ساباتو.. الماركسي الرجعي

ساباتو.. الماركسي الرجعي

عوّاد ناصر
هو العالم والروائي والناشط السياسي الأرجنتيني أرنستو ساباتو، صاحب النفق و أبطال وقبور و أبدون التي نالت جائزة أفضل رواية أجنبية في فرنسا عام 1967.عمل خبيراً في حقل الإشعاعات الذرية في فرنسا ثم في معهد ماساشوسيتس في أميركا، ليهجر عالم العلم، نهائياُ عام 1945 ليكرس حياته كاتباً.


لم أكن أعرف شيئاً عن ساباتو، مبدعاً وإنساناً، إلا في منتصف الثمانينيات عبر مقابلة معه نشرتها مجلة عربية أسبوعية كانت تصدر في قبرص، حينها، وعلقت في ذاكرتي جملة منه قال فيها في الأرجنتين حتى الأمّهات ممنوعات من الحزن.. لأتذكر أمّهات العراقيين، وكان يشير إلى معاناة الأرجنتينيين تحت وطأة النظام الدكتاتوري العسكري آنذاك. هذه الإشارة ضرورية لأن هذا العالم، الروائي، الفنان التشكيلي جعل من الموقف السياسي بؤرة أساسية في حياته وكفاحه من أجل الديمقراطية في بلده.
ثم قرأت روايته النفق التي هي مزيج بين السياسية والبوليسية، حتى عثرت على كتاب نشر عام 2003، بالعربية، عنوانه إرنستو ساباتو بين الحرف والدم عن دار المدى بترجمة عبدالسلام عقيل، وهو حصيلة حوارات طويلة أجراها مؤلف الكتاب كارلوس كاتانيا مع ساباتو.يقول في إحدى إجاباته يعتبرونني رجعياً، وذلك بسبب رأي نقدي له يشير فيه إلى أن التقدم يحدث في العلوم، وربما في السياسة عندما ينتقل المجتمع من طور إلى طور، لكن ليس ثمة تقدم في الفن، فأعمال الفراعنة في نحت آلهتهم وملوكهم ليس أقل أهمية من منحوتات العصر الحديث، والاختلاف يكمن في زمن انتاج المنحوتة، أو اللوحة، أو حتى الرواية، لأن زمن الفن زمن اختلافي فالكثير من منحوتات الشعوب البدائية بتعبير الغطرسة الغربية ما زالت تلهم، حتى اليوم أواسط القرن الماضي أكبر وأشهر فناني عصرنا مثل بابلو بيكاسو، الذي كان ممنوعاً أبان الحقبة السوفيتية، حتى لو كان شيوعياً
وفي معرض حديثه عن المدارس الفنية يقول إن المدارس الفنية تأتي وتذهب، وسرعان ما تنبثق مدرسة على أنقاض أخرى، ولا يخفي امتعاضه مما سمّي بـ الواقعية الاشتراكية التي هي الوجه الثقافي للدكتاتورية الستالينية التي كانت سبباً رئيساً في هجره للحركة الشيوعية ولم يمكث بين صفوفها سوى أربع أو خمس سنوات، ومن مفارقات هذا الكاتب أنه علّق أهمية كبيرة على إصلاحات غورباتشوف يستطرد كان ماركس معجباً بشكسبير ويعرف الشعر الألماني والانكليزي معرفة عميقة، ويحترم غوته الرجعي شاعر البلاط ويعترف بفضل بلزاك الروائي، عليه كفيلسوف تاريخي، زوده بمعلومات عن الصراع الطبقي في فرنسا كما لم يزوده أي مصدر آخر. يحيل ساباتو أزمة الفن في العصر الحديث إلى المجتمع الذي جرى تشيوؤه وتأطيره في إعلام الانتاج الواسع المسيطر وسلب الناس كفاءاتهم الروحية، وليس إلى الفن والفنانين، الذين يصفهم بـ الرؤيويين مثلما تشعر الكلاب والعصافير والقطط التي تمتلك حواساً أرهف من حواسنا إزاء الهزات الأرضية، فإن الفنانين والمفكرين الحساسين يشعرون، أيضاً، بالهزات الروحية الكبرى.ثم يقول أعتقد أن الفنان كالمجنون، بينهما شيء مشترك وهو الواقع لا يروق لهما، أو أنهما يرفضانه، أو يعانيان منه إلى حدٍ لا يطاق. المجنون يذعن، وينهار بناؤه العقلي، ولا يبقى منه سوى أنقاض الواقع القديم الذي يتحرك ضمنه بصورة مضعضعة، في حين يبقى الفنان قادراً على أن يبني من تلك الأجزاء واقعاً آخر. إن عملاً فنياً ما، هو كون أو نظام، وهذا بالتحديد مالا يقدر المجنون على تحقيقه.
الفنان لا بدّ أن يكون متمرداً، خلاصة فكر ساباتو الرجعي.