مائدة نزهت امام قبر ام كلثوم 1976

مائدة نزهت امام قبر ام كلثوم 1976

اسماعيل الخطيب
باحث موسيقي
من المصادفات الحلوة التي أدت الى ميلاد أغنية جديدة أن حدث ذات مرة وبعد مرور شهر تقريباً على بث أغنية مائدة نزهت الجديدة الأولى في حياتها الفنية من إذاعة بغداد التي كتبها ولحنها أحمد الخليل سنة 1954 التي كان مطلعها (يللي تريدون الهوه صبروا على أحو) أن التقينا أثناء خروجنا أنا والفنان احمد الخليل من دار الإذاعة في الصالحية ببغداد.

وفي الممر الأمامي لها التقينا بالفنانة المصرية المعروفة(نرجس شوقي) وهي داخلة الى الإذاعة لتقديم حفلتها الاسبوعية التي كانت تبث على الهواء مباشرة.
وبعد تبادل عبارات التحية المعتادة بيننا، قالت نرجس لأحمد ليش يا احمد إشبدلك .. ما كنت حلو معايا .. مين الست مائدة دي حتى تاخذك منا.. يظهر أن الوقت هذه الأيام للشابات الصغيرات وليس للعواجيز أمثالنا أنا وعفيفة .. فقال أحمد الخليل على الفور أستغفر الله يا ست مين اللي تقدر توصل مكانتك وفنك بالمناسبة أنا محضر لك أغنية جديدة حلوة كنت سأخبرك عنها ولكنك سبقتيني .
فارتاحت نرجس لهذه الإجابة وقالت ما دام كده.. أنا مستنياكم بكره .. بس أيه هو الكلام . فقال أحمد إسألي الأستاذ اسماعيل أهو أمامك يخبرك .. فقلت لها: سيعجبك إن شاء الله إطمئني
وافترقنا..
وفي الطريق سألت أحمد عن الموضوع فقال ضاحكاً لم أجد طريقة أخرى للتخلص من الموقف غير هذه الكذبة فقلت له يا حلو كلي اشبدلك روحي أضحيها الك . فأمسك أحمد بيدي وقال فرحاً هذه هي الأغنية وأخرج علبة سكائر وسجل هذا الكلام عليها وقال أريد منك بقية كلام الأغنية. ولما تلاقينا في اليوم التالي سلمتهُ الأغنية وكانت كما يلي:
يا حلو كلي اشبدلك ـ كلي دكلي؟
روحي أضحيها الك ـ كلي دكلي؟
كلما ردت.. كلما طلبت
ضحيته لأجلك بس إلك
يا حلو كلي اشبدلك ـ كلي دكلي؟
إلى آخر كلمات الاغنية التي لحنها أحمد الخليل خلال ذلك الاسبوع وكانت من مقام الاوشار وهو من المقامات القوية الفرحة وقد أبدعت نرجس في أدائها جداً وحققت الأغنية نجاحاً منقطع النظير وانتشرت في حينها بسرعة بحيث أصبح الناس يرددونها في أفراحهم ومناسباتهم سنوات عديدة حتى أن الفنان روحي الخماش رحمه الله سجلها مع فرقة معهد الفنون الجميلة التلفزيون بعد أكثر من خمس وعشرين سنة على أنها من الأغاني العراقية التراثية القديمة دون الإشارة الى مؤلفها اسماعيل ابراهيم الخطيب أو ملحنها المرحوم أحمد الخليل ..
مائدة نزهت والمقام العراقي
كان التقليد المهيب في الغناء المقامي يمنع ان يؤدى مقاماً معيناً الا وقد انطلق من التقليد التام .. واول واهم مراكز التقليد هي ان تكون القصيدة المغناة ذاتها التي سبق ان غناها احد المغنين المشاهير وفي نفس المقام المعين . فمقام الحويزاوي الذي غناه المغني التاريخي محمد القبنجي , وبما لهذا المغني الكبير من سطوة هائلة على الجماهير فقد كان مقامه الحويزاوي له سطوه اخرى على مسامع واذواق المغنين والجماهير منذ ان سجله اذاعياً عام 1956 واعاد غنائه عام 1964 في مؤتمر ومهرجان الموسيقى العربية الثاني الذي انعقد في بغداد ، وهذه المرة سجل تلفزيونياً بحيث لم يجرأ اي من المغنين الاخرين ان يغنوا مقام الحويزاوي بعد هذا التاريخ الا بنفس القصيدة و نفس الاداء الذي اداه استاذنا محمد القبنجي , والقصيدة مأخوذة من كتاب الف ليلة و ليلة. ففي هذا المقام كمقاماته الاخرى كان القبنجي كطائر تاريخي من العصور القديمة يبسط جناحيه الهائلين صوب المشرق و المغرب , والكل تحت خيمته.. فمن يجرؤ على مجرد طرح رأي ولو كان بسيطاً ...
غنى القبنجي مقام الحويزاوي , فغزى القلوب والافكار والهب المشاعر في قصيدة لو كان قائلها حي يرزق لقدم الولاء والشكر والعرفان لهذا الفنان لانه خلدها بالفعل , اذ نفض غبار الزمن عنها واظهر بريقها الوهاج .
اما تجربة المطربة مائدة نزهت , حيث غنت هي الاخرى مقام الحويزاوي باسلوب فني مغاير تماماً لاسلوب مطرب الاجيال محمد القبنجي و مغاير ايضاً لاسلوب فنان القرن العشرين ناظم الغزالي, ولم يكن ذلك لمرة واحدة بل كررت ذلك مرتين و بقصيدتين جديدتين مختلفتين ففي المرة الاولى غنت الفنانة مائدة نزهت مقام الحويزاوي بقصيدة عبد المجيد الملا
يا من هواه اعزه و أذلنــــي كيف السبيل الى وصالك دلنــي
واصلتني حتى ملكت حشاشــتيورجعت من بعد الوصال هجرتني
وفي المرة الثانية اثبتت الفنانة مائدة نزهت امكانياتها الابداعية وغنته بقصيدة الشاعر المخضرم حافظ جميل بأجمل ما يمكن ان يكون.
وا عظم بلواك من هم تعانيــه ومن جوى ألم في النفس تخفيــه
لله آهتك الحرى اذا انبـــعثت عن لاعج في سواد اللــيل تذكيه
1979
وابدعت مائدة ايما ابداع في المقام العراقي لما تمتلكهمن حس فني رائع وقدرات صوتية واسعة اعتزلت مائدة الغناء في اواسط الثمانينات وتحجبت وحجت الى بيت الله الحرام مع ولدها البكر اياد وابتعدت عن الفن الى غير رجعة .