لشبونة بيسوّا... غرفة متخيلة للشاعر

لشبونة بيسوّا... غرفة متخيلة للشاعر

عماد فؤاد
كنَّا قد بدأنا نناقش رحلتنا الصيفية مبكراً هذا العام، ساعين لقضاء أسبوع في مدينة لم نزرها من قبل، وضعنا أسماء البلدان أمامنا وبدأنا نفاضل. كانت شروطنا كأسرة صغيرة بسيطة وعادية؛ مدينة تمنحنا نكهة الصيف ورائحة البحر أو المحيط، وتواجهنا بحدّة وجرأة مدينة حقيقية، دون أن تنكسر أمام رغبتنا في اكتشاف خباياها كأشباه المدن، اختلفت بيننا الآراء وبدأت أنياب الديكتاتورية تكشف عن نفسها: "اليونان، مقدونيا، مالطا، المغرب.."،

حاولت أن أهدّئ من حمى وطيس الخلاف الذي بدأت شراراته تلمع في العيون، منذرة بما لا تحمد عقباه، فلم يجدي الأمر، "من حقي أيضاً أن أقرر، أريد أن أرى العالم الذي أحب"، صرخ آدم في وجهي رافعاً صوته المعارض فوق أصوات الآخرين: "البرتغال، وتحديداً جزيرة ماديرا، أريد رؤية المكان الذي ولد وتربّى فيه كريستيانو رونالدو"!

شخصياً، تفاجأت، أقصد صدمت، حاولت أن أستوعب السبّب الذي لأجله يحشر الأخ كريستيانو رونالدو أنفه الكريم في تقرير مصير رحلتنا الصيفية السنوية، نظرت لآدم ابن التاسعة من العمر، نظرة معتوه: "مين يا أخويا؟"، وأخوياً لم يتراجع، لم يخفّف من نبرة صوته وحدّته في المعارضة، بل خرجت الكلمات من فمه طليقة وحرّة منتشية وهي ترفّ في الهواء: "ماديرا، أنتم تريدون عطلة صيف على شاطئ هادئ، تكلفتها معقولة وغير بعيدة، وماديرا تتوفّر بها كل هذه الشروط، تناسبنا جميعاً، أنتم تتمتعون بالعطلة وأنا أشاهد الجزيرة حيث ولد رونالدو"، لم أجد في كلامه ما يستحق المعارضة، أفحمني بصراحة، لكن تمسّكاً بالمعاندة حتى آخر نفس، ورغبة منّي في الخروج منتصراً، حاولت تحوير الأمر قليلاً ليرضي غروري كأبٍّ يحرص على فرض سيطرته على المعارضين الصّغار والقلة المندسّة: "موافق، لكن ماديرا، ماذا سنرى فيها؟ لشبونة أفضل، هناك نستطيع أن نرى شيئاً له تاريخ، نزور متاحف، نرى أماكن وأحياء مختلفة، أنا أيضاً أريد أن أرى أماكن عاش بها أناس أحبّهم"، فاستنكر أخونا المعارض: "أهم من رونالدو؟!"، فهجمت عليه هجمة اليائس: "وأهم من اللي جابوا أبوك يا ابن الـ..".
وقمعتُ المعارضة، بعدما أغريت آدم بأننا سنزور استاد بنفيكا، وكانت لشبونة، المدينة التي تعرّفها ويكيبيديا بأنّها: "عاصمة البرتغال منذ العام 1256 وأكبر مدنها، بنيت على سبع تلال، تقع وسط البلاد على ساحل المحيط الأطلسي وتضم العديد من الميادين والكاتدرائيات والمعالم التاريخية والمقاهي"، لم تكن هذه المغريات هي الأسباب الحقيقية التي لأجلها اخترت لشبونة دون غيرها، كان الإغراء الأكبر لي هو أن أزور المدينة التي عاش ومات بها فرناندو بيسوّا، الشاعر الذي شكّلت حياته وكتاباته الكثير من كوابيسي الكتابية الأثيرة، والذي لازمني وجعه وأسئلته وقصائده ولا طمأنينته طويلاً، ذلك الرجل النحيف الهش الذي كان يكتب ويخزّن ما يكتبه في صندوق خشبي، ليموت نكرة في عمر الـ 47، متعفّفاً عن أي بحث عن الشهرة أو الأضواء، ليصبح بعد موته أحد أهمّ القامات الشعرية في العالم، أستعيد كلماته الآن وأنا ذاهب إلى البيت الذي قضى فيه آخر خمسة عشر عاماً من حياته، والذي تحوّل إلى متحف له بحي "روا كويلهو داروشا" بقلب لشبونة: "لو أرادوا كتابة سيرتي بعد موتي فليس ثمّة ما هو أسهل: يوجد يومان – يوم ميلادي ويوم وفاتي – كل ما بينهما من أيام لا يخص أحداً سواي".
بدا لي البيت/ المتحف، لا هو بيت ولا هو متحف، فالمبنى الحديث شكلاً وتصميماً يبدو مختلفاً عما يجاوره من بيوت بنيت على الطراز المعماري السائد نهايات القرن التاسع عشر، فتحت الورقة الصغيرة التي تضم معلومات المبنى لأقرأ أنه افتتح في نوفمبر 1993، بعدما تم إعادة تصميمه من قبل المهندسة الإيطالية دانييلا إيرمانو، حاولت أن أسيطر على تململ آدم وإيليا ونحن نصعد إلى الطابق الثالث لنبدأ جولتنا بالشكل الصحيح بحسب مخطّط المتحف، لم يكن هناك شيء من بيسوّا، كانت القاعة خالية إلا من البورتريهات التي رسمها عديد من الفنانين البرتغاليين والعالميين للرجل، وثمة ثلاث شاشات عرض تعمل باللمس عليها ألعاب للأطفال، تصور إحداها بيسوّا واقفاً يحاول منع حبيبته أوفيليا من السقوط، وعلى الطفل أن يحرك صورة بيسوّا بإصبعه ليتلقف الحبيبة قبل سقوطها، فيما حملت جدران القاعة بعض أشعاره وصوره الفوتوغرافية بالحجم الطبيعي، كتب على أحد الجدران: "سأكون دائماً ذاك الذي ينتظر أمام جدارٍ بلا باب، أن يفتحوا له الباب".
في الطابق الثاني لم يكن هناك أيضاً شيء من بيسوّا، فالرّجل الذي ولد في لشبونة سنة 1888 ومات فيها سنة 1935، لم يخلّف وراءه شيئاً – باستثناء كتبه وقصائده - يعتدّ به كأثر له قيمة كي يشرف بوجوده في متحف، ويبدو أن القائمين على المكان فطنوا إلى ذلك فصنعوا ما يشبه غرفة متخيّلة للرجل؛ خزانة ملابس صغيرة وفراش لشخص واحد ومكتب خشبي جوار صندوقه العجائبي، وكلّها قطع أثاث جديدة ولا تحمل أثراً للزمن، ما جعلني أشعر بمدى زيف المكان، إلا من صندوقين زجاجيين احتلا ركنين من أركان الغرفة، ضمّ أحدها الآلة الكاتبة التي كان يستخدمها بيسوّا لكتابة قصائده، وضم الآخر بعض متعلقاته الشخصية مثل ماكينات حلاقته الحديدية قديمة الطراز، في الطابق الأرضي واجهتني على الفور لوحة كبيرة تحتل الجدار المواجه، كانت اللوحة تصور الجزء العلوي من جسد كريستيانو رونالدو وهو يرتدي تي شيرت البرتغال ذي الرقم 7، فيما غطّت الجزء العلوي من اللوحة أيقونتان من أيقونات الـ Folder الصفراء المستخدمة في أجهزة الكمبيوتر، حملت الأيقونة اليمنى صورة بيسوّا بالأبيض والأسود بحيث بدت وكأنّها رأس جسد رونالدو، فيما حملت الثانية صورة صفحة فارغة لا تحمل سوى مربع صغير أقصى يمين الصفحة، وقبل أن أفيق من المفاجأة، سمعت ضحكة آدم الساخرة تجلجل من خلفي، مدويّة في أرجاء المكان.