تبرير الرواية الإطارية في «سابع أيام الخلق»

تبرير الرواية الإطارية في «سابع أيام الخلق»

د. مهند يونس
لاستخدام ضمير المتكلم في الرواية لا بد من مبررات خاصة بكل رواية لا تتوفر بالضرورة في رواية أخرى، وسوف نتكلم عن كل واحدة من هذه الحالات مع ذكر نماذج تتفق مع كل حالة.
لقد هيمن السرد الخارجي زمناً طويلاً في رواية بلزاك، في سبيل المثال، قبل أن تنتقل الرواية من الخارج إلى الداخل، وبشكل خاص في رواية بروست،

ولكن هذا الانتقال لا يتم إلا بشروط دقيقة جداً هي التي تحقق المعادل الموضوعي للروائي أن يقنع القارئ باستخدام ضمير المتكلم.
هناك مجموعة من الأساليب تبرر هذا الضمير الذي يبدو أكثر دقة من ضمير الغائب من هذه الأسباب:
أولاً:ـ حين يفقد البطل شخصاً عزيزاً عليه وفي ظروف مأساوية، ولم يتمكن حتى لحظة كتابة الرواية من استيعاب وضعه المأساوي ومن الابتعاد عن عزلته؛ فتصبح الرواية بذلك رصداً لحالة البطل الذي ما زال حياً والذي لم يتمكن من العودة إلى الحالة الطبيعية ليخاطب الآخرين بدل أن يكتفي بمخاطبة نفسه: ذلك ما نجده في معظم روايات"جيد"- وبشكل خاص في"السمفونية الرعوية"و»اللاأخلاقي"و»الباب الضيق»، وقبل ذلك في رواية الأب بريفو"مانون ليكو"وهو ما يحدث أيضاً في رواية"صانعة الدانتيلا"لباسكال رينيه - في كل تلك الروايات يفقد البطل المرأة التي كان يحبها ويجعله ذلك في غربة عن العالم، ولا يستطيع صنع روايته إلا بضمير المتكلم.
ثانياً:ـ حين يتلصص بطل الرواية على شخصية أخرى من دون علم الشخصية المتلصص عليها؛ فإن ذلك يلزم الروائي باستخدام ضمير المتكلم كما نجد في رواية"الجحيم"لهنري باريوس وفي"الباب الضيق"حين يتلصص بطل الرواية"جيروم"على زوجة خاله في غرفة نومها وهي بصحبة رجل غريب، يجهل زوجها كل شيء عنه وتجهل زوجة خاله تلصص"جيروم"عليها، وهناك أيضاً تلصص الراهب على جيرترود جنباً إلى جنب مع ابنه جاك في رواية"السمفونية الرعوية».
ثالثاً:ـ البطل المفكر الذي يعتزل العالم برغبته لينصرف إلى التأمل في عزلته الإبداعية لتنتهي تلك العزلة بكتاب أو رواية يؤلفها البطل أو ما زال يفكر بكتابتها...ذلك ما يحدث في"مزيفو النقود"لأندريه جيد وفي"غثيان"سارتر. وقبل هاتين الروايتين في بحث بروست عن الزمن الضائع حين يقرر مارسيل أن يعتزل العالم ليؤلف كتاباً عنه.
رابعا:ـ الشخصية التي تراقب البطل وتعيش معه المغامرة نفسها من دون أن يكون البطل على علم بمراقبة الآخر له، وكما نجد في"موبي ديك"لميلفيل،"ذئب البحار"لجاك لندن،"ميرامار: من بين نماذج أخرى.
خامساً:ـ الشخصية التي لا تزال في حالة بحث مستمر عن موضوع ما أو شخصية أخرى، كما في"البحث عن الزمن الضائع"في الحالة الأولى، أو"البحث عن وليد مسعود"لجبرا في الحالة الثانية، أي أن عملية البحث تبرر استخدام ضمير المتكلم؛ لأن البحث يعني أن الموضوع لا يزال قيد الدرس وأن الشخصية ما تزال تتكون أمام القارئ.
يتفق ضمير المتكلم مع الرواية التجريبية، وهي الرواية المفتوحة التي تبدو وكأنها لم تنته بعد؛ وذلك لغياب السارد الخارجي التقليدي؛ فغيابه يوحي للقارئ بالزمن الحاضر إذ إن غياب السارد الخارجي يعني أن ما من أحد يعلم بتفاصيل الرواية القادمة. أما حين يتكلم السارد بضمير المتكلم ويقص علينا حكاية من الماضي، فإن هذه الحكاية، التي تدخل ضمن الرواية الكبيرة، تبدو وكأنها تحدث الآن؛ لأن الذي يرويها لنا بضمير المتكلم ما زال حاضراً أمامنا، أو هذا ما توحي به الرواية في الأقل؛ فما دمنا نسمع صوت المتكلم فذلك يعني حضوره في لحظة القراءة.
في"سابع أيام الخلق"هناك بحث من نوع خاص عن مخطوطة كتبها السيد نور، وابّان ذلك يتناقل الرواة على ألسنتهم أخباراً ينقلها الكاتب الروائي بدوره إلينا، وهؤلاء كلهم ينقلون لنا بضمير المتكلم ما كان قد حدث، إلا أن ضمير الرواة يختلف عن ضمير الروائي؛ فما يقوله الرواة لا يوحي لنا وكأنه يحدث في الزمن الحاضر - رغم أن ضمير المتكلم يوحي بذلك - لأن هذا الضمير على لسان الرواة لا يخاطب القارئ مباشرة، بل هو يفعل بوساطة الكاتب الروائي، وهذا الأخير هو الذي يهيمن على خطاب الرواة بروايته الإطارية، وهذه الرواية هي التي تتحكم بتطور الرواية ويخاطب كل راوٍ من الرواة الستة؛ إذ يكتفي كل واحد من الرواة بنقل ما يعرفه من أخبار من دون أن تكون هذه الأخبار جزءاً من خطاب روائي كبير على لسان السارد، لكن الروائي هو الذي يأخذ هذا الخطاب الصغير بضمير المتكلم ليضعه في روايته الكبيرة بضمير المتكلم أيضاً: أي أن ضمير الراوي المتكلم للرواة الستة هو ضمير يخاطب الروائي الذي يخاطب القارئ، ولا يخاطب القارئ مباشرة، كما يفعل الروائي: أخبرني"شبيب طاهر الغياث»: في ما كتب به إليّ قال: وجدتُ بخط"ذاكر القيم"عن بعض القيمين عن المزار عن"السيد نور"قال: سمعت"عذيب العاشق"قال: سمعت"مدلول اليتيم"قال: لم تكن يداي هما اللتان التقطتا الرباب في غفلة عن شيخي"عبد الله البصير»، ولم تكن قدماي هما اللتان سعتا بي نحو ذلك الراوي الذي كان يحفظ أحداثاً تعقب عام الطاعون، إنّما وجهني للقيام بما قمت به مَن أفناني عن نفسي....(1).
نجد، في هذا المثال، أن الرواة يكتفون بتناقل الأخبار فيما بينهم، من راوٍ لآخر، أي أن ضمير المتكلم في هذا المجال لا يمتلك وعياً عالياً ليتخاطب مع القارئ ويقيم معه علاقة طويلة الأمد، على غرار ما يفعل الكاتب الروائي الذي يعني له ضمير المتكلم همّاً كبيراً وقلقاً مستمراً لا يتوقف حتى مع الصفحة الأخيرة من الرواية التي لا تمثل فعلاً صفحتها الأخيرة. أما الرواة فليس عليهم أن يتحملوا مثل هذه المسؤولية؛ لأن مشروعهم قصير الأمد، ولا يجسّم شكل الرواية كما يفعل ضمير الروائي المتكلم الذي يبني روايته وهو يخاطب القارئ. ومرة أخرى فإن ضمير الروائي المتكلم هو جزء لا يتجزء من نسيج الرواية الكبيرة التي لا تتفق مع نسيج آخر، اما ضمير الرواة فيخضع كلياً لضمير الروائي المتكلم. ذلك يعني أن الرواية التي تحظى باهتمام القارئ هي الرواية الإطارية، وضمير المتكلم هو الذي يمنحها تلك الأهمية، وأن الرواية الإطارية هي التي تهيمن على روايات الرواة الستة.
لا يتوقف ضمير الروائي المتكلم عند محطة جمع الأخبار. إنه يمثل العنصر الأول في بناء الرواية الإطارية بصوته الحاضر المسموع من لدن القارئ. يمتلك ضمير المتكلم رؤية واضحة وإرادة عالية في جمع المعلومات والعثور على مخطوط السيد نور. خلافاً للرواة الستة الذين لا يتمتعون بمثل هذه المواصفات. يمتلك الروائي رؤية واضحة ولا يكتفي بنقل الأخبار. إن ما يعزز هذه الرؤية في"سابع أيام الخلق"يتشكل من العناصر التالية:ـ
اولاً: شخصية ورقاء التي تدخل في بناء الرواية مع صفحاتها الأولى وتهيمن بروحها الإنسانية على وعي الروائي رغم حضورها القصير - في الظاهر - داخل الرواية. تمثل"ورقاء"ضمير الكاتب الذي يتذكر ما كان قد كتبه من قبل. إنها تعرف كتبه التي سبقت، وتعرف مواضيعها، وهي التي تصنع نظاماً معيناً للرواية؛ فيكتسب الروائي بذلك أهمية خاصة في تصور القارئ يتأتى من حضور المرأة إلى جانبه والتي لا تكتم إعجابها برواياته والتي ستصبح ملهمته، بل إن الجانب الإبداعي للروائي يتجانس مع جانبه الإنساني، إنه ليس مجرد مسوّد صفحات أو باحث عن مخطوط...إنه الإنسان والروائي في آن واحد، وورقاء هي مرآته التي يرى صورته فيها من حين لآخر، ليعرف كيف يمضي في روايته حتى محطتها الأخيرة.
ثانياً:ـ حضور الشاعر جنباً إلى جنب مع الروائي، والحوار الدائر بينهما من فصل لآخر من فصول الرواية، حيث يسأله الروائي، في أكثر من مرة، عن أفضل الوسائل لإنجاز هذا العمل. ذلك يعني أن الروائي فنان قبل أن يكون محترفاً، وأن ما يشغله هو الإبداع قبل كل شيء لا جمع الأخبار بحيث تصبح هذه العملية أمراً ثانوياً بالقياس إلى خلق الرواية. الرواية الإطارية بالشكل الذي صنعه المؤلف لا تتجانس في تقديرنا إلا مع ضمير المتكلم، لأن ضمير الغائب ينفي عنها مواصفاتها الإطارية.
ثالثاً:ـ يجمع الروائي الأخبار والحكايات كلها والتي سردها الرواة الستة من قبله، فضلاً عن مشروع البحث المقصود من لدن المؤلف. ولا شك أن الأخبار التي يقوم بجمعها أمام القارئ تخضع لكثير من النسبية، مرة أخرى، مع ضمير المتكلم، فلو كان الروائي قد قدم روايات الرواة الستة بضمير الغائب لتصور أن مشروع الروائي يفتقر إلى الموضوعية؛ إذ باقتراحه ضمير الغائب سينفي عن الرواة طابعهم الإنساني وأصواتهم المتباينة، ولا يصبح خطاب كل واحد منهم سوى خلاصةٍ قام باعدادها كاتب الرواية بعد أن تصرف في شخصية كل واحد من الرواة الستة حين منعهم من الإدلاء بوجهة نظرهم بضمير المتكلم. ولكن لا ينبغي أن يغيب عن أذهاننا أن الروائي منع على الرواة فرصة البحث التي وفرها لبطل الرواية الإطارية، وذلك سلوك مقصود. كما أن ضمير الروائي المتكلم يحتوي ضمائر الرواة الستة من دون أن يحتوي أي من هذه الضمائر الستة ضمير راوٍ آخر. ولو فكر الروائي بتقديم روايته الإطارية بضمير الغائب، ومثلها روايات الرواة الستة، لأصبحت الرواية الإطارية رواية سابعة تضاف إلى الروايات الست السابقة؛ وتكون بذلك جزءاً مكملاً لها بدلاً من الرواية التي صنعها المؤلف، وهي تلك التي تعيد صياغة وترتيب كل الروايات ضمن إطارها. إعادة صياغة الروايات الأخرى هي رواية الركابي، ولكن يبدو المشروع أكثر وضوحاً، فقد وضع الروائي رقيبين على روايته وبمحض إرادته هما الشاعر من جهة وورقاء من جهة أخرى؛ فأضفى بذلك على روايته المتميزة طابع"الرواية - المشروع"الذي تتمتع به الروايات السالفة للرواة الستة.
الكاتب الروائي هو الذي يستنطق الرواة الستة ويخضعهم لإرادته ويراقب ضمير المتكلم على لسانهم من دون أن يكون هذا الضمير موقفاً مسؤولاً كما هو الحال مع رواية الروائي؛ إذ إن القارئ لا يستطيع أن يثق بكلام أي واحد من الرواة إلا بعد أن يصادق عليه الروائي بضميره المتكلم ويجعل كلامه جزءاً من روايته المكتوبة؛ فيصبح الروائي المتكلم وثيقة داخل وثيقة أكبر هي ضمير الروائي المتكلم وبذلك تكون الوثيقة الكبيرة أهلاً لثقة القارئ.
موقع الروائي:ـ
الشخصيات الأولى في الرواية هي شخصية الروائي، شخصية الشاعر وشخصية ورقاء. يقع الروائي في منتصف المسافة بين الاثنين، وهو لا يرى الشخصيتين معاً بل كلاً على حدة، وليس هو من يدبر ذلك؛ لأن لقاءه مع ورقاء لا يتم إلا بالمصادفة. وينبغي القول إن الروائي المتكلم يقدم الشاعر ويقدم ورقاء بضمير الغائب؛ ويعود ذلك إلى أن الرواية الإطارية لا تتسع لشخصيات ثلاث تتكلم بضمير المتكلم مرة واحدة وفي الرواية نفسها، لكنها تستطيع أن تمنح الرواة الستة الفرصة ليتكلموا بضمير المتكلم، كلاً في روايته المستقلة التي تحتويها بعدئذ الرواية الإطارية. هنا ينبغي القول إن كلاً من الشاعر وورقاء لا يخضع للعبة الروائي ولا يستطيع الروائي أن يحتويهما مثلما احتوى الرواة الستة بضمير المتكلم؛ وبذلك يمكن تقسيم"سابع أيام الخلق"على النحو التالي:ـ
أولاً:ـ الروايات الست التي تناقلها الرواة على ألسنتهم.
ثانياً:ـ رواية الروائي التي تحتوي الروايات السابقة وتصنع لها بناءً روائياً.
ثالثاً:ـ رواية الشاعر الذي لا يظهر كثيراً في الرواية لكنه يعني عنصراً مهماً في بنائها وفي توجيهها من دون أن يخضع لرؤية الروائي.
رابعاً:ـ رواية"ورقاء"التي لا يتمكن الروائي من احتوائها حتى الصفحة الأخيرة من روايته.
وما دام الروائي لا يحتوي شخصيتي الشاعر وورقاء، لأن هاتين الشخصيتين لا تخضعان لبحثه الشخصي، فذلك يعني أن الروائي هو شخصية في طور النمو وهو ليس محترفاً أو هو لا يريد أن يكون كذلك. وشخصية من هذا النوع لا تتطور في ظل ضمير الغائب. ويبدو أكثر اقتناعاً أن نقول إن الروائي في حاجة إلى رؤية الشاعر وإلى رؤية"ورقاء"أكثر من حاجة الاثنين إلى لقاء الروائي. وفي الأغلب، فإن كلاً من الشاعر ومن"ورقاء"يعيش في ضمير الروائي المتكلم، من دون أن يكون الروائي حاضراً بالشكل نفسه في ضميريهما؛ إذ يمكننا أن نتصور أن الرواية لن تضطرب لو أن الشاعر اختفى فجأة ولم يعد يلتقي بالروائي، ونقول الشيء نفسه عن ورقاء. وأكثر من ذلك نقول إن بناء شخصيتيهما على أهميته لا يحدث ضرراً بليغاً ببناء الرواية العام إن اختفيا في أية لحظة من لحظات الرواية، لكن الأمر ليس كذلك حين يتعلق الأمر بالروائي نفسه، فإن شيئاً ما سيضطرب في كيانه إن لم يلتق بالشاعر أو بورقاء، من وقتٍ لآخر، وهكذا عليه أن يتكلم بضمير المتكلم مبرراً حنينه إلى حضورهما وإلى افتقادهما إن غابا عنه، لكنهما غير ملزمين باستخدام ضمير المتكلم؛ فالروائي هو الذي يبحث عنهما ويتوق إليهما أكثر مما يفعلان هما بإزاء غيابه هو عنهما: أي أن الشخصية التي تبحث عن الغائب وتحتاج إلى اللقاء به هي التي تستخدم ضمير المتكلم، وهذا ما يحدث في"سابع أيام الخلق». ولنتصور أن الشاعر هو الذي يقص علينا كيف كتب صديقه الروائي روايته وكل التفاصيل الدقيقة التي مرّت بها روايته حتى لحظة انجازها، وإن الشاعر تكلم طوال هذه الروايات بضمير المتكلم وقدم لنا الروائي بضمير الغائب، وهو يصنع روايته، لأصبحت شخصية الروائي بذلك في الظل ومثلها روايات الرواة الستة والرواية الإطارية التي تضمحل باضمحلال الروائي، ولفقدت الرواية بذلك طابعها البحثي، ولأصبحت مغامرة عادية مهما حاول الشاعر توجيه اهتمامه إلى ملابسات الرواية كلها. ونستطيع أن نقول الشيء نفسه لو أن"ورقاء"لعبت هي الأخرى، لعبة الشاعر. لقد وضع الروائي نفسه عن قصد بين الشاعر و»ورقاء"لكي يبرر استخدام ضمير المتكلم للأسباب الواردة سلفاً. إن روايته رهن بتعاقب حضورهما مع غيابهما ليبرر بحثه عنهما، وهو يبحث في الوقت نفسه عن شكل الرواية كما أنجزها الروائي باحتوائها الروايات الأخرى كلها حتى الصفحة الأخيرة.
رواية البحث:ـ
في"سابع أيام الخلق"هناك بحث لا ينتهي، وهناك رواية داخل أخرى، ولكن بتقنية خاصة تختلف كثيراً عن روايات أخرى من هذا النوع - ونذكر في هذا المجال - رواية جيد"مزيفو النقود"حيث نعثر من بين الشخصيات على كاتب روائي يُدعى"ادوار"وهو يكتب روايته المستقلة داخل رواية"جيد"الكبيرة، لكنه يمكن أن يكون لسان حال المؤلف، أما الرواية التي ما زال يكتبها فهي ليست بالضرورة رواية"مزيفو النقود"كما هو الحال في"سابع أيام الخلق»؛ فكل جهود الرواة والروائي تلتقي في نهاية المطاف في المشروع نفسه وفي الرواية نفسها.
أما مبررات هذا البحث الطويل فهي في إيجاد معادل موضوعي يعتمد قبل كل شيء على البحث لا على المضامين الجاهزة كما هو الحال في الرواية التقليدية. البحث في"سابع أيام الخلق"هو شكل من أشكال البحث عن الحقيقة، لا العثور عليها: ذلك هو مشروع الروائي، فضلاً عن أن الرواية التي نتكلم عنها تمثل شكلاً من أشكال الوساطة بين الروائي وبين المرأة الملهمة والتي هي غاية الروائي.
هناك مجموعة عناصر تنقل"السيرة المطلقية"من حالة المخطوط إلى حالة الرواية، فالرواة الستة الذين تناقلوا هذه السيرة انتهوا من مهمتهم قبل أن تبدأ الرواية، أما الراوي السابع وهو الروائي فاختلافه عن أسلافه الرواة هو في تحويل المخطوط إلى الرواية. ولكي تتم هذه العملية يُصبح ضمير المتكلم ضرورة لا بد منه ليكتمل المشروع. إذ يقول الروائي في الصفحات الأولى من الرواية:ـ
«ستة أقسام يكمل بعضها بعضاً، فضلاً عن قسم سابع هو هذا الذي تتشكل حروفه وكلماته تحت عيني القارئ...
أي أن الراوي حين يتكلم بوعي عالٍ ينتقل إلى شخصية الروائي الذي يبرر بوعيه عملية كتابة الرواية الإطارية؛ إذ لولا هذه الرواية الإطارية لكان الروائي مجرد راوٍ سابع يأتي تسلسله بعد الرواة الستة الذين سبقوه. أما في محاولته نقل المخطوط إلى الرواية فقد ربط المخطوط بالعالم الخارجي وبالحياة المفتوحة، كما أن عملية نقل المخطوطة إلى الرواية تستوجب وتبرر استخدام ضمير المتكلم، فضلاً عن أن حضور"ورقاء"في كواليس الرواية يعني أن الرواية الحقيقية لم تنته بعد، أو أنها لم تبدأ بعد؛ إذ إن عملية نقل المخطوط إلى عالم الرواية لا يتوقف فقط عند هذه الخطوة: أي مجرد تحويل المخطوط على لسان رواته الستة إلى رواية على لسان راويها السابع، بل إن الرواية الإطارية سوف تلتقي بروايات أخرى تعدنا بها الصفحة الأخيرة من"سابع أيام الخلق».
الروائي ليس متأملاً أو مفكراً فقط في هذه الرواية، إنه أكثر من ذلك حين يتشبث بالحياة الحسية ويكتشف أخيراً أن الغاية من هذه الرواية هي ليست الرواية التي تأمل فيها طويلاً. بل هي المرأة...وبذلك تبدو الرواية وكأنها الوساطة الوحيدة الممكنة بين الروائي وبين الحياة متمثلة في المرأة، وهذا يعني أن الرواية الإطارية تهيمن على"السيرة المطلقية"وتحتويها وتتحكم بها وهو الإمتياز الواضح لمشروع الراوي السابع على أسلافه الرواة الستة.
الرواية الإطارية (التثقيف الذاتي):ـ
الرواية الإطارية في"سابع أيام الخلق"هي على صلة وطيدة بحضور ورقاء التي تهيمن بحضورها على الروائي، وتجعله يمضي طويلاً في كتابة روايته، وبهذا الشكل الذي ظهر به إلى القارئ، ولولا حضور"ورقاء"لكانت هذه الرواية ستكتب بشكل آخر. إطار الرواية يعني أن هذا المشروع الروائي ما زال يتشكل، وأن الروائي في حالة بحث مستمر ولا يمكن الإيحاء بهذا البحث من دون الرواية الإطارية التي تمثل كواليس الرواية المقترحة. وهي بهذا تبدو شكلاً من أشكال التثقيف الذاتي في الكتابة الإبداعية النسبية. تتزامن كتابة الرواية مع عملية البحث عن"ورقاء"في كواليس الذات - ذات الفنان - ولا يمكن الفصل بين العمليتين.
هذا النوع من التربية الذاتية سوف يوصل الفنان إلى المرأة المتلصصة على رؤية الكاتب. البحث في الكواليس هو وحده الذي كان يدفع الروائي إلى تصور هيئة الرواية التي لم تكتمل بعد، وهي لم تكتمل لأنها تتطابق مع ملامح"ورقاء"التي لم تتضح بعد لرؤية الروائي: الرواية – المرأة، المرأة – الرواية، كل منهما يشكل جزءاً لا يتجزأ من الجزء الآخر ليلتقيا أخيراً في ذات الفنان الذي يبحث، وها هو يتساءل في روايته:ـ
«تراني أعمل خارج متن الراووق؟
لا ضير في ذلك؛ ففي كلمات"شبيب طاهر الغياث"سأجد العزاء، تاركاً للمطبعة - لا للزمن هذه المرة - مهمة ادخال ما أكتب في ذلك المتن؛ فلولا سريان مدادي في هذه المفردات لن يكون لهذه الرواية وجود... وعلى كل حال أيسعني سوى الإعتراف بأن كتابة رواية ما ليست في واقع الأمر سوى ضرب من"حب الذات»؟ يحب الروائي أن يتجلى في مرآة الوجود، فيبدأ في خلق شخصياته الروائية، وهنا يتلكأ قلمي لحظات قبل أن يخط على بياض هذه الصفحة اسم"ورقاء»؛ فبرغم تعدد الخيوط التي قادتني إلى هذه الرواية، يبقى ذلك الخيط الذي شدني إلى"ورقاء"اكثرها انسجاماً مع لحمة هذه الرواية وسداها، فالكتب وحدها قادتني إلى"ورقاء».(2)
كتابة الرواية شكل من أشكال حب الذات، أما الحوادث التي تزخر بها الرواية فليست إلا ما تكتمه الذات قبل أن تسترجع الصورة الغائبة في العالم الشعري البعيد. هذه الرواية محصورة بين"مدينة الأسلاف"و»وجه ورقاء"بين الخيال والواقع، بين عالم الشعر في غيابه وملامح ورقاء التي تتشكل شيئاً فشيئاً. الرواية هي مزيج من هذا وذاك: من الغياب والحضور، ومن الخيال والواقع. وما دامت"ورقاء"قريبة من رؤية الروائي، وما دامت تتلصص على غرفته روائياً، تكون الرواية الإطارية بذلك معادلاً لضمير الروائي ولذاته الإبداعية.
كما أن رواية العشق بين الروائي وبين"ورقاء"تتطور في كواليس"السيرة المطلقية"على غرار ما يحدث في حكاية شهرزاد وشهريار التي تنمو، هي الأخرى، في كواليس حكايات"ألف ليلة وليلة"وذلك ما يبرر - بالشكل نفسه - الحكاية الإطارية في"الليالي».
لقد وضع الروائي ثلاث شخصيات مهمة في الرواية الإطارية وهي:ـ"ورقاء"والشاعر والروائي نفسه. وهذه الشخصيات بوجودها في الزمن الحاضر في الرواية تتمكن من تحوير حوادث"السيرة المطلقية"لتصنع منها رواية بتقنية معاصرة، وهي بذلك رواية تتطور أمام القارئ، ولا تقدم"السيرة المطلقية"بوصفها موضوعاً قد إنتهى.
لم تعد الرواية في عصرنا مجموعة حوادث يسردها الروائي أمام المتلقي بوصفها أمراً محتوماً، بل أصبحت مرادفاً لفعل يتحرك ويتطور من دون أن يتوقف حتى في صفحاتها الأخيرة. ولا بد للرواية من أن تخضع لمجمل تحويرات يتحكم بها السارد الأول أو لسان حال الروائي. ولا شك أن أفضل مثال نذكره في هذا المجال هو رواية بروست حين جعل المؤلف من مارسيل لسان حاله ليتحكم بالرواية الثانية التي تحتويها رواية مارسيل، والمقصود بالرواية الثانية هي رواية سوان التي تتحكم بها الرواية الأولى وتصبح إطاراً لها وتحورها كما تشاء، ولذلك نجد أن رواية مارسيل التي توجه رواية سوان هي رواية مكتوبة بضمير المتكلم، أما رواية سوان فبضمير الغائب. كما ينبغي أن نشير إلى أن الروائي في"سابع أيام الخلق"يوظف ضمير المتكلم في روايته الإطارية في أكثر من مجال؛ فهو يستخدمه أحياناً لمخاطبة الآخر، كما يفعل مع"ورقاء"ومع"الشاعر»، ويوظفه أحياناً أخرى لمخاطبة الذات في حوار داخلي سيكولوجي.
إن ما ذكرناه في الصفحات السابقة يتفق مع ضرورة استخدام الرواية الإطارية في موضوع من هذا النوع يحاول أن يصل عالم الشعر بعالم الرواية والمجرد بالملموس. إنها - أي الرواية الإطارية - هي المعادل الموضوعي الوحيد الممكن للإقناع برواية"سابع أيام الخلق».

الهوامش
(1) عبد الخالق الركابي،"سابع أيام الخلق»، بغداد، دار الشؤون الثقافية العامة، ص144ـ1994.
(2) نفسه ص7.
(3) نفسه ص8.
مجلة الأقلام/ع 1ـ4/1997