة القصيرة( شرق بعيد) من منظور جثة تتكلم مع جثث اخرى داخل مشرحة فيها طوابيرمن اجساد معفرة بالتراب في تغريب واقعي مكانه يمتد شرقا وزمانه غير محدد بمدة لكنه يبقى بعيدا ولسعة مدلولية هذا الطرح الفانتازي اختارها القاص عنوانا رئيسا للمجموعة.
والتماهي الفانتازي للانسان في الزمان والمكان تصوره قصة ( يوم خاص) ، فالمرأةالتي واجهت حدثا جللا تماهت زمانيا في الواقع حياة ومماتا وهذا ما جعل محاميها يطيل الصمت ليتماهى هو الاخر في المكان" كان الدم القرمزي يرسم على الارض المعشوشبة افواها مفتوحة على سعتها" ص61
ويحضر اللون في القصة القصيرة (مدينة الماء الازرق) كشكل من اشكال الاحساس بالوجود بصريا عبر تماهٍ فانتازي يغرب الواقع ويجعل المكان شاعريا باوصاف رومانسية لا تحيد عن تحميل اللون ابعادا رمزية فملايين العيون تتحول الى عين واحدة تراقب السماء التي ظهر فيها لون رصاصي والحقول بدت هي الاخرى رمادية كالمقابر الفسيحة والصحراء صارت كبساط اسود فسيح وبدا الليل بسواده قرينا بالساعة التي تحجرت في لون رصاصي تجمد في ساعة صامتة محيلا المكان الى هالة من العتمة التي تشبه الغيوم السود حتى شعر ان الزمن يبتلعه..
وهذا ما جعل الذات تتماهى في المكان الذي اسود والزمان الذي تحجر لتكون الحقيقة ساطعة كالنار والطوفان والصواريخ.. والانسان واقف في مهب ريح غير قادر على تغير المصير الذي يسير اليه بحتمية لا مفر منها . وفي قصة (مقامة العاشق ابراهيم) يتوحد المحب/ ابراهيم في المحبوب متماهيا في الزمن "انه كون ضائع وسط متاهات ومزاريب حياتنا التي عشناها بصمت غريب والتي مرت علينا اسرع من توحدنا وسطها" ص84
والمفارقة ان اسمه ورد مكتوبا على يافطة سوداء تعلن موته برصاصة امام داره ليلا ثم تسترجع القصة لحظات هذا الموت( ليلة الشحوب المتناهية في الصغر) مع وصف شاعري للفاجعة ( اناشيد بمعنى والكثير منها بلا معنى وكانت تضعنا الى حد ما بمنزلة الشحوب الذي استحال الى مقامة تشبه ايقونات من عاشوا الخوف" ص84 في اجواء من الضياع في متاهة التماهي الاضطراري مع المكان والتوحد الشاعري مع الزمان زمان العشق الكبير بحثا عن المبهم.
في قصة (غابة الاسمنت) يشكل النهر والليل مشهدية السرد الذاتي المسترجع لزمن الطفولة بوصف تزييني يتحول الى تفسير غرائبي للتحول من وداعة النهر وحصاه وفراشاته الى غزو حجري رمادي برائحة الرصاص وكتل الكونكريت واسلاك شائكة وجبروت الاسمنت
وفي هذا التحول البشع ادانة للحرب التي تنذر بالهلاك الابدي لرطانة الاجساد البشرية وهي تصرخ وسط النار" أي حفرة تسقط فيها ايها الجسد واي رماد يتبقى من احتراقك هل هو رماد الفسح المحجوزة بالجدران ام هو الصرخة تكسر كل ما فيك" ص87
ثم يتحول السرد الى ضمير الخطاب وتتحول كل الالوان الى ابيض واسود ورصاصي بسبب الاسمنت الذي جلبته الحضارة مداهمة الطبيعة بالحرب ثم يصير السرد بضمير المتكلمين الذين يرون كتل الاسمنت ديناصورات جالسة او واقفة منتزعة الورود من مكانها كما ان الحرب انتزعتها ايضا وتحولت المدينة الى لون كاكي ورمادي ومطر اسود وسحابة سوداء ورماد متساقط من السماء.
وتستظل بالاسمنت الذي تحول الى غابة حقيقية اعلنت موت الوردة "فكانت بقايا الرماد السماوي تتحد مع الاسمنت في انشودة صماء تتحدث عن كوابيس تمتد امامنا في اليقظة والحلم" ص92.
جدير بالإشارة ان بعض قصص المجموعة اتخذت المنحى الواقعي مستوعبة تفاصيل الحرب والموت والارهاب بعمق ووضوح كما في قصص (انكسارات هشة، تواترات السيد ك، احتراق الكتب) في حين قامت بعض القصص على اتخاذ الوهم مهيمنا سرديا وتقانة لوصف الواقع في ثلاث قصص قصيرة هي ( لغة ، وقائع موت معلن ، الموت الجميل ) اذ يلف الغموض الحيوات زمانيا ومكانيا برؤى متخيلة تموه الواقع بكل موجوداته.