غانم الدباغ 1923-1991

غانم الدباغ 1923-1991

د. عمر الطالب

في أسرة متوسطة نشأ وترعرع تزوج والده إمرأة أخرى قروية، ونزح معها إلى القرية وترك الزوجة الأولى في الموصل مع ولديها بعد أن ذاقا من زوجة الأب ما صوره غانم الدباغ في مجموعته القصصية (حكاية من المدينة القديمة) 1947

وتظهر لوعة الحرمان من حنان الابوة في العديد من قصصه أظهر تفوقاً ملحوظاً في دراسته وانصراف إلى القراءة واتقن اللغتين العربية والانكليزية واضطرته ظروفه الاقتصادية أن يدخل دار المعلمين الريفية وعين معلماً في النواحي عام 1944 وكان قد بدأ النشر في مجلة (المجلة) الموصلية منذ عام 1938 أي منذ كان طالباً واعجب به صاحب المجلة (عبد الحق فاضل) وشجعه على الاستمرار في الكتابة ونشر في الصحف والمجلات فصصاً عدة حتى فازت قصته (الظلام المخمور) عام 1954 بالجائزة الثالثة في مجلة الآداب البيروتية من بين ثماني ومائة قصة. كما فازت قصته (الماء العذب) عام 1955 في مسابقة أقامتها مجلة (الاديب اللبنانية) وكان مولعاً بالموسيقى ولا سيما الكلاسيكية منها (السمفوني) وتجمع حوله عدد كبير من محبي الموسيقى كان يشرح لهم حركات سينفونية والف عدداً من الكتب عن الموسيقيين لم يظهر منها غير كتاب (بيتهوفن) عام 1976فضلاً عن اجادته اللغة الانكليزية التي كان يدرسها في المدارس التي عين فيها فكان كتابه الأول ترجمة بعنوان (قصص من الغرب) عام 1950وكتابه الأخير (وكبرى الحكايات العالمية)1981.

كان غانم الدباغ انسانياً يقدم ما يستطيع من مساعدة لكل من يحتاجها ومن الاخلاق لا تفارق الابتسامة وجهة الوسيم ويدخل حديثه القلب لعذوبته ورقته وسعة اطلاعه فلا عجب أن تتوثق صلته بأدباء المدينة فساهم عام 1954مع (شاذل طاقة وهاشم الطعان ومحمود المحروق) في تكوين جماعة أدبية أطلقوا عليها (رواد ادب الحياة) وحرروا الصفحة الأدبية في جريدة (الراية) الموصلية.

وانتمى غانم الدباغ إلى اتحاد الأدباء في العراق منذ تأسيسه عام 1958وكافح مع زملائه من أجل تشكيل نقابة المعلمين. وانتقل إلى بغداد عام 1960 وأصدر ثلاث مجاميع قصصية (الماء العذب) 1969، و(سوناتا في ضوء القمر)1970و (حكاية من المدينة القديمة) عام 1974ورواية (ضجة في الزقاق) عام 1972الجزء الأول ولم يصدر الجزء الثاني بل ظل مخطوطاً بعد اصابته بالفالج وتقاعده عن العمل وانزوائه في داره بعد نشاط جم وحركة دؤوبة إصطبغت قصص غانم الدباغ بسوداوية شفافة تصور آلام مجتمعه نتعرف على شخصياته من خلال فعلها وردوده تدريجياً وهو مجيد في تحليلها وابراز نوازعها ومكتوباتها وتفجرت هذه الرغبات في قصة (الماء العذب) وتكشفت منابع انسانيته في (الظلام المخمور) التي اعتمد في بنائها اسلوب التداعي…ومثل هذا الاسلوب كان جديداً على القصة العراقية تأثر فيه باسلوب (جيمس جويس وفرجينيا وولف). وجاء زمان القصة ومكانها ملائماً لهذا الاسلوب حيث تدور في مشرب شعبي وشخصياتها شعبية من قاع المجتمع إلى جانب شخصيات مثقفة مثقلة بالمتاعب الحياتية. وإذا جاء الجنس محوراً اساساً في معظم قصصه إلا أن الجنس لا يأتي افتعالاً أو اقحاماً والجنس عنده معادل موضوعي للخيبة التي تحسها الشخصية في دواخلها. إنه نوع من الهروب من الواقع كشرب الخمرة تماماً فرغبة البطل بالماء العذب يعني رغبته (بترفه) فاذا ما حصل عليها اراق الماء العذب وما رغبته بترفة الا بديل عن تأزمه النفسي والاجتماعي في تلك القرية الضيقة. وموقفه من الجنس ادانة للشباب المتخاذلين غير القادرين على تحمل مسؤلياتهم..إنه إنتحار حسي، فاذا كان المنتحر يتذوق الم الانتحار مرة واحدة. فان شخصيات غانم الدباغ تنتحر في الهروب إلى الجنس وتجابة الالم باستمرار انها شخصيات ماسوشية.

اما السمة الثالثة لقصصه فهي القلق، وشخصياته من البرجوازية الصغيرة التي تعاني غالباً من الازدواجية بين الفكر والسلوك حيث يملي عليها الوعي الصراع مع الواقع المتخلف إلا أنها تجد نفسها مكبلة بقيود الخوف فتدفعها إلى الثرثرة غير المجدية كما في قصة الظلام المخمور أو إلى إغراق الذات في الاوهام الحالمة كما في سوناتا في ضوء القمر والأعمدة..إلى آخره من القصص العديدة وهي غير قادرة على مجابهة الواقع وجهاً لوجه. فيلجأ إلى بناء بعيد عن البناء الموباساني التقليدي كما في قصته (سوناتا في ضوء القمر) فقد اعتمد بناء جديداً بين القص والشرح وكل ما في القصة يدل على القلق والخوف والحلم والنزوة والخطيئة والتردد والتقليص والخجل والخيانة الزوجية فضلاً عن الخيبة التي تنتهي اليها القصة..وفي قصته (الأعمدة) نجد عبر اسقاطاته العديدة المختزنة وركام الجمل الموحية عن علاقة هذا الانسان المضادة للعالم حتى عزله هذا التضاد عن كل ما حوله وقد بنى غانم الدباغ قصته هذه على شكل مقاطع يبتدئ المقطع بوصف أو جملة اختزنها البطل في ذاكرته ثم تتراكم الجمل ذات الايحاءات المتعددة والميزة الرابعة لقصص غانم الدباغ اجادته في ادارة الحوار الخارجي أو الداخلي بشكل مترابط ملئ بالحركة وقد يرد الحوار بالفصحى أو باللغة الثالثة (الفصيحة) محلاة بكلمات عامية حسب طبيعة الشخصية ومستواها الاجتماعي والفكري.

اما روايته (ضجة في الزقاق) 1972 فهي من نمط الرواية السيرية وشديدة الالتصاق بمدينة الموصل واحداثها في منتصف الخمسينات وتطرح من خلال ازمة بطلها (خليل القولجي) صورة الصراع مع السلطة في الموصل عام 1956 وانعكست الاحداث من خلال الموظف الصغير واسرته المكونة من امه واخته وأخيه..والبطل هو غانم الدباغ نفسه والاسرة أسرته. واصدقاؤه المعلم صبري والمحامي سعد الله والشيخ يونس هم اشخاص معروفون في الموصل وتطرح الرواية مشكلات سياسية واجتماعية وفكرية وعاطفية ولا تجد في الرواية ربطاً متفاعلاً بين الاحداث الساخنة وموقف خليل:القلق المتذبذب، وبين دورانه الضيق عبر حياته الخاصة فما أن تتسع الدائرة حتى تعود تضيق ثانية ومع ذلك نحس بان الحياة تتقدم فعلاً وإن روافد التقدم عديدة تتجمع وتكون مجرى أكبر للاحداث التي تتسع وتجرى بدفق اكبر.. ويتمكن غانم الدباغ من ابراز (خليل القولجي) شاهداً على تلك الفترة الغائرة إلا أن الاحداث ضاقت في الرواية في حدود الحياة الضيقة التي يحياها خليل القلق الخائف والمتذبذب بين افكاره التقدمية وخوفه ولم يتمكن غانم الدباغ في روايته هذه من الخروج إلى العام إلا في حدود ضيقة بدت مثل خلفية ديكور مسرح فقير، لما كان يدور في الشارع من مظاهرات واعتصام واعتقالات إلا أنه كان موقفاً في تصوير تداعيات خليل وابراز الجوانب العامة لتلك الاحداث وعلاقاتتها بالحياة اليومية لخليل..إن غانم الدباغ بحق قاص متميز أعطى للقصة العراقية مكانة خاصة في عالم القصة العربية.

عن موسوعة اعلام الموصل