بيل غيتس وكتاب “رأس المال في القرن الحادي والعشرين”

بيل غيتس وكتاب “رأس المال في القرن الحادي والعشرين”

ترجمة/ احمد الزبيدي
في العام الماضي صدر كتاب (رأس المال في القرن الحادي والعشرين)باللغة الفرنسية للاقتصادي الفرنسي توماس بيكيتيه،وفي آذار الماضي صدرت الترجمة الانجليزية له،وفور صدورها احتل الكتاب قائمة الكتب الاكثـر مبيعا في منافذ البيع،واثار عاصفة من النقاشات الحادة والواسعة،وقد بالغت بعض الصحف في تقييم المؤلف الى الحد الذي اطلقت عليه لقب (ماركس الجديد)


يتناول الكتاب موضوع (انعدام العدالة في توزيع الثـروة في العالم) ويعتقد البعض ان الكتاب سوف يحدث تغييراً في جوهر السياسة الاقتصادية تجاه مسألة توزيع الثـروة.

الكتاب مبني على مجموعة من الابحاث قام بها الاقتصادي الفرنسي بيكيتيه مع مجموعة من الاقتصاديين استغرقت عشر سنوات،وبالاستناد الى بيانات احصائية رسم الكتاب صورة لتطور التفاوت في الدخل منذ الثورة الصناعية حيث تركزت الثروات في ايدي العائلات الغنية،المتربعة على عرش النظام الاجتماعي الطبقي الراكد،ولم يغير هذا النسق في التفاوت الا حدوث هزات عنيفة في الاقتصادات العالمية، من قبيل فترة الكساد العظيم او الحرب العالمية الثانية،لكن تلك الصدمات سرعان ما اختفى اثرها ليعود التفاوت في الثروة من جديد،ويعتقد المؤلف ان الثروة تنمو بشكل اسرع من نمو الناتج الاقتصادي،ويبرهن على ذلك بمعادلة اقتصادية توضح العلاقة بين الثروة والناتج القومي،فاما تزيد الثروة على الناتج اويتساويان او يزيد الناتج على الثروة،وفي الحالة الاخيرة ستقل اهمية الثروة،اما النمو الاقتصادي البطيء فيزيد من اهمية الثروة.
اما مؤسس شركة مايكروفست (بيل غيتس)فاعتبر الكتاب واحدا من افضل الكتب التي قرأها في العام الماضي،الى حد انه كتب في مدونته الشخصية مقالا حول هذا الكتاب بعنوان(ماهي اهمية موضوع التفاوت في الثروة)كتب فيه:
اذا اراد المرء ان يقرأكتابا (خفيفا) في الصيف،فبالطبع سوف لن يختار كتابا من 700 صفحة مليئا بالابحاث الاقتصادية ومكتوبا باللغة الفرنسية ايضا حتى لو كان الامر يتعلق بشخص مهووس بالكومبيوتر وباعتراف الجميع. ولكن في تموز الماضي، شعرت بضرورة قراءة كتاب للاقتصادي توماس بيكيتيه بعنوان(رأس المال في القرن الحادي والعشرين) بعد ان قراءت العديد من المقالات التي تناولته، وسمعت عنه من عدد من الأصدقاء.
أنا سعيد لأني فعلت. و أشجعكم على قراءته أيضا، أو على الأقل ملخصا لطيفا له كالذي نشرته مجلة (الايكونومست)وكان غاية في اللطف من المؤلف ان يتحدث معي حول الكتاب في مكالمة عبر السكايب،.و كما اخبرته، فأنا أتفق مع استنتاجاته المهمة جدا ، وآمل أن يحث عمله الناس الأكثر ذكاءً على دراسة اسباب عدم المساواة في توزيع الثروة والدخل،فكلما فهمنا أكثر الأسباب وعلاجاتها، كلما كان ذلك أفضل. كما قلت له أيضا ان لدي ملاحظات بشأن بعض اطروحاته،منها.
هوأنني أتفق تماما معه في::
1-ان المستويات العالية التي وصل اليها عدم المساواة هي مشكلة حقيقية،تقضي على الحوافز الاقتصادية،و تجعل الديمقراطية في خدمة القوى الحاكمة، وتقوّض أساس فكرة أن جميع البشر قد خلقوا متساوين،.
2-الرأسمالية لا تصحح بنفسها المسار نحو مزيد من المساواة، فتركيز الثروة المتعاظم، سيكون له تأثير يتزايد مثل كرة الثلج إذا ما تركت الامور لحالها دون حل.
3-يمكن للحكومات أن تلعب دورا بناءً في ايقاف هذه الميول المتعاظمة لعدم المساواة،عندما تختار القيام بذلك واذا ما ارادت.
وليكن واضحا، انني حينما أقول أن المستويات العالية من عدم المساواة هي مشكلة، فأنا لا أريد أن يفهم من ذلك أن وضع العالم يزداد سوءا. في الواقع، و بفضل صعود الطبقة الوسطى في دول مثل الصين والمكسيك وكولومبيا والبرازيل وتايلاند،فان العالم بمجمله أصبح في الواقع أكثر مساواة، ومن المرجح أن يستمر هذا الاتجاه العالمي الإيجابي.
لكن التفاوت الشديد في توزيع الثروة يجب أن لا يتم تجاهله، أو أسوأ من ذلك، يتم وصفه بانه علامة على ان لدينا اقتصاد عالي الأداء ومجتمع سليم.
صحيح، ان وجود مستوي معين من عدم المساواة هو من خصائص النظام الرأسمالي وكما يقول المؤلف فهو شيء متأصل في ذلك النظام.
لكن المسألة هي الى اي مدى يكون مستوى عدم المساواة مقبولاً؟ ومتى تصبح اضراره أكثر من منافعه؟ هذا الشيء يجب أن يخضع للنقاش العام.
وانه لشيء رائع أن يساعد مؤلف الكتاب في تقدم هذا النقاش بشكل جدي.
ومع ذلك فان في الكتاب بعض النواقص الهامة التي آمل أن يقوم المؤلف وخبراء اقتصاديون آخرون بمعالجتها في السنوات القادمة.
فمع كل المعلومات والبيانات التي يتضمنها الكتاب حول الاتجاهات التاريخية لمسار الثروة، فان الكتاب لا يعطي صورة كاملة عن كيف تخلق الثروة وكيف تضمحل.و في جوهر كتابه هناك معادلة بسيطة: ع> ن، حيث ع يمثل معدل العائد من رأس المال و (ن) تمثل معدل نمو الاقتصاد. والفكرة هي أنه عندما يكون العائد من رأس المال اكبر من العائد من العمل، ومع مرور الوقت فان الفجوة في الثروة ستتسع بين الناس الذين لديهم الكثير من رأس المال، وأولئك الذين يعتمدون على قوة عملهم. المعادلة هي شيء اساسي في الكتاب،والمؤلف يقول انها تمثل"التفسير الأساسي لحدوث التباين و التفاوت"و"تلخص المنطق العام لجميع استنتاجاتي."
وقد جمع خبراء اقتصاديون آخرون مجموعات كبيرة من البيانات التاريخية مما يلقي ظلالا من الشك حول اهمية المعادلة آنفة الذكر(ع> ن)في فهم ما إذا كانت عدم المساواة سوف تتسع أو تضيق. أنا لست خبيرا بشأن هذه
المعادلة،ولكني اريد ان افهم هل ان معادلة المؤلف (ع>ن)تفرق بشكل كاف، بين انواع مختلفة من رأس المال لها منافع اجتماعية مختلفة.
لنتخيل ثلاثة أنواع من الناس الأثرياء. احدهم وضع رأس ماله في مجال الاعمال. ثم هناك امرأة وهبت معظم ثروتها للأعمال الخيرية. وشخص ثالث وهو مستهلك، إنفق الكثير من المال على أشياء مثل اليخوت والطائرات. ولئن كان صحيحا أن ثروة جميع هولاء الأشخاص الثلاثة تساهم في خلق عدم المساواة، فأنا أزعم أن الأولين يساهمان بالمزيد من القيمة للمجتمع اكثر من الشخص الثالث. وكنت أتمنى لو ان المؤلف قد اكد على هذا التمييز،لانه يحمل مضامين سياسية هامة، والتي سأذكرها فيما يلي.
والأهم من ذلك، فانني أعتقد أن تحليل مؤلف الكتاب للمعادلة لم يأخذ في الحسبان قدرة قوى مؤثرة على ان تعطل تراكم الثروة من جيل إلى جيل.
وأنا أتفق تماما أننا لا نريد أن نعيش في مجتمع أرستقراطي تزداد فيه ثروات الاسر الغنية ببساطة بلا عمل اعتمادا على ما ورثوه، وجمع ما يدعوه الكاتب بالدخل الريعي"بمعنى ادق، العائدات التي يحصل عليها بعض الناس جراء تمكين الآخرين من استعمال اموالهم واراضيهم، أو غيرها من الممتلكات الخاصة بهم. ولكنني لا أعتقد أن في أمريكا حدث شيء مشابه لذلك او قريب منه.
لنلقي نظرة على قائمة فوربس لأغنى 400 شخص من الأميركيين. حوالي نصف القائمة تضم رجال الأعمال الذين تبلي شركاتهم بلاء حسنا (بفضل العمل الجاد المتميز، وكذلك الكثير من الحظ). وخلافا للفرضية الريعية للمؤلف، فاني لم اشاهد أي شخص في القائمة كان احد اجداده قد اشترى قطعة كبيرة من الأرض في عام 1780، وقد تراكمت الثروات العائلية من خلال جمع الايجارات منذ ذلك الحين. وفي أمريكا، فقد شحت النقود منذ فترة طويلة لاسباب عديدة منها عدم الاستقرار، والتضخم، والضرائب، والعمل الخيري، والإنفاق على الاستهلاك.
يمكنك التعرف على ديناميكية-اضمحلال الثروة عند استقراء تاريخ الصناعات الناجحة. ففي بدايات القرن 20،كان هنري فورد، وعدد قليل من رجال الاعمال قدابلوا بلاء حسنا في صناعة السيارات. كانوا يملكون الكثير من اسهم شركات السيارات التي حققت تزايدا في حجمها وارباحا مهولة.. وتزايدت اعداد الناس، (بما في ذلك العديد من أصحاب الدخول الذين استثمروا ثروات أسرهم في صناعة السيارات)، الذين رأوا بام اعينهم كيف انهارت استثماراتهم في الفترة مابين 1910-1940، عندما انكمشت صناعة السيارات الأمريكية من 224مصنعا الــــى ان اصبحت 21مصنعا. وهكذا بدلا من نقل الثروة نحو أصحاب الدخول والمستثمرين الخاملين الأخرين، فغالبا ما كان يحصل العكس. ولقد رأيت نفس الظاهرة في العمل في مجال التكنولوجيا وغيرها من المجالات.
المؤلف محق في قوله أن هناك قوى يمكن أن تؤدي إلى تراكم الثروة (بما في ذلك حقيقة أن أبناء الأثرياء في كثير من الأحيان يمكنهم الوصول إلى الشبكات والقنوات التي يمكن أن تساعدهم في امتلاك الأراضي، وفرص العمل، وما إلى ذلك). ومع ذلك، هناك أيضا قوى تساهم في اضمحلال الثروة والكتاب لا يعطي وزنا كافيا لها.
وقد شعرت بالاحباط جراء تركيز المؤلف بشكل كبير على بيانات واحصائيات متعلقة بالثروة والدخل بينما اهمل موضوع الاستهلاك تماما. تمثل بيانات الاستهلاك السلع والخدمات التي ينفق الافراد دخلهم عليها مثل المأكل والملبس والمسكن، والتعليم، والصحة، ويمكن أن تضيف الكثير من العمق في فهمنا لكيف يعيش الناس في الواقع. ولا سيما في المجتمعات الغنية، اما بيانات الدخل والتركيز عليها، فلا تمنحك الاحساس بالامورالتي تحتاج إلى إصلاح.
هناك أسباب كثيرة تجعل بيانات الدخل، على وجه الخصوص، بيانات مضللة. على سبيل المثال، فإن الطالبة في كلية الطب التي لا دخل لها وتقترض مبلغا كبيرامن القروض الطلابية تبدو في الإحصاءات الرسمية كما لو أنها في حالة مزرية،ولكنها ستحصل ربما على دخل مرتفع جدا في المستقبل. أو مثال أكثر تطرفا: بعض الأثرياء جدا الذين لا يعملون يظهر ون تحت خط الفقر في البيانات في السنين التي لا يقومون فيها باي نشاط من قبيل بيع الا سهم أو الحصول على أشكال أخرى للدخل.
هذا لا يعني أننا يجب ان نهمل البيانات المتعلقة بالثروة والدخل. لكن بيانات الاستهلاك قد تكون أكثر أهمية لفهم رفاهية الإنسان. فهي في حدها الأدنى، تقدم لنا صورة مختلفة وعموما أكثر تفاؤلا- من تلك التي يرسمها المؤلف. والطريقة المثالية، كما أود أن أراها هو ان تعتمد الدراسات على بيانات الثروة والدخل والاستهلاك مجتمعة.
وحتى لو لم نكن نمتلك الطريقة المثالية اليوم، فنحن نعرف بالتأكيد ما يكفي عن التحديات التي تواجهنا ويمكننا ا تخاذ الإجراءات اللازمة بشأنها.
والحل الذي يفضله مؤلف الكتاب،هو زيادة الضريبة السنوية التصاعدية على رأس المال، بدلا من الدخل. ويقول إن هذا النوع من الضرائب"سيجعل من الممكن تجنب دوامة لا نهاية لها من عدم تحقيق المساواة مع الحفاظ على المنافسة والحوافز لحالات جديدة من التراكم البدائي".
انا أوافق على أن من المهم ان لاتفرض ضرائب على العمل.وليس هناك اي معنى لأن يخضع العمل في الولايات المتحدة للضريبة بهذه النسب الكبيرة مقارنة برأس المال. ولن يكون له حتى اي معنى في السنوات المقبلة، فالروبوتات وغيرها من أشكال التشغيل الآلي تقوم بشكل يزداد يوما بعد يوم بالكثير من الاعمال الماهرة التي يقوم بها العمال البشريون الآن.
ولكن بدلا من الانتقال إلى الضريبة التصاعدية على رأس المال، كما يرغب المؤلف فأنا اعتقد اننا سنكون أفضل حالا مع ضريبة تصاعدية على الاستهلاك. فكروا في الثلاثة أشخاص الأثرياء الذين وصفتهم في وقت سابق: الاول يستثمر في الشركات، والثانية في العمل الخيري، والثالث على حياة مرفهة. لا يوجد شيء خاطئ مع الرجل الأخير، ولكني أعتقد أنه يجب ان يدفع ضريبة اكثر من الاخرين.
وأنا أيضا مؤمن مثل المؤلف بشكل كبير باهمية الضرائب العقارية.. وكما يحب وارن بافيت(رجل اعمال امريكي مشهور) أن يذكر، فان الامر اشبه ب"اختيار المنتخب الاولمبي لاولمبياد عام2020 عن طريق اختيار أبناء الفائزين بالميدالية الذهبية في دورة الالعاب الاولمبية عام 2000."أعتقد أننا يجب أن نحافظ على الضريبة العقارية واستثمار العائدات في التعليم والبحوث فهي أفضل وسيلة لتقوية بلدنا في المستقبل.
والأعمال الخيرية أيضا يمكن أن تكون جزءا هاما من مجموعة الحلول. ومن السيئ للغاية ان المؤلف خصص مساحة صغيرة جدا لذلك في كتابه. قبل قرن وربع القرن، كان أندرو كارنيجي(رجل صناعة امريكي مشهور) الصوت الوحيد الذي كان يشجع اصحابه الاغنياء على التبرع بأجزاء كبيرة من ثرواتهم. واليوم، فإن عددا متزايدا من الأثرياء جدا يتعهدون بالقيام بذلك. العمل الخيري لا يقدم فوائد مباشرة للمجتمع، لكنه ايضا يقلل من كمية ثروات تلك العوائل المتوارثة ذات السلالات العريقة (حاكمة اوغيرها). زوجتي ميليندا وأنا مؤمنان بقوة أن لتلك الثروات تأثيرسيئ على المجتمع وأطفال تلك الاسرعلى حد سواء. نحن نريد لأطفالنا أن يصنعوا اسلوبهم الخاص في الحياة. سيكون لديهم كل أنواع المزايا، و سيكون الامر منوطا بهم ليختاروا بانفسهم نوع حياتهم ونوع مهنتهم.
ان الجدل حول الثروة وعدم المساواة قد اشعل الكثير من الحماس. ليس لدي حل سحري لذلك. لكنني أعرف أن هذا العمل حتى مع عيوبه، فانه قد ساهم على الأقل بتسليط الضوء وايقاد الحماس والاهتمام بالموضوع. وأنا الآن أتوق لرؤية الأبحاث ألتي ستسلط مزيدا من الضوء على هذا الموضوع الهام.