بروست والرواية الحديثة

بروست والرواية الحديثة

حواس محمود
«إن مؤلفات بروست هي نتاج عملية مونتاج ضخمة لعناصر متفرقة مقتبسة من واقع الحياة في المجتمعات الراقية، عناصر أعيد جمعها، وتوليفها لكي تبرز بوضوح قوانين عامة حول خط سير هذا الواقع ولغته وأهوائه» إليان ديزون جونز. ولد مارسيل بروست بضاحية «أوتيل» بباريس في 10 تموز 1871م،

وهو نجل أستاذ بكلية الطب يدعى «أوريان بروست"من زوجته «جان نيل"أصيب بروست في العاشرة من عمره بمرض الربو لدى عودته من نزهة قام بها في غابة «بولونيا». وشغف بسماع الموسيقى، ومن أبرز الموسيقيين الذين أعجب بهم «موزارت»، «جونو"وشغف أيضا بقراءة «باربي"و«رينان"و«كونت دوليل"و«لوتي»، وتعرف على «ماري دوبينا داكي» التي استلهم منها شخصية «جيلبرت سوان».
أصدر مارسيل بروست عام 1888 مع زملائه طلبة مدرسة كوندوروسيه الثانوية «المجلة الخضراء"ثم «المجلة الليلكية"وفي عام 1889 حصل على شهادة إتمام الدراسة الثانوية ـ القسم الأدبي ـ ثم التحق بالجيش لتأدية الخدمة العسكرية لمدة عام، وبعد إنتهائه منها في عام 1890م التحق بكلية الحقوق بجامعة باريس، وبالمدرسة الحرة للعلوم السياسية، وفي تلك الفترة التقى مع «موباسان"في صالون «مدام ستراوس» وفي العام 1893م حصل على ليسانس الحقوق، وفي عام 1895 نجح في الحصول على ليسانس الآداب ـ قسم الفلسفة.
ـ في عام 1912م أتم كتابة ما يقرب من 1200 صفحة من كتاب «البحث عن الزمن المفقود» وأعد ايضا «جانب جرمانتس"وقدمه للناشر «جراسيه»، كما دافع عن نفسه ضد النقد الموجه إليه بسبب رواية: «حبيب سوان».
ـ عام 1917م وضع مارسيل بروست اللمسات الأخيرة على مخطوطة «سودوم» وعلى مخطوطة «الزمن المستعاد"وقام بتصحيح البروفات الأخيرة للطبعة الجديدة من كتاب: «في ظل الفتيات النضرات"وفي عام 1918م التقى لأول مرة بالكاتب «فرانسوا مورياك"وفاز بجائزة «جونكور"عن كتابه «في ظل الفتيات النضرات"بأغلبية ستة أصوات مقابل أربعة أصوات معارضة، وقد أثار ذلك حملة صاخبة من النقد رد عليها بروست في «الزمن المستعاد». وفي عام 1921م انتهى من طباعة «جانب دوجر مانتس"الثاني و«سودوم وجوبور» الأولى. توفي مارسيل بروست في الثامن من أكتوبر ودفن في الثاني والعشرين منه سنة 1921. وتجدر الإشارة إلى أن مخطوطات مارسيل بروست تضم ما يقرب من ثمانية آلاف صفحة من صفحات الكراسات والمفكرات وقصاصات الورق، هذا فيما عدا العديد من الأوراق المطبوعة، والمسودات والنسخ التي قام المؤلف بتصحيحها، ولقد حصلت المكتبة الوطنية الفرنسية على هذه المخطوطات، وقامت بتجديدها، وفهرستها وتصويرها على المايكروفيلم بحيث أصبح بالإمكان الاطلاع عليها، والقيام برحلة عبر الزمن خلال الخمسة عشر عاماً التي استغرقتها كتابة هذه الأعمال، وكان بروست يستخدم أوراقاً منفصلة أثناء كتابة «خد سانت بيف"وفي وقت لاحق لم يعد يستخدم سوى الدفاتر وهو أسلوب لجأ إليه في غضون ذلك عندما كان يترجم مؤلفات «جون رسكين"وكانت عبارة عن دفاتر مدرسية يتكون كل منها من عدد من الصفحات يتراوح ما بين ستين ومائة صفحة، تحتوي كل منها على هامش أحمر اللون، ولقد غطى بروست صفحات هذه الدفاتر بكتاباته الدقيقة التي تشبه أقدام الذبابة مستخدماً الحبر الأسود، وعادة ما كان يبدأ بالكتابة على الصفحات اليمنى، وأحياناً لم يكن يستخدم سوى النصف الأيمن من هذه الصفحات حتى يمكنه ـ في وقت لاحق ـ كتابة إضافات على النصف الذي تركه فارغاً، ترى هل يتبلور الشكل النهائي بعد عدة محاولات لتحرير النص؟ نعم إذ لا يلبث بروست أن يعيد تحرير النص وتتكاثر الإضافات حول النسخة الأولى ويدرج المؤلف إضافات بين السطور التي شطبها للتو، ثم في الهامش حتى لا يبقى هناك فراغ كبير يمكن استخدامه، وفي النهاية يلجأ إلى الكتابة على ظهر الصفحات التي تحولت إلى سواد في دفاتر المسودات، غير أن المؤلف نادراً ما يكتب إضافات في المخطوطات التي أعيد تبيضها.
وكان مارسيل بروست يتخذ في الأعوام الأخيرة من حياته وضعاً غريباً عند الكتابة يكون فيه شبه مستلق على فراشه، ثم يتوقف عن الكتابة لكي يبحث عن الدفتر الملائم (في وسط كومة الدفاتر الملقاة بالقرب من فراشه) وفي هذا الصدد يروي «لوي جوتين"في كتابه «بروست المعروف المجهول» أنه شعر بالدهشة أمام هذا الأسلوب المتبع في الكتابة والذي كان يبدو له غير مريح بالمرة، إلا أن هذا الأسلوب كان يرضي ـ بطبيعة الحال ـ بروست، وكانت الدفاتر تبدو عملية تماماً، عندما كان بروست يتوجه إلى مدينة كابورج، وكانت ـ الدفاتر ـ مهمة لأسلوب تأليفه إذ أن هذه الدفاتر كانت تعتبر وحدات عمل، فهي نصف مستقلة عن بعضها، وهي تتعلق بموقف ما وبفصل ما، وكان المؤلف يستخدمها في فترة ما، ثم يتركها جانباً مؤقتاً أو نهائياً، أما الدفاتر الأخرى فقد كان يقطع أوراقها ويوزعها على دفتر أو عدة دفاتر تعقبها، وفيما يتعلق بالمخطوطات التي كتبها المؤلف بخط يده والتي تتعلق بكتاب «البحث عن الزمن المفقود» فقد عثر في المكتبة الوطنية على أربع مفكرات و (95) دفتراً وهذه المفكرات ذات الأوراق الطويلة الضيقة هي عبارة عن مذكرات قدمها مارسيل بروست إلى صديقته العزيزة السيدة «ستراوس» وهي تحتوي على عناوين على أجزاء يستشهد بها المؤلف وأجزاء من أكثر من حوار جاءت على ذكر شخصيات متفرقة من الرواية، وأقدم هذه المفكرات كان قد نشر بعنوان «مفكرة عام 1908» وعثر على مفكرة خامسة في مجموعة أدبية خاصة بأحد الأفراد.
إن قراءة متميزة لرواية «البحث عن الزمن المفقود» تضع في اعتبارها ما يمكن أن نطلق عليه اسم «نمط الصالونات"إذ أن كل شيء يدور كما لو كان بروست الشاب قد تردد على الصالونات الباريسية لبداية القرن ليراقب عمليات تكوينها وليدرس بعمق من يخالطها وليحصي كل الأشياء بقصد واحد وهو إعادة بنائها في مؤلفاته القادمة، وبالفعل فإن الراوي قد تغلغل في صالون «فيلا بارينزس"وصالون «دوجرمانتش"قبل أن يتفوق على نفسه في صالون الأميرة «دوجرمانتس"وقبل أن تسقط الأقنعة خلال المشهد الأخير من الزمن المستعاد. يقول بروست عن السعادة «السعادة بالنسبة لي هي أن أعيش بالقرب من كل من أحبهم وأنا متمتع بجمال الطبيعة وبحوزتي كمية من الكتب، وعلى بعد أمتار مني مسرح فرنسي». ويقول عن المرض: «كثيراً ما أصابني المرض ولمدة أيام طويلة اضطررت إلى المكوث في السفينة، ولقد أدركت حينئذ أني يوماً لم أتمتع بمشاهدة العالم مثلما فعلت من داخل السفينة بالرغم من كونها مغلقة ومن كون الأرض مظلمة».
وختاماً: أعتقد أن تجارب كتابية وروائية لكتاب وروائيين عالميين من حجم ووزن وقامة بروست تأخذ أهمية قصوى ليتمكن القارئ من الاطلاع على حيثياتها وظروفها وطقوسها، فكم من فنان عالمي مشهور، وروائي عالمي كبير، و شاعر عالمي معروف وصلوا إلى قمة الهرم الإبداعي في مجال إبداعهم يمارسون طقوساً غريبة ومستعصية على الفهم، ولعل هذا هو سر الإبداع الذي يحتاج لمزيد من السبر والكشف والاختبار.