سليمان فياض.. يعترف: قصصي بلا ضفاف أيديولوجية

سليمان فياض.. يعترف: قصصي بلا ضفاف أيديولوجية

محمد رفاعي
"سليمان فياض كاتب قصصي،متعدد الوجوه والأنشطة،فهو لغوي من طراز فريد،أعد القواميس فى اللغة والنحو، ومن أوائل الذين مارسوا الكتابة الدرامية في الأذاعة والتليفزيون،واعداد البرامج في الأذاعة،وعمل صحفيا ومشرفا على سلسلة"مختارات فصول"ونائبا لرئيس تحرير مجلة إبداع أيام المرحوم"عبد القادر القط"والشاعر"أحمد عبد المعطي حجازي"،عمل مدرسا فى الصعيد والدلتا وتغرب فى الخليج.


سليمان فياض كاتب واقعي الرؤية ولا يشوبها الغموض،كتاباته يختلط فيها البساطة والصدق والسحرية وروح الفكاهة النابعة من الفهم العميق لسكيلوجية الواقع المصري،ولد فى فبراير/ شباط عام 1929 وبدأ الكتابة فى منتصف الخمسينيات،من أهم كتبه الإبداعية: أصوات، والقرين..ولا أحد، الشرنقة، وفاة عامل مطبعة،العيون،زمن الصمت والضباب،وبعدنا الطوفان،عطشان ياصبايا،وأحزان حزيران، الصورة والظل،وكتب سلسلة علماء العرب يخاطب بها الناشئة.

يعكف الآن في إستكمال تطويرمشروعه الثقافي في تطوير القواميس،حيث يعمل في مدخل جديد للغة العربية من خلال المعانى والمصادر، يطلق عليه"اللغة العربية المستعملة الآن".
* تكتب القصة منذ منتصف الخمسينيات من القرن الماضي. ونشرت مجموعتك القصصية الأولى: عطشان يا صبايا عام 1961. واصلت الكتابة حتى أصدرت قسما من سيرتك الروائية:"أيام مجاور"التي نشرتها روايات الهلال عام 2009. وعاصرت عدة أجيال من الكتاب، وعرفت رؤاهم المتباينة. ما هو المنهج الذي اقتنعت به ومارسته في فن القص؟
- فلنستبدل كلمة المنهج هنا بكلمة أخرى. هناك فقط توجهات وأمزجة في إبداعات الفنون والآداب، يتأثر فيها اللاحقون بالسابقين، ويكتشفون أنفسهم مع الممارسة لمواهبهم، فيختطون بالممارسة، وربما دون كثير تعمد، توجهات خاصة جديدة، لا تنفصل كثيرا عن توجه ما من التوجهات الأخرى في الإبداعات القصصية، ولكنها قد تضيف بعض الطرائق الجديدة في الرؤى والتجارب ووسائل القص، لتصبح في مجموعها في النهاية بصمة لكاتب متفرد ذي مزاج خاص. وقد يعصف المبدع بمزاجه الإبداعي مرارا، مع تغير مراحل عمره، وتنوع تجاربه وتغير رؤاه، وتجدد ثقافته القصصية والمعرفية. ذلك يحدث دائما. ولنرجع إلى مسيرة أي كاتب في الإبداع. النقاد المتابعون يعرفون ذلك الأمر حتى أصبح من البدهيات. لكن بصفة عامة قصصي تنضوي تحت الواقعية النقدية ولكن بلا ضفاف أيدولوجبة. فكل تجربة تفرض لغتها ورؤيتها ولغتها ووسائل قصها وبنائها.
* هل تيار الواقعية بروافدها صالحة لأغلب الأزمنة؟
- ليس هناك شيء عندي في الوجود غير الواقع أولا. المشكلة الإنسانبة هي في رؤية الإنسان للوقائع، وفرض تماهيات الرؤى الفكرية والفنية عليها. يقولون: إن كل التيارات النقدية والإبداعية خرجت من عباءة الرومانسية. في رأيي أن ذلك غير صحيح على الإطلاق. كل التيارت الفكرية والفنية بما فيها الرومانسية خرجت من الواقع حتى الأساطير والخرافات، ولكن بتماهيات الرؤى البشرية، في شتى العصور والثقافات. ولا تزال محاذاة وموازاة الأعمال الإبداعية قصا وغير قص محاذية وموازية للواقع السيال والمتتابع بفوضاه البادبة. ما يجري في داخل الفرد والجماعة هو واقع خاص أو عام. وما يجري خارجهما هو واقع آخر. إنها فقط في الفن والأدب تجسدات لمنظورات شتى من التماهيات الإبداعية، يؤثر النقاد ومؤرخو الفنون والآداب تسميتها لمنحها تصنيفها أو لعزلها لتوصيفها في مدارس ومذاهب.
• ما أهم المكونات الثقافية التي شكلت وعي سليمان فياض وجيله؟
- اسمح لي. هذا سؤال أكبر مني. فيستطيع كل كاتب من جيلي أن يجيب عنه في ضوء تجربته هو وحده، برغم اجتماعنا في حقبة أو زمن وجيل. فالمكونات الثقافية لعصر أو حقبة أو جيل تستدعي دراسة شاملة من طراز دراسة"بول آزار"في كتابه الفريد"أزمة الضمير الأوروبي"، وهي دراسة فكرية واجتماعية في آن واحد. عن نفسي مكوناتي الثقافية نبعت من الثقافة التراثية العربية فكر علما وأدبا وفنا وأديان الشرق الأوسط، ومن حصادات الثقافة العربية المؤلفة والمترجمة، والحراكات الاجتماعية والسياسية التي عشتها في سنوات عمري، وصراعات الأيدولوحيات من حولي في مجتمعي، حول الرباعي البشري الرهيب في عهدين متعاقبين: الفقر والجهل والمرض والفساد، وهو رباعي في رأيي غير خاص بنا وحدنا، فهو متجذر أيضا في المجتمعات المتقدمة تكنولولجيا. ولا يزال الجنس البشري يعاني من هوة واسعة بين مدى تحضره هو وتمدنه ومدى تقدمه التكنولوجي الرهيب الذي لا يتورع جنسنا المجنون عن توظيفه لخدمة المعبود الأزلي القديم الجديد: الثروة والسيطرة على الغير فردا كان أو جماعة.
* جل تجربتك الإبداعية في مجال القصة القصيرة، وحتى الرواية تكتبها بروح وتكنيك القصة القصيرة. بم تفسر تراجع القصة القصيرة في العقدين الأخيرين وشيوع ظاهرة الرواية والتي قد لا تكون بمستوى قصة قصيرة واحدة؟.
- التفسير الأمثل قد يستطيع أن يجيبك عنه ناقد ذو نظرة شمولية، ورؤيا متكاملة. لكن حسب اجتهادي وإذا لم يجانبني التوفيق، فالرواية أسهل الطرق للبناء القصصي، الرواية تداخل بين قصص أفراد، وتداخل بين عدد من المواقف. وتداخل في الأحداث، وتداخل في العلاقات. وهي أمور من السهل ولوجها بالتنظبم لها، أو حتى من دون تنظيم، لزمن أو أحداث أو أماكن أو بدون أماكن. الولوج إلى ذلك في الرواية سهل لكل من يملك حكاية تحكى، كما تفعل تمثيليات السينما والإذاعة. القص القصير بالمقابل وحدة متكاملة فرص الكمال والاكتمال فيها ضئيلة. فثمة جودة تنشد أو تسقط القصة القصيرة أشلاء مروعة. الجيل الجديد في أدبنا جيل تليفزبونجي يجري وراء الحكاية. عين منه على التليفزيون وعين على الترجمة، وحسبه أن يفجر المواجع الموروثة أو المعاشة. قليل من هذه الروايات من ينجو من السقوط، ولا تتوقف تجاربها عند حدود المتعة والتسلية، وجماليات اللغة الانفعالية أو الخطابية، والرؤى الجاهزة والمبتورة الاكتمال. بين النوعين: القص القصير والقص المرحرح، تقف محاولات روائية تقف فيما يعرف في عصرنا بالقصص القصيرة الطويلة. تلك هي حدودي في أصوات والشرنقة والقرين والهجانة التي أحسب أنني أجيدها. وأنا مثل أستاذي يحيى حقي وهمينغواي أعشق الاقتصاد في لغة القص وبنية القص نفسها من دون حشو.
* ربما تكون الكاتب الوحيد الذي كتب مجموعة قصصية كاملة عن هزيمة 1967 ما مدى وقع هذه النكسة على أعمالك، وعلى جيلك وإبداعهم؟
- سأجيب فقط عن الجزء الأول من سؤالك، فهو الذي يخصني، الجزء الآخر يخص مبدعين آخرين، ويخص النقد مع جيلنا كله. دمرتني نفسيا هذه النكسة. وأيقنت منذ اللحظة الأولى لحدوثها أننا نحن الذي هزمنا أنفسنا بالإهمال، وعدم التخطيط المسبق فالعدو قد أقام على أبوابنا الشرقية مثلما فعل في العصرين القديم والوسيط، والعدو يرى أننا لم نتعلم من أي حرب له معنا دروس أي حرب، وسيظل كما قال ديان يضربنا بنفس الطريقة. لا يمكن أن يغزى شعب أو يحتل جزء من أرضه إلا بتوافر عوامل هذا الاحتلال داخل الشعب نفسه. حين يخونه بنوه ومسؤولوه ولو بالإهمال وعدم الاستعداد للأخطار، وحين يكون ثمة شعب غير مسلح بأسره في مواجهة شعب مسلح، وإعلام يغني ليل نهار عن الماضي المجيد الذي لم يكن مجيدا قط، وعن: قول ما بدا لك احنا رجالك، وجيش أرسل رجاله إلى القتال من بيوتهم رأسا بالجلاليب، وتظاهرة لا تزيد في أرض خلاء ينقصها لمجرد الدفاع الكثير، زخما بشريا، واستعدادا للطوارئ والدفاع حتى بدون هجوم. الضربة كانت قاصمة ومن صنعنا نحن.
فكرت في لحظة مدمرة أننا شعب غير مقاتل ولا مدافع ولا مهاجم، غايته كما قال"حسين فوزي"في سندبياته أن يزرع ويتوالد. حاورت نفسي تقريبا في مجموعة"أحزان حزيران"وبانفعالات خطابية وغنائية أسقطتها فنيا في رأيي، فلم يحدث تمثل لتجاربها بعد في نفسي. بعد الأحزان عدت إلى البيت والنفس في قصة: العودة إلى البيت بمجموعتي التالية. ثم عدت إلى ما هو أبعد غورا في قصص أخرى لنقد النفس والذات والواقع على الأرض بين أهل لأرض حبن كتبت قصتي: أصوات، نقدا للذات، ورؤية للصراع مع الآخر في الوقت نفسه. وما من قصة كتبتها من بعد تقريبا إلا وكانت وراءها هذه الوجيعة. وجاءت تجربة السلام الهش فيما أرى مع العدو فأخرستني. لا زلنا أمة تلهو. لا زلنا أمة ترابها حلال للطير من كل جنس. لا زلنا مجرد ردود أفعال لأفعال الغير. لا زلنا ظاهرة صوتية. فكيف لا يفجر الناس أنفسهم بأنفسهم في أنفسهم وفي غيرهم، في الأبرياء وفي الغزاة. وهم مجرد أرقام خرساء في تعداد شعب أو أمة كما يحلو لنا أن نزعم. زادهم الكلام، وثروتنا البشرية تبلغ خمسة وستين ضعفا لقوة العدو. وفي أيدينا الطاقة التي تدير تكنولوجيا العصر الحديث. وفي أيديهم معبود العصر الحديث: الدولار.
* ربما تكون من ضمن الكتاب الذين وقعوا أسرى لشهرة العمل الواحد بروايتك: أصوات مثل يحي حقي في روايته: قنديل أم هاشم، وصبري موسى في روايته: فساد الأمكنة. إلى أي حد ينطبق هذا القول.

- إلى حد بعيد. حتى نجيب محفوظ وقع أسيرا بدوره لشهرة العمل الواحد. بثلاثيته: بين القصرين. وسعد مكاوي بروايته: السائرون نياما. وغيرهم وغيرهم. ثمة عمل جيد وصادق ما للكاتب السعيد الحظ يصبح معادلا لوجوده الإبداعي هم نفسه بين القراء والنقاد على السواء، لأنه مس وترا عن الناس، وأزال القشرة عن جرح لا يندمل وصار قرحة. ذلك حق للناس، وشرف للكاتب، ولا ينفي مثل هذا العمل وجود أعمال أخرى جيدة للكاتب، أقل حظا وشهرة بين الناس، وقد تكون أجود فنا.
* لك قصة قصيرة طويلة هي: القرين وهي تجربة فريدة في القص المصري والعربي. هي قصة حوار مع الذات واختلطت فيها عدة تجارب. كيف كان تلقيك لهذه القصة؟ وكيف كتبت؟.
- هي أيضا قصة حوار مع مجتمع وتراث وثقافة شعبية، وتجسيد للصراعات الاجتماعية في نفوس الناس وبين الناس ومع بعضهم البعض. تلقيتها صباح يومي شتوي ربيعي كحام من أحلام اليقظة. كأنها ألقيت في الروع. وتلقيت مقط0وعات تجاربها ومنَحى لغتها، وبنيتها وعناوينها الفرعية، وصوغ هذه العناوين، بالاستفهامات الكيفية، في نفس اللحظة، وأنا بالحمام الصباحي، وأنا أعد فنجان قهوة. نصف ساعة لا تزيد من التلقي، وعيالي لا يزالون نياما لم أوقظهم إلى مدرستهم بعد. وأنا في طريقي إلى كوبري الجامعة لركوب أوتوبيس إلى مدرستي. شعرت بالخيانة لنفسي و"لقريني". فإذا لم أكتب هذه القصة الهلامية الشاردة اليوم، بل الآن، فلن تكتب قط، ولن أجد روحها أو أستردها مرة أخرى. عدت مسرعا إلى منضدة كتابتي الإبداعية بكازينو الجزيرة التي كتبت عليها معظم قصصي بعد قصص: عطشان يا صبايا. ودندنت لتسخين نفسي دندنات من أنفي وابتلعت قرص ريفو، وشربت فنجان قهوة، وانكفأت بقلمي على ورقي مع العاشرة صباحا، ولا أظن أني رفعت رأسي عن الورق، أو ذهبت إلى حمام، أو توقف قلمي عن الخربشة وصرير القلم, حتى الخامسة مساء مع شمس تغرب. عدة ما كتبته من صفحات ذلك النهار من دون توقف خمس وثلاثون صفحة، كتبتها لأول مرة في حياتي دفعة واحدة في نهار واحد. لم أهتم بالأخطاء ولا المراجعة. كان همي أن أفرغ أصوات لغة قصتي الهامسة والزاعقة على الورق كأنها تسحيل صوتي. في اليوم التالي ليلا في بيتي راجعت أخطائي كلها بكل أنواعها المحتملة. بيضت القرين وأرسلتها إلى الآداب لتنشر بالعدد الخاص بالقصة العربية بعد أسبوعين فقط في شهر مارس/ آذار عام 1973. كان أول صوت أسمعه لقارئ مفتون بمغامرة القصة من يوسف إدريس ظهيرة يوم جمعة. الصوت الثاني كان لفاروق عبد القادر متعه الله بالشفاء. قال لي: ما ذا تعرف عن الشر حتى تكتب عنه. ولم أقل له: لا يحسن القول عن الشر إلا من الخير. وقال لي القاص العراقي موسى كريدي وأنا في زيارة من زيارات المربد العراقية عام 1975: إنك تعاني من انفصام الشخصية، ولم أقل له: إن العرب كلهم يعانون من هذا الانفصام أفرادا وجماعات. العناوين الفرعية بالقرين احتذيت فيها عنوانات شتاينبك في قصته الرائعة تورتيلافلات.
* وصفك الناقد فاروق عبد القادر في إحدى مقالاته بأنك حكاء القرية وفقيهها، لأن معظم إنتاجك من ريف الدلتا، منطلق من أنك ابن هذا الريف. في الماضي كان لهذا الريف خصوصيته وسحره. هل للريف الآن ذلك السحر الذي يسحر المبدعين فيكتبون عنه؟.
- ما كتبته من تجارب الريف في قريتي كان من تجارب عشتها في طفولتي وصباي في سنوات الثلاثينيات. كان ريف زراعيا مستقرا مغلق المجتمعات الصغيرة تقريبا، كل يوم فيه هو كسابقه، يكرر نفسه مع المواسم والفصول وشروق الشمس وغروبها. ولم يكن لذلك أي سحر، فقد كان مليئا بالأحلام والأغاني الحزينة والفقر والمرض والجهل وبعض المسرات القليلة، والضحك الذي هو كالبكاء. السحر الريفي الذي كتب عنه الجيل الذي سيقني سحر مفتعل ربما بسبب تألقات الطبيعة في أوقات الليل والنهار. ولأنني واقعي الرؤية فجرت الحقائق وعريت النفوس وأنا أستعيدها بعين مثقف متسيس من داخل قريتي ومن داخل قريتين أخريين عشت بهما هما البداري بصعيد مصر والشعراء بدلتا مصر. قصص القرية كانت مسرحا من مسارحي. قصص المدن الصغرى كانت مسرحا ثانيا. قصص بلدان عربية كانت مسرحا ثالثا. قصص الأزهر كانت مسرحا آخر. وأنا أتنقل بينها لا أكاد أجد مستقرا ولا دار إقامة. بحثي ورؤاي كلها كان مع القضايا الإنسانية والتجارب الواقعية في القرى والمدائن حتى في شطحات القص ومغامراته. أحسب أن رؤاي لريف مضى زمنه، وتغيرت أماكنه اليوم، قلبت الرؤى كلها عند كل القصاصين منذ قصص عطشان ياصباي ووصولا إلى القرين وما بعدها، والجيل الجديد من أبناء الريف الذي تغير عليه أن يكمل المسيرة، فقد أصبح جيلنا كإبداعاتنا ماضيا، ومن حقنا أن نسلم الراية لمن بعدنا. صرنا ماضيا ككل ماض آخر. ذلك هو معنى الزمن، ودورة النمو والتطور والارتقاء ولا يوجد ثمة من خلود لأحد من البشر، وأسماؤنا لا تزيد عن كونها حروفا بدلا من الأرقام.
* لك تجربة عن الحياة الثقافية المصرية منذ الخمسينيات. وهي تجربة فريدة تكشف كواليس الحياة الثقافية والذين شاركوا فيها من الكتاب والصحفيين. حدثنا عن هذه التجربة ومبرر كتابتها.
- أنت تشير إلى تجارب كتابي القصصي: كتاب النميمة، وهو من قصص الشخصيات والبيئة والظواهر الاجتماعية والثقافية في مصرنا المحروسة، وأنا بها متيم مفتون، ومن حقي تعرية كل عام وظاهرة في حياة شعب وأمة وبشفافية ودون تردد. نحن نتحدث في المقاهي والبيوت والأندية المدنية المتواضعة عن الظواهر والأحداث والناس ضاحكين مما يجري أو حزانى. كل الشفاهيات تندثر ونصبح كأنما شعب بلا ذاكرة. أزعم أننا نحن الكتاب ذاكرة الأمة، ونخون أمانتنا وعقل الأمة الجمعي، إذا لم نكتبها، إذا لم نسجنها في لوحة، أو لحن، أو مقطوعة شعرية، أو قصة، أو رواية. نحن نفعل ذلك مع كل شرائح المجتمع، فلماذا نستثني منها شرائح الصفوة، وظواهر الصفوة في السياسة والأدب والفن والإعلام و الآسماء الحياة الشخصية، النم من وجهة النظر الدينية أو الاجتماعي؟ تلك كلها تعلات. فلنغير الأسماء حتى بصفات. أو بأسماء أخرى. فلنجر بعض التعديلات في مجرى ما يجري. الفن لا يحاكم أحدا. الفن يفعل ما هو أبعد. يعري أجسادا تكاد تكون بلا رءوس ولا ملامح. نقول للناس. اكتشفوا. انظروا. احذروا. انظروا إلى إنسانياتكم وحدها. لا تكرروا هذه المشينات. نحن الكناب نشهد على عصر في كل قصصنا، عن الرجل العادي وارجل ذو الياقة المنشاة. لماذا لا نشهد على الرجل الصفوة بخيره وشره؟؟
* سافرت في بداية حياتك وعملت مدرسا في عدد من البلاد العربية، وأغلب جيلك هاجر بعد رحيل عبد الناصر في فترة السبعينيات. ما هي تأثير هذه الغربة في إبداعك. ثم ما مدى تأثيرها على الواقع الثقافي في مصر؟
- نحن كمثقفين هاجرنا بأقلامنا المبدعة في عهد عبد الناصر نفسه حتى صاح طه حسين عام 1959: لقد انتقلت عاصمة الثقافة العربية إلى بيروت. لم تكن أمام المثقفين في مصر سوى الهجرة بأقلامهم. لم يعد ثمة من مكان في مصر لرجل صفوة ولا نخبة من أي جيل مخضرم حي أو حتى من جيل جديد، لم تعد هناك فرصة لمعارض ولا لحرية رأي، ولا حرية تعبير عامة، إلا همسا وعلى المناضد المنعزلة. المطلوب من أي مثقف أو حتى إداري أن يكون أولا من أهل الثقة أي تابعا. المجلة التي أعمل بها وهي مجلة رسمية حكومية تقريبا أغلقت صفحاتها إرضاء لملك دولة عربية، وعلاجا لمجرد خطأ فني سياسي غير مقصود. هددنا نحن العاملين بالمجلة بالاعتقال لو رفعنا قضية لمجرد المطالبة بحقوقنا الصحفية وفقا لقانون العمل الصحفي عام 1953. ظللت عاطلا عن العمل وقد تخرجت من الجامعة يعولني أهلي على مضض. لذلك هاجرت لأعمل مدرسا ببلد عربي بأجر ضئيل لمتعاقد مع أني صرت عضوا بنقابة الصحفيين بتاريخ 25/ 11/ 1958. وأنا في غربتي العربية أممت الصحافة، وقبل هذا التأميم وبعده كانت الرقابة التايعة لمصلحة الاستعلامات، وكان أعضاء مجالس الإدارة المنتدبون من قبل الثورة ورئاسة الثورة، التوجيهات السرية السياسية وغير السياسية بما يكتب وما لا يكتب. حين جاءني التعيين مدرسا بالصعيد قبلته على الفور فرارا من غربة لم أستطع فيها أن أكتب حرفا. غرقت كتابتي هناك واصفرت مع رمال الصحراء أنا ابن الأرض والشجر وحياة الحضر المصرية في القرى والمدن. خلعت عني كل صلة لي بالصحافة، وصرت مع التدريس كاتب"العشرة قاف"ببرامج الإذاعة. ولم أكتب من حياة الصحراء فيما بعد سوى أربع قصص بينها قصة: لا أحد، ومن حياة الجبل سوى قصة: الحنين والجبل. رفضت مرارا كل العروض من يوسف السباعي وسعد الدين وهبة ليستقطب قلمي بوظيفة ثقافية لامعة أختارها ومعي أكثر من عشرين قصاصا من جيلي، آثرنا أعمالا وظيفية أخرى لا صلة لها بالثقافة والإعلام، وآثرنا أعمال القطعة الإذاعية غالبا، وهي من تراحيل العمل الذهني، لجيل ضائع، ضائع حقا. الذين هاجروا من صفوة الستينيات مع سنوات السبعينيات كانوا من أتباع عهد مضى، وللعهد التالي أتباعه من صفوة آخرين في الظل نبذوا من قبل لعهد الماضي، مهاجرو صفوة السبعينيات فرضوا شروطهم للعودة ليكونوا بدورهم من أتباع عهد ثالث أسميه عهد الموظفين والمنتفعين، انضافوا إلى من قبلهم من أتباع العهد الثاني، وعن أتباع هذه العهود ومعارضيها وظواهرها رحت أكتب"نمائمي"منذ منتصف الثمانينات من قرن مضى إلى اليوم.
* أحس القراء أن كتابك: الوجه الآخر للخلافة الإسلامية هو امتداد ما كتبته من نتاج تجربة عملك في الجزيرة العربية،. أليس كذلك؟.
- لا صلة لدراستي عن الخلافة بأعمالي الإبداعية عن الصحراء وأهلها لا في ماض ولا في حاضر. كتابي عن الخلافة ثمرة سياسية وفكرية تكمل عملي الشيخ عبد الرازق والدكتور عشماوي وعلى ثقافتي التراثية. كتاب محتج في وجه الحمقى المطالبين يإعادة عجلة الزمن في نظام الحكم إلى عصر مات وشبع موتا، في عصر يحتاج إلى منظرين جدد كما نظر الفقهاء الأربعة في زمانهم مسايرة للتطورات والمتغيرات ومستجدات الأمور الدنيوية بما فيها نظام الحكم نفسه، وهو جوهر ومنطلق كل عمل سياسي الآن وفي كل زمان.

عن جريدة
المصري اليوم