في ادب الرحلات  ليوسف غنيمة

في ادب الرحلات ليوسف غنيمة

قحطان جاسم جواد
كتاب (رحلة الى ايران) ليوسف رزق الله غنيمة عام 1921الصادر في عشرينات القرن المنصرم، قام بتحقيقه ودراسته كل من أ. د طارق نافع الحمداني و م. د بيداء علاوي شمخي. ويقع الكتاب في 83 صفحة من القطع الصغير. وصادر عن دار ميزوبوتاميا للطباعة والنشر والتوزيع.

وقد مثل ادب الرحلات مكانة بارزة في التاريخ الانساني على مر العصور، سواء اكان ذلك في العصور القديمة ام الاسلامية ام الاوربية الحديثة، واستمرت تلك المكانة واضحة حتى القرن العشرين.
فأدب الرحلات يعكس صورة لما يراها الرحالة قد لانجدها فيمن يكتب عن هذا الجانب او ذاك من الكتاب والمؤلفين، وتقع رحلة يوسف رزق الله غنيمة الى ايران ضمن هذا النوع من الرحلات.
تكمن قيمة (رحلتي الى ايران) ليوسف غنيمة ان صاحبها تمكن من الاطلاع على امور عديدة في ايران في وقت كانت فيه الاوضاع ماتزال مضطربة في هذا البلد, بسبب ماتركته الحرب العالمية الاولى من اثار عليه، تعكس هذه الرحلة ايضا الوضع الذي كانت عليه المدن والقصبات العراقية في العقود الاولى من القرن العشرين، وفيها دعوة الى التجديد والاصلاح في البلاد (العراق) بخاصة بغداد لازدياد سعة المدينة وسكانها. ولم يكتف غنيمة بما وقع عليه بصره من مدن واثار، ومعلومات تاريخية اخرى، وانما كان يبدي رأيا في تلك الامور كقوله (اما انا فأرجح).
وغنيمة من مواليد بغداد عام 1885 من اسرة مسيحية كلدانية. وقد اظهر منذ نعومة اظفاره ذكاءً متميزا وميلا شديدا الى الدراسة، فاصبح من الفئة المثقفة العراقية الواعية في مطلع القرن العشرين. واكمل دراسته في بغداد، وقد نشأ وفي قلبه نزوع الى تعاطي الاعمال التجارية، فأسس له محلاً تجاريا في منطقة المنصورعام 1906لكن عمله التجاري لم يمنعه من حب المطالعة والدرس والتنقيب وكتابة الابحاث التاريخية والاقتصادية، حتى بلغ منزلة بارزة بين المشتغلين بهذه المواضيع في العراق ان لم نقل انه جاء في طليعتهم وقبل التجارة عمل في السياسة. وتجارته تجاوزت العراق الى دول اوربا وامريكا.
في عام 1921 سافر الى ايران للاشراف على اعماله التجارية ومصلحة النقل التي اسسها هناك. الا ان مشروعه خسر مبالغ لايستهان بها. وقد نشرت مجلة المقتطف الرحلة التي قام بها يوسف الى ايران من دون ان تنشر الرسائل التي كان يوسف يرسلها الى عائلته.
ورحلة غنيمة الى ايران تتمتع بأهمية كبيرة ليس لان صاحبها قد اعتلى مناصب سياسية عليا، ومكانة ادبية وثقافية بارزة، بل لانها تنتمي لادب الرحلات، الذي لم يطرق ابوابه في العصر الحديث إلا قلة قليلة من الرحالة العرب. مثلما فعل محسن ابو طبيخ ومحمد رضا الشبيبي.
ولعل ابرز مايلفت الانتباه في منهجية الرحلة ان صاحبها كان يعرف بالاسماء والاصطلاحات الواردة فيها. فعلى سبيل المثال عرف كلمة (الناظمية) التي تعني في اصطلاح الحكومة الايرانية بـ (الشحنة) وذلك عند تعرفه على رئيس ناظمية كرمنشاه.
كما ترجم الرحالة في كثير من المواضيع للمدن والقصبات العراقية الايرانية، معتمدا في ذلك على كتب البلدانيين العرب المسلمين مثل ابن رسته، وياقوت الحموي، والمستولي القزويني، واخرى حديثة ككتاب ليسترنج، وهذا عمله مع بعقوبة واعمالها، والمدن والقصبات الايرانية التي مر بها، واشار لها في المتن.
وقد كتب غنيمة رحلاته بلغة عربية سليمة، ومستوى ادبي رفيع، وكتب لاهله ثماني رسائل. يقول غنيمة في رحلته انه عندما وصلنا طريق كرمنشاه تعطلت احدى السيارات وكانت اجواء الثلوج تتساقط ثم عبرنا الى منطقة قراتو التي لها منزلة في التاريخ القديم. وقد اقام فيها الحصار كل من اشور بانيبال وسنحاريب عندما فتحوا بلاد عيلام. وقد كانت هذه المنطقة غنية بالاثار القديمة والعاديات ولو نقب الباحثون هناك لعثروا على دفائن تفيد العلم. ثم بلغنا سفح باي طاق الذي يشكل حلقة الوصل بين بابل واكبتانا اي همدان وبين سلوقية وطيسفون والمنطقة لم يكن فيها نباتات حتى في الاودية بل كانت كثبا حزينة. لكن عندما وصلنا قمة طاق كره التي تعلو 3820 قدماً وكان فيها منظر جبال واودية رائعة وهضاب مسجاة بكفن الثلج. ووصلنا الى قرية سرخديزه وهي مكان بارد جدا واعلى برودة من قرتو. وبتنا فيها بمقهى مبنية بالصخر والطين وسقفها بالبلوط وعانينا من البرد كثيرا. وحين وصلنا كرند سرنا وجدنا منظرها البديع وموقعها الانيق.. وقبل وصولها شاهدنا طيورا عظيمة كالعقاب والنسر والحجل والحمام والدب والذئب وهي منطقة لم يذكرها الرحالة سوى المستوفي. وتقوم ابنيتها في منحدر جبل زاكرس وتتابع على شكل مدرج طبقات طبقات، والشاخص اليها من لحف الجبل يراها ذاهبة في الفضاء الاوسع وكأنها تناطح السماكين. وتجري المياه في الطرق وتتسرب الى البيوت تنبت اشجار الفواكه. وقد كانت الحكومة البريطانية المحتلة اتخذتها مصيفا لجيشها ونساء العساكر واقامت فيها الاسواق والاحياء. وعلى عكس سرخد يزه كانت ليلتنا منورة بالكهرباء. ويبلغ عدد سكان كرند بحدود 3500 نسمة. ويدينون بالعلي الالهية وربما متأتية من الوهية لعلي بن ابي طالب ولا يتخذون القرآن اساسا لدينهم ولا يصومون شهر رمضان ولايصلون فروض الله ويستحلون اكل لحم الخنزير وليس لها معبد ولا جامع ويصومون ثلاثة ايام في السنة ويصلون صلوات معروفة عندهم ويتصدقون بصدقات ولهم كتاب ديني وقد عالجت الحصول على نسخة منه فلم اظفر بمنشودتي. في هذه المنطقة هناك اربعون بيتا من اليهود الوطنيين يتكلمون اللغة الارامية العامية، ولهم كنيسان وفيها ادارة بريد وتلغراف ورئيس مبذرقة.
ثم وصلنا مدينة قرمسين التي يديرها البرنس امير محتشم الذي ضيفتنا واذكر جلسنا على الارض لنأكل كما هي القواعد الشرقية.. والتسمية تطورت فيما بعد لتصبح كرمنشاه بناها كسرى ابرويز في القرن السابع وفتحها العرب بقيادة جريد بن عبد الله. وجرت على اسوارها حروب كثيرة. يقدر سكانها بستين الف نسمة غالبيتهم من الشيعة وكذلك هناك السنة واليهود والمسيحيون والبهائيون. واليها تعينه حكومة طهران ويسمونه (حكومت) ولاتوجد فيها سوى مدرستين ما يعني ان العلم كاسد فيها. ولديها مطبعة واحدة تصدر عنها جريدة فارسية تصدر لمرتين في الاسبوع، لكنها تتمتع بموقع تجاري خطير. ولرجال الدين الكلمة الراجحة في الاحكام والسياسة والقضاء والمجتمع.
ومن عجائب قرمسين هي احدى عجائب الدنيا صورة شيديز في قرية خاتان وكذلك صورة شيرين جارية ابرويز وصوره راكبا فرسا لبيقا. وفيها الاثر التاريخي طاق بستان وفيه ثلاثة مشاهد تاريخية نقرت على الصخر الاصم وصورت بالحجر الابكم. المشهد الاول يمثل ملكين يتعاهدان وتحت ارجلهما عدو صريع على الارض ووراءهما رجل اخر. ويعتقد انه يمثل الملك اردشير يقلد ابنه شابور سلطة الملك ووراءهما زرادشت وعلى راسه الشمس.
والثاني يمثل طاق منحوت في الجبل فيه صورتان لشابور الثاني وشابور الثالث. وفي الثالث الذي يعد من امهات الاثار الخالدات وهو الطاق المحفور في الجبل وعلوه ثلاثون قدما وعمقه 22 قدما وفيه نقوش ورد يعلوها ملاك مجنح من كل جانب. واحدى يدي كل من الملاكين مبسوطة نحو الاخر في ملتقى اجتماع الطاق وبها اكليل وفي وسط القمة صورة الشمس. وفي هذه النقوش تبرز مسحة الصناعة اليونانية.
وقد كنت امني نفسي بذوبان الثلوج حتى اواصل رحلتي في ايران لكن لا الثلوج ذابت ولا غيوم الساسة تبددت فقررت العودة الى بغداد. التي اجدها انها تحاكي في ايام عزها اكبر عواصم اوربا اليوم! كان فيها 24 الف شارع وفي كل شارع مسجد وحمام وفيها دور قوراء وقصور زهراء تعد من طرف الزمان. كان فيها مئة وخمسة وخمسون جسرا وبلغ سكانها مليونا وربع المليون نسمة وفيها القصر الهاروني والجوسقي والجعفري ودار الشجرة التي بناها المقتدر بالله. واشتهرت مكتبتها في زمن المأمون وبلغ عدد كتبها اكثر من مليون كتاب وذاع صيت مراصدها مثل مرصد المأمون ومرصد بني شاكر. ومستشفياتها بالعشرات. وهناك تقدم في الزراعة ايضا.
وينتهي الكتاب بالملاحق التي نشرت رسائل غنيمة الى ذويه وعددها ثماني رسائل يصف فيها ماتعرض له في رحلته الى ايران وكذلك بعض مشاهداته الجميلة.