كاتب لاجذور له، أثقلته المحن

كاتب لاجذور له، أثقلته المحن

بقلم: لاري روتر
(مسيرة رادتسكي) التي تتناول عائلة تروتا المتألفة من ثلاثة أجيال، إلى الواجهة في الأعوام الأخيرة لتجعل كاتبها (روث) يحتل مكانة بارزة تحت الضوء مثله مثل كتاب ألمان عظام من القرن العشرين ككافكا وروبرت موسل. ولكن بسبب عدم وجود سيرة ذاتية عن روث، بقي الكثير من حياته غير معروف عند القرّاء، على الأقل في البلدان المتحدثة باللغة الإنجليزية.

إن من ميّزات كتاب (جوزيف روث: حياته في رسائل) هو كونه يملأ بعض الفراغات في الحياة القصيرة والمضطربة التي عاشها روث، والذي وُلد في شمالي شرق الإمبراطورية النمساوية الهنغارية عام 1894 ومات وهو فقير الحال في باريس عام 1939. وبالإضافة إلى المديح الذي ناله الكتاب فإنه يقدّم تصويراً ممتعاً للموجات السياسية والفكرية التي شكّلت الحياة الأدبية الأوروبية مابين الحربين العالميتين بالإضافة إلى بصيرة روث الثاقبة عمّا كان يجري آنذاك.
يسجل كلٌ من توماس مان وهيرمان هيسة وآندريه جيد حضوراً متميّزاً في الكتاب، بينما وجد روث الأمر مضحكاً أن تقول مارلين دايتريتش عنه بأنه كاتبها المفضل وقال حول ذلك: “ربما ستشتري واحدة من رواياتي.”
يحتوي كتاب (جوزيف روث: حياته في رسائل) على 457 رسالة وتشكّل رسائل العائلة والأصدقاء المقربون والرسائل التي تحتوي على تعليقاتٍ على رواياته، أثناء كتابته لها، جزءاً صغيراً منها. بينما تشكّل الجزء الأكبر منها الرسائل المرسلة إلى أصدقائه من الكتّاب، وبالأخص ستيفان زفايج الذي كان من أشهر الكتّاب في العالم خلال عقدي العشرينيات والثلاثينيات، ورسائل موجهة إلى زملاء ومترجمين في جريدة (فرانكفورتر زيتانغ) وجرائد أخرى كان روث ينشر مقالاته وقصصاً قصيرةً جداً وعروض كتبٍ فيها.
أما فيما يتعلق بعلاقاته الشخصية، فإن روث يصبح متبرماً بشكل مزعج، فهو يشكو من كل شيء: صحته ومشاحناته مع المحررين والفنادق الرثّة التي سكن فيها والترجمات الرديئة لأعماله ومشاكله مع النساء وقد نالت معاناته المالية التي لاتنتهي الحصة الأكبر من شكواه، والتي جلبها لنفسه لولعه بالكحول وهذا ماساهم في وفاته المبكرة. يكتب روث في واحدة من شكاويه المألوفة لمترجمه الفرنسي: “أنا غير سعيد ويعتريني القلق. لاأستطيع الكتابة وتصيبني الكوارث الواحدة تلو الأخرى.”
وعلى الصعيد العام، فإن الانزعاج الذي يعاني منه روث يتخذ نبرةً تنبؤية غاضبة، وخصوصاً مع انهيار الوضع السياسي والاقتصادي في أوروبا. إن الرواية الأولى لروث، (شبكة العنكبوت)، التي كتبها عام 1923، يتم ذكر اسم هتلر فيها، وعندما تولى هتلر حكم ألمانيا بعد ذلك بعقدٍ من الزمن، بدأ روث فوراً بتحذير الذين يتراسل معهم بأن عالماً من الخراب المستمر على وشك أن يبدأ.
يكتب روث إلى زفايج، والذي هو يهودي نمساوي مثله، قائلاً: “إنه لمن الواضح الآن بأننا نتوجه نحو كارثة عظيمة” بعد اسبوعين من تسلّم هتلر للسلطة. ويقول أيضاً: “بعيداً عن أوضاعنا الشخصية، حيث أن وجودنا المادّي والأدبي قد تدمّر، فنحن متوجهون إلى حربٍ جديدة، وإني لاأهتم بأهدافنا المستقبلية. لقد سيطر البرباريون على كل شيء. لاتخدع نفسك. إنه عهد الجحيم.”
وفي هذا السياق، فإن الهوامش المختصرة عن السيرة الذاتية للشخصيات الثقافية التي يذكرها أو يكتب لها روث، والتي يقدّمها لنا مترجم ومحرّر الكتاب مايكل هوفمان الذي ترجم عدة روايات لروث، هي مؤثرة حتى وإن كانت غير كافية. كما أن أقرباء روث وأصدقائه وزملائه (بالإضافة إلى زوجته المصابة بمرضٍ عقلي والتي يشكّل علاجها المكلف والمصحات التي ترتادها مصدراً للهم والشعور بالذنب بالنسبة له)، أما قد أحرقهم النازيون بالغاز مباشرةً بعد بدء الحرب العالمية الثانية أو قد هربوا إلى المنفى حيث ماتوا بعد عقودٍ في أماكن مختلفة كسانتا مونيكا وكاليف وتكسان بعيداً عن اللغة والثقافة التي نشؤوا عليها.
تتخذ نبرة روث طبيعة تنبؤية متشائمة ومروّعة عندما يثبّت النازيون وجودهم في ألمانيا، ولكن لم تكن لديه بدائل عملية أو وصفات جاهزة ليقدمها. لقد أمل باستعادة مَلكية هابسبرغ والتي حارب من أجلها في الحرب العالمية الأولى (بالرغم من أنه بالغ في سجل خدمته العسكرية)، وهناك عدة رسائل تفصّل جهد روث الخيالي في إعادة خلق ماسمّاه بـ”بلدي الأب، البلد الوحيد الذي عرفته.”
حنين روث لماضٍ يصعب الشفاء منه يجعله ضد الصهيونية وهو عرضة في بعض الأحيان لآراء جانبية تجعله يتسم بكونه ضد السامية معلناً عن عدم اكتراثه لأصوله. يكتب لزفايج فيقول: “كوني يهودياً لم يعنِ لي أي شيء عدا أنه ميزة عرضية كشاربي الأشقر.”
ويتسم روث في هذه الرسائل وبصورة أساسية بأنه متناقض. يميل روث لليسار فنجده في بعضٍ من أوائل برقياته يوقّع تحت اسم “روث الأحمر” حتى زار الاتحاد السوفييتي عام 1926 فنفر مشمئزاً مما رأى. ولكنه يحتقر أيضاً الديمقراطيات: جمهورية ويمار وبريطانيا وماأطلق عليها ساخراً “الأمركة العاطفية” ولم يسلم هؤلاء جميعاً من انتقاده. ولكن فرنسا فقط هي التي سلمت منه وهذا يعود لحبه للغتها وثقافتها وناسها أكثر من سياستها.
يسود هذا التواصل المكثف بين روث وزفايغ في النصف الثاني من الكتاب، وهذا يتضمن رسائل من زفايغ إلى روث (يهرب زفايغ أولاً إلى لندن ثم إلى نيويورك وأخيرا في محاولة يائسة إلى البرازيل حيث انتحر هو وزوجته عام 1942). إن هذه المراسلات بين روث وزفايغ هي أمر ساحر ولكنها تشكّل قراءة غير ممتعة: حيث تتأرجح نبرة روث بين الاستياء والتملق خصوصاً وأنه يلح على زفايغ بصورة مستمرة من أجل أن يكتفي ذاتياً من الناحية المالية.
هذه الرسائل، التي أرسلت من فنادقٍ عدة ومن عدة بلدان، تسلّط الضوء على الحقيقة الرئيسية في حياة روث وفنه، وهي حقيقة أنه بلا جذور. وفي مرحلةٍ مبكرة من حياته يعترف بأن “الشعور بعدم الانتماء لأي مكان رافقني دائماً” وفي رسالة موجهة إلى ناشره عام 1930، ولكونها تشكّل تجربة حكائية فإن السيد هوفمان محرر الكتاب يصفها بأنها “الشيء الوحيد التي يقترب من السيرة الذاتية لروث” والتي تقدّم مايمكن اعتباره كنقش شهادة على ضريحه.
كتب روث فقال: “لايوجد في أي مكان، سواءاً في دائرة تسجيل أو أبرشية أو مسح سكاني، سجل لاسمي أو تاريخ ولادتي” ويقول أيضا: “ليس لدي بيت عدا بيتي في داخل نفسي. أينما أكون تعيساً يكون بيتي. وأنا سعيد فقط عندما أكون بعيداً. إذا غادرت نفسي مرة واحدة فسأخسر نفسي ولهذا فإني أجد الأمر مهما أن أبقى داخل نفسي.”