في رواية (سدهارتا) ..نموذج أسطوري للبراهمي الذي أثقلته روحه المعذبة

في رواية (سدهارتا) ..نموذج أسطوري للبراهمي الذي أثقلته روحه المعذبة

بغداد/ أوراق
حكاية أسطورة تجري احداثها في إحدى القرى البعيدة تضمنتها رواية (سدهارتا) لهرمان هسه والصادرة عن دار (المدى) بترجمة جيزلا فالور حجار حيث نتعرف من خلالها على نزوع البشر نحو البحث عن الذات في الحقيقة المطلقة (اوم) أو عن الحقيقة المطلقة في الذات (النرفانا)

أي الخلاص الروحي الأبدي.‏ سدهارتا نموذج أسطوري للبراهمي الذي أثقلته روحه المعذبة في جسد قلق, واكتشف أن الطريق الى الخلاص, يبدأ بكسر التعاليم وإطلاق الروح بملء الحرية, والصبر وانتظار ومضة المعرفة التي لم تشرق على فاوست.. وقد حلت في روح سدهارتا في لحظة بين الوجودية والتجلي.. نشأ سدهارتا في بيت برهمي عريق, تعلم فيه كيف يبدأ نهاره باستحضار أوم في داخله, دون أن ينطق بهذه الكلمة المقدسة.. وباستحضار اتمان في أعماق وجوده. كان والداه سعيدين بهذا الابن الذي شب عن الطوق عالماً كبيراً. وكاهناً وأميراً بين البراهمة. وكان صديقه جوفيندا يحبه كما لا يحب أحداً, ويعلم أن سدهارتا لن يكون برهمياً عادياً أو كاهناً كسولاً يقدم القرابين, أو تاجراً للكلمات السحرية, أو شاة غبية طيبة بين قطيع كبير، لكن سدهارتا لم يكن سعيداً.. فعندما كان يتجول في الممرات الوردية, التي تقطع بساتين التين, أو يجلس غارقاً في تأملاته, أو يقدم القرابين في أعماق غابة المانغو.. كان يشعر بالرتابة والخواء, والعجز عن مقاومة الأحلام والخواطر المقلقة التي تتدفق عليه مع ماء النهر وضوء النجوم وأشعة الشمس. كان هاجسه أين يوجد اتمان الأكبر, أين يسكن, أين ينبض قلبه الأبدي. لقد تناول المعلمون والحكماء والكتب المقدسة ولا سيما اوبانشياد سامافيدا كل شيء عن خلق العالم... ولكن أين هم البراهمة والكهنة والحكماء الذين أفلحوا لا في الحصول على هذه المعرفة العميقة, بل في تجربتها والتعرف عليها في الذات. قال سدهارتا لصديقه جوفيندا: جوفيندا لنذهب الى شجرة البنيانا نمارس التأمل ونسعى خارج الرتابة.. إن أوم هو القوس.. والسهم هو الروح, وبراهما هو الهدف. وظلا على هذه الحال تحت شجرة التين الهندي, حتى عبرت بهم ذات يوم جماعة من نساك السامانا.. وكانوا يتجولون لتعذيب الجسد والتحرر من دنسه وخطاياه, فيكون لهم الخلاص ولا تعود أرواحهم تنبعث في أجساد أخرى, فلا يتخلصون من العذاب أبداً. وعندما انضم السدهارتا للسامانا وتبعه صديقه جوفيندا.. لم يكن لسدهارتا غير هدف واحد, هو أن يصبح خالياً من أهواء الجسد, فلا يعود ذاتاً بل مجرد فكر خالص قريباً من السر الأعظم.‏ عندما استمع سدهارتا وجوفيندا الى الرجل المستنير بوذا, أعلن جوفيندا رغبته في الانضمام الى جماعته, أما سدهارتا, فكان له رأي آخر: أيها المعلم المستنير سواء أكانت الحياة في ذاتها ألماً أم لذة... فليس ذلك مهماً, ولكن وحدة العالم وتلاحم الأحداث جميعاً, واشتمال كل كبيرة وصغيرة في تيار واحد, في قانون واحد للعلية, للصيرورة والعدم.. هذا كله يسطع واضحاً في تعاليمك السامية أيها الكامل, لكن ثمة سؤالاً غائباً وجواباً مستتراً. وكان رد بوذا إنك ذكي وعميق يا ابن البرهمي, ولكن دعني أحذرك أنت المتعطش الى المعرفة من لعبة الأفكار. فالآراء لا تعني شيئاً, قد تكون جميلة أو قبيحة, ذكية أو حمقاء.. أما التعاليم التي استمعت إليها يا هارتا, فليس هدفها تفسير العالم, بل الخلاص من الألم. قال سدهارتا: أيها المعلم.. إن أحداً لن يجد الخلاص عن طريق التعاليم, وليس بوسعك أن تنقل الى أحد بواسطة التعاليم, ما حدث لك ساعة الاستنارة بعد رحلة طويلة مريرة من الفكر والتأمل والمعرفة والعذاب.‏ واصل سدهارتا طريقه, فيما اختار صديقه جوفيندا الالتحاق بجماعة الرجل المستنير, وكلمات سدهارتا ترن في أذنيه لن يصل أحد من السامانا الى النرفانا, وليس هناك عدو لمعرفة الذات أسوأ من رجل المعرفة يا جوفيندا. كان سدهارتا يفكر تفكيراً عميقاً وهو يمضي في سبيله: إن ما أعرفه عن نفسي, عن سدهارتا, أقل مما أعرفه عن أي شيء آخر في العالم, وليس بوسعي أن أتعرف على نفسي إلا من خلال نفسي. وتلفت حوله, كأنما يرى العالم لأول مرة.. كانت الدنيا جميلة غريبة غامضة الزرقة والصفرة والخضرة. وهنا السماء والنهر والغابات والجبال.. وفي وسط هذا كله, كان سدهارتا في طريقه الى نفسه لم يعد زاهداً, أو كاهناً, أو برهمياً.. هو الآن سدهارتا, المستيقظ فحسب. أخذ سدهارتا الشمس والغابة والجبال والشاطئ النخيلي والأشياء, كما لو أنه يراها لأول مرة. كان العالم جميلاً وبسيطاً غاية البساطة, بل طفولياً, مباشراً, ومن دون أدنى ارتياب. ولعله كان يعلم منذ أمد طويل أن ذاته هي اتمان وأنها من نفس الطبيعة الأبدية لبراهما.. ولكنه لم يجد ذاته في الحقيقة أبداً لأنه رآها في الأفكار المجردة.‏
في الطريق الى الضفة الأخرى من النهر, وعند حافة أحد الغدران, ركعت امرأة شابة تغسل الثياب. حياها سدهارتا وطلب منها البركة, كما هي عادة المسافرين. كانت المرأة تريد أكثر من ذلك, وتتصرف كما لوأنها ستصبح صديقة حميمة لهذا البرهمي. أحس سدهارتا بدمائه تشتعل.. انحنى قليلاً صوب المرأة, ولكن لأنه لم يلامس امرأة قط, فقد تردد برهة وتراجع الى الوراء كأي برهمي.. ثم اقترب منها وعاشرها..‏ وكما تتسرب الرطوبة متباطئة الى جذع الشجرة حتى تفسدها تماماً.. كذلك تسللت الدنيا الى روح سدهارتا. أفسدته الرذائل, التي طالما احتقرها وازدراها.. ولم يعد الصوت الداخلي المشرق, صوت أوم يرن في مسامعه.‏
وذات ليلة, عرضت له رؤيا مفزعة.. كانت امرأة تحتفظ بطائر صغير مغرد نادر الوجود في قفص من ذهب, وعندما أقبل هارتا نحو القفص. كان الطائر ميتاً. وهنا أدرك سدهارتا أن اللعبة قد انتهت, فسرت رعدة في بدنه, وأحس كأن شيئاً داخله قد مات. هرب سدهارتا الى الغابة مثقلاً بالجزع والغثيان, وظل كذلك عدة أيام, حتى استيقظت روحه الغافية وأدرك فعلته مع المرأة وراح في نوم عميق على ضفة النهر أسفل شجرة جوز الهند, وهو يتمتم باسم الحقيقة المقدسة أوم وعندما استيقظ ثانية, كان قد وُلد من جديد.. لقد تعرف على نفسه وأصبح الرجل الذي اكتشف الطريق و تعلم من النهر كيف ينصت بقلب ساكن وروح مترقبة.