معضلة ازلية.. غربة ذوي العقول وحيداً.. غادرنا الشاهري..

معضلة ازلية.. غربة ذوي العقول وحيداً.. غادرنا الشاهري..

شكيب كاظم
لقد كنت اقرأ ما يكتبه المؤرشف العراقي الضليع وحيد حسن الشاهري في جريدة (العراق) او في مجلة (الف باء) فكنت اعجب من هذه الذاكرة الوقارة، التي تحتفظ بوصر واضحة لمعالم بغدادية، كرخية، تكاد تطمس من الذاكرة او الباصرة، غير ان وحيدا الشاهري، كان يقدمها حية واضحة قريبة من ذهن المتلقي، ولكم عجبت من هذا الارشيف الضخم والضخم من المعلومات عن الافلام العربية والاجنبية.

التي كانت تعرض في دور السينما، سنوات العقدين الخمسيني والستيني من القرن العشرين فيقدم للقارئ بين حين وآخر حديثا عن افلام بقيت في الذاكرة، يلخص قصة الفيلم، مقدماً اسماء ممثليه وممثلاته، ولا يكتفي بهذا الشرح والتلخيص بل يقدم رأياً فنيا ذكيا عن مجريات الفيلم، لابل في بعض الاحيان نقدا للفيلم من ناحية التصوير او التمثيل او الانارة، او الموسيقة التصويريةللفيلم، مع الصورة التخطيطية الاصلية التي تعرض على واجهة دور السينما.
لم يقتصر جهده على الحديث عن الافلام العربية او العراقة – على ندرتها وقلتها – الغنائية منها او التاريخية او الاجتماعية، بل كان يتناول باحاديثه تلك افلاما اجنبية امريكية او ايطالية، إذ ما كانت تصلنا الافلام الفرنسية، بسبب مقاطعة العراق لها، احتجاجاً على السياسة الفرنسية المناوئة لتطلعات الشعب الجزائري الشقيق، الثائر بقيادة جبهة التحرير الوطني الجزائري، الهادفة لنيل الحرية والاستقلال، وحتى مجيئ الرئيس الفرنسي الرائع للسلطة في شهر مايس من عام 1958 الجنرال شارل ديغول قائد النضال الفرنسي ضد الاحتلال الالماني لفرنسة، ومن ثم عقده ممارثارت ايفيان في شهر اذار 1962 التي اعترفت بحق تقرير مصير الشعب الجزائر، اقول ما كانت هناك افلام فرنسية وقلة هي الانكليزية، وكان الفكاهي فورمان وسدوم فرس وهانها.
كان الشاهري وحيد حسن، يعيد لذاكراتنا، ممثلين وممثلات عماقة ابوا ان يغادروا ذاكرة مشاهدي افلام تلك السنوات مثل: همفري بوكارد، والان لار ومنتكومري كلفت، وكركوري بيك، وفرانك سيناترا. وكاري كوبر، وفكتور ماتيور، وبرت لانكستر، وكلين فورد، وسبنسر تريسي، وجون واين، وجيمس ستيوارت، وستيوارت جرنجر، وريتشارد ويدمارك، وكيرك دوكلوس، ولي. جي. كوب، ومارلون براندو، وروبرت تايلور، وروك هدسون، وتاري كرانت، وكلارك كيبل، وتوني كيرتسي، وروبرت فيتشوم، وجاك بلانس، وليكس باركر، وجوني ويسمولر، وفيتوريا دي سيكا وممثلات رائعات مثل: روزانا بودسنتا، وبربارة ستانويك، وزازاز كابور، ومارلين مونرو، وكيم نوفاك، ونيفيان لي، وجين مانسفيلد، واليزابث تايلور، وانجريد برجمان، وصوفيا لورين، وحين اليسون، وريتا هيوارث، وجين رسل، واودري هيبورن، وهايدي لامار، وافا كاردنر، وكريس كيلي، وسلفانا مونكانا، وذات الشعر الاحمر الساحر، التي تخطفها السرلمان العربيل، سوزان هيوارد، وبطلة السباحة استروليامز، وجينا لولو برجيدا، وفيرا مايلز.
ان وحيد الشاهري، ارشيفي ماهو كبير من مؤرشفي السينما العربية والاجنبية ، ويكاد مع زميله الراحل احمد فياض المفرجي، الذي كان جل اهتمامه عن المسرح العراقي، والذي يحتفظ بارشيف واسع عنه، يؤلفان ثنائياً قلما يجود بمثلهما الزمان، فضلا على القاص والمؤرشف البارع سالم العزاوي، الذي تخطفه طائر الموت بغتة، يوم الاثنين 21/حزيران/ 2010 المولود في مدينة الموصل في شهر نيسان 1945 وكان قد تخرج سالم (محمد علي) العزاوي في كلية العلوم بجامعة الموصل، إلا ان شغفه بالفن دفعه الى الانغمار في عالم الاذاعة والتلفزيون، ليقدم برامج ناجحة منها (عدسة الفن) مع الاذاعية المتألقة خيرية حبيب وبرنامج (السينما والناس) مع القاصة والمترجمة الحاذقة ابتسام عبدالله، وقدم احد اخريات ايامه عروضا رائعة تناول فيها عددا من كلاسيكيات السينما الامريكية.
ترى الى اين آل هذا الارث الارشيفي الرائع، لا الارث المادي المالي فاصحاب العقول لا أرث ماديا يخلفون، في مجتمعات لا تحترم ما يقدمون، إذ غالبا ما يضيق ابناؤهم بهذه المخلفات، وغالبا لا يكون الابناء على سر الاباء، مع ان طبائع الحياة والاشياء والمورثات والجينات والكروموسومات تفترض ان يكون الابناء على سر الاباء، وقديما قال الشاعر الجاهلي: ومن شأبه ابه فما ظلم، وهنا تأتي (أبه) لغة في اعراب لفظة (الأب) أباه، ابيه، ابوه بحسب الحالة الاعرابية!! فاذا ما رحل الأب عن الحياة، تسابق الابناء – في صورة من ابشع صور النكران والجحود والعقوق – الى التخفف من هذا العبء الثقيل، فيفرقونه بدداً ولعلهم يرمون به الى حاوية الازبال!! وما غاب عن البال مصير تلك المكتبة الضخمة لمؤرخ العراق الكبير المرحوم عباس العزاوي، في حين تبرع آخرون بهذه المخلفات الى احدى الهيئات العلمية، إذ كنت ارى وانا ارتاد مكتبة المتحف العراقي بصالحية الكرخ، خزانة صغيرة تحوي كتبا للمرحوم الدكتور مصطفى جواد، وأخرى للراحل يوسف يعقوب مسكوني (1903 – 11/4/1971) الكاتب المحقق التراثي، وكمل ترك الارث الرائع للكاتب الالمعي عبد المجيد الشاوي، ثاويا في بطون الجرائد، فان بعض الابناء الجباء اهتموا بما خلفه الابااء، فهذا الدكتور وليد يهتم بمذكرات ابيه القاضي النزيه محمود خالص، الذي اوصلته نزاهته لتبؤ اعلى منصب عدلي في العراق، كما اهتم محمد رضا القاموسي، بما خلفه الاديب الراحل صادق القاموسي، فاصدره بكتاب حمل عنوان (ذكرى صادق القاموسي) صدرت طبعته الاولى عن دار القاموسي للنشر والتوزيع ببغداد سنة 1431 هـ - 2010م.
وبعد: لا اعرف تاريخ ولادة المؤرشف السينمائي العراقي الضليع وحيد حسن الشاهري، الكرخي الاصيل، لكنني قرأت نعيه على عدد جريدة (العراق) الصادر في الرابع والعشرين من شهر تشرين الثاني سنة 1998. لقد غادرنا الشاهري وحيدا، وما اراه إلا ترك ارشيفه وحيداً – كذلك – يواجه مصيره القاتم، فلقد حدثني صديق قاص، ان كل ارشيفه من الصحف والمجلات والدوريات الذي امضى زهرة شبابه في اقتنائه حمل الى حاوية الازبال، تمهيدا لتفريغ غرفة مكتبته، كي يعرس فيها شقيقه الاصغر، وبقي صديقي القاص يندب حظه العاثر بين اهل لا يفرقون بين نتاج العقول ، والمخلفات التي مكانها الحاويات!.