عبد الرحمن النقيب في رسائل الخاتون

عبد الرحمن النقيب في رسائل الخاتون

د. عبد الله حميد العتابي
باحث اكاديمي
من هي المس بيل؟
يروي الدكتور جعفر عباس حميدي استاذ تاريخ العراق المعاصر في كلية التربية (ابن رشد) جامعة بغداد حياة المس بيل بالقول: "ولدت غير ترود مرغريت لوثيان بيل سنة 1868 في مقاطعة يوركشاير ببريطانيا وهي ابنة احد رجال الصناعة المعروفين في بريطانيا تلقت ثقافتها في جامعة اكسفورد وبعد ان نالت شهادة التفوق في التاريخ سنة 1887

أستهوتها اللغة العربية فتعلمت شيئا من قواعدها فضلا عن مهارتها في اللغتين الفرنسية والالمانية. بدأت بيل نشاطها في عام 1892 حينما رحلت الى طهران ومكثت فيها عدة سنوات، وفي سنة 1899 تجولت على صهوة جوادها او على ظهور الابل في حواضر الاقاليم العربية، وبواديها، وقد شوهدت في حيفا بفلسطين عام 1900 وهي تتلقى دروسها العربية على يد شيخين من شيوخ تلك المدينة ثم تجولت بعد ذلك في انحاء سوريا، وفي سنة 1907 اصدرت كتابها (سوريا: البادية والمعمورة)، تجولت في المدة بين 1909 – 1914 بين العراق وسوريا وتركيا وزارت المناطق الاثرية وقامت بجمع المعلومات عن العشائر العراقية وحامت حولها الشبهات فوضعتها السلطات العثمانية تحت الرقابة، واصدرت أمراً بالقبض عليها لكنها افلحت في الرحيل الى حائل في شمال نجد ومنه عادت الى العراق.
اصبحت المس بيل في خريف 1915 موظفة في ادارة لمخابرات البريطانية في مصر (المكتب العربي) بصفة مترجمة خبيرة، وتوثقت علاقاتها برجال المخابرات البريطانية ومنهم لورنس والدكتور ديفيد هوكارت، وفي سنة 1916 جاءت الى العراق والتحقت بقوات الاحتلال البريطاني وعينت في المكتب العربي فرع البصرة في حزيران ومن تلك السنة توثقت علاقتها بالمقدم برسي كوكس رئيس الحكام السياسيين كما تعرفت على جون فيلبي، وحينما احتل البريطانيون بغداد في (11 آذار 1917) انتقلت بيل اليها وسكنت بيتا في محلة السنك وسرعان ما اشتهرت في بغداد بلقب (الخاتون). وللمس بيل في بغداد حياة عريضة على الصعيدين السياسي والاجتماعي شاءت ان تسجلها بنزاهة احيانا وبلا نزاهة في اغلب الاحيان في الرسائل التي كانت تبعث لابيها السير هيو بيل وزوجة ابيها فلورنس بيل، وقد توفيت الخاتون صباح يوم الاحد (12 تموز سنة 1926) في بغداد عن ثمان وخمسين سنة وشيعت الى المقبرة المعروفة في ساحة الطيران في الباب الشرقي حيث دفنت هناك. نشرت رسائل المس بيل التي سجلت شؤونها الخاصة وعلاقاتها الاجتماعية ونشاطها السياسي ودورها في خدمة بلدها بريطانيا من جانب زوجة ابيها عام 1927 في مجلدين بعنوان رسائل المس بيل سنة 1914-1926، ثم نشرت ايضا مختارات من هذه لرسائل سنة 1952 بعنوان رسائل مختارة للمس بيل، وقامت بعدئذ اليزابيث بوركوين بطبع رسائل بيل الشخصية فظهرت في لندن عام 1961 في مجلدين بعنوان غيروترود بيل : من رسائلها الشخصية ومنها استمد المرحوم جعفر الخياط الترجمة العربية لكتاب (المس غيرترود بيل: فصول من كتاب تاريخ العراق القريب) والذي اعتمدنا عليه وصف المس بيل لعبد الرحمن
النقيب.
جاءت المس بيل للعراق في عام 1909 للمرة الاولى كسائحة، والتقت وقتذاك بعبد الرحمن النقيب نقيب اشراف بغداد لاول مرة ، وفي 6 شباط 1919 زارت الخاتون النقيب لوداعه بمناسبة سفرها الى انكلترا وفي هذه الزيارة تصف المس بيل النقيب بالقول: "النقيب رجل متقدم في السن احنت ظهره السنون، وقد اقعده مرض الروماتيزم بعض الشيء، ويتألف لباسه من جبة طويلة تصل بطولها الى قدميه ذات ردنين طويلين، تصنع من الكتاب الابيض محزومة في الوسط بطيات نطاق ابيض عريض. وهو يعتم بعمامة بيضاء ملفوفة حول طربوش احمر". اما وصفها
لبيته: "كان النقيب منذ وقت الاحتلال يسكن في داره المقابلة لتكية عبد القادر التي يرأسها هو، حيث ان الدار التي كان يشغلها في العادة على النهر بالقرب من (المقيمية) كانت قد اخذت منه لسكن الضباط بموافقته.وبيته مرتب ترتيبا بسيطا باعتناء. وتقع الغرفة التي يستقبل فيها زواره في الطابق الاول، ولها شبابيك تطل على حديقة صغيرة زرعت فيها اشجار البرتقال. وقد صفت حول جدران الفرقة ارائك صلبة مستقيمة مغطاة بالخام الابيض".
رأي النقيب بالانكليز:
كان النقيب معجبا بالانكليز لانه يعتقد "انهم معروفون في العالم اجمع بالعدل والانصاف". ويبدو انه كان يكن بغضا شديداً للفرنسيين لان "المسلمين في الجزائر قد كابدوا الارهاق تحت حكمهم فيها". وكان يؤمن "بان البريطانيين اذا وضعوا قدمهم في مكان لا يرفعونه عنه، وهم اذا تمسكوا بشيء احتفظوا به الى الابد".
ويبرر النقيب احتلال بريطانيا للعراق بالقول: "ان الانكليز فتحوا هذه البلاد وبذلوا ثروتهم من اجلها كما اراقوا دماءهم في تربتها، حيث ان دماء الانكليز والاستراليين والكنديين ومسلمي الهند وعبدة الاصنام قد خضبت تراب العراق ولذلك فلا بد لهم من التمتع بما فازوا به. ويضيف قائلا، انني اعترف بانتصاركم، وانتم الحكام وانا المحكوم وحينما اسأل عن رأيي في استمرار الحكم البريطاني اجيب بانني من رعايا المنتصر"، ثم يسوغ النقيب تبدل دلائه من الاتراك الى الانكليز بالقول: انني لا اتردد في القول انني كنت احب الحكومة التركية عندما كانت بالوضع الذي عرفتها فيه. واذا كان بوسعي ان اعود للخضوع الى حكم سلاطين الاتراك كما كانوا في الزمان الغابر فانني لا اختار غيرهم، لكنني اعاف واكره الحكومة التركية الحالية والعنها، (كان النقيب يشير الى الاتحاديين) وقد مات الاتراك وتلاشوا، وانا راضي بان اكون من رعاياكم".
ولا يخفي النقيب انبهاره ببرسي كوكس، إذ يقول للمس بيل: "خاتون، هناك الف ومائة رجل بوسعهم ان يشغلوا منصب السفارة في ايران (كان كوكس سفيرا لبريطانيا في طهران)، لكنه ليس هناك من يليق للعراق سوى السير بيرسي كوكس، فهو معروف ومحبوب وموضع ثقة اهالي العراق، كما انه رجل حنكته السنون" واضاف قائلا: "انه رجل ذو اعتبار كبير في لندن، وسيكون محامينا المتكلم باسمنا، فاذا ارادت الحكومة هناك (الحكومة البريطانية).
ان تعرف افكارنا سيكون بوسعه تزويدنا بالمعلومات الضرورية وستكون كلمته مقبولة، واني اشهد الله ان السير برسي كوكس لو كان موجودا في بغداد لكنا في غنى عن حماقة استفتاء الناس عن رأيهم في مستقبل البلاد، حيث ان ذلك كان سببا للاضطراب والقلاقل". واردف قائلا، انت ذاهبة الى لندن، وسوف تواجهين العظماء وتتحدثين اليهم، فقولي لهم هذا: ليعد السير بيرسي كوكس الى العراق، ولينته الحكم العسكري حيث ان دوامة غلط فاحش".
اما عن رأيه بالجنرال مود فيقول النقيب: "اننا مدينون له بعرفان الجميل، وقد كان محبوبا في بغداد". وعبر عن انطباعه عن السر ويليام مارشال "ان نبله ظاهر على وجهه".
وبرر النقيب اهتمامه بعودة كوكس بالقول: "القوة يجب ان تكون في ايام السلم في ايدي رجال الدولة وليس في ايدي العسكريين، وعليكم ان تحتفظوا بجيش لي هذه البلاد للمحافظة على الامن، لكن الجيش يجب ان يبتعد عن الحكم".
اما عن رأيه ببنود الرئيس ودرو ويلس رئيس الولايات المتحدة الامريكية ، الاربعة عشر والتي اعلنا في مؤتمر الصلح في باريس عام 1919 فقد علق النقيب، عن ذلك بالقول: ما معنى كل هذا وما قيمته؟ انني اعزو ذلك الى اميركا وكأني اسمع صوت (الرئيس) ويلسن منه، هل يعرف ويلسن الشرق وشعوبه؟ وهل يعرف هو طرق حياتنا واوصول تفكيرنا؟ انتم الانكليز حكمتم في آسيا ثلاثمائة سنة، وحكمكم هو مثال تقتدي به جميع الشعوب . فسيروا في طريقكم، ولا تخضعوا لارشاد ويلسن، فالمعرفة والخبرة هما دليلكم".
وحين استطلعت المس بيل رأي النقيب بترشيح الشريف حسين او احد انجاله لمنصب الامارة في العراق. اجابها عبد الرحمن النقيب بالقول: "انني من اقارب الشريف، وانحدر من السلالة نفسها واشاركه في مذهبه الديني ولذلك فانني ارجو ان تفهموا اني لست مدفوعا بدافع الاختلاف في الدم والعقيدة عندما اقول لكم اني سوف لا اوافق ولن اوافق على تعيين الشريف او احد انجاله اميراً في العراق، فان الحجاز غير العراق، وليس هناك علاقة بينهما غير علاقة العقيدة، فسياستنا وتجارتنا وزراعتنا كلها تختلف عن سياسة وتجارة وزراعة الحجاز.. ان الحجاز هي بلاد الاسلام المقدسة ويجب ان تبقى دولة مستقلة لوحدها يستفيد منها المسلمون كلهم، وهي اشبه بالقدس التي تعد بلدا في غاية القدسية بالنسبة للمسلمين والمسيحيين ايضا.. اما عن حكومة العراق فان كرهي للادارة التركية الحاضرة معروف لديك، لكنني افضل الف مرة عودة الترك الى بغداد على ان ارى الشريف او ابناءه ينصب احدهم هنا".
وعن امكانيه ترشيحه على رأس الدولة العراقية، اجاب: "ان صيرورتي رئيسا سياسياً للدولة هي ضد اشد مباديء عقيدتي تأصلاً، ففي ايام جدي عبد القادر اعتاد الخلفاء العباسيون استشارته كما تطلبين انت وزملاؤك مشورتي الان، لكنه لم يكن يوافق على الاشتراك في الشؤون العامة. وسوف لا اوافق انا ولا اي احد من احفادي ان نفعل ذلك، هذا جوابي من الوجهة الدينية، لكنني ساعطيك جوابا يستند على اسباب شخصية، فانني متقدم في السن، وارغب ان اقضي الخمس او الست سنوات التي بقيت من حياتي في الدرس والتأمل حيث انهما مشغوليتي المستديمة.. وسوف لا اتراجع عما قلته الان حتى اذا كان في ذلك انقاذ العراق من الدمار التام".