مــن يـومياتــي..  في انقلاب 8 شباط الأسود عام 1963

مــن يـومياتــي.. في انقلاب 8 شباط الأسود عام 1963

الدكتور حافظ شكر التكمجي
في نهاية عام 1962، كنت أقيم في بيتي الواقع في محلة الحارثية في بغداد – حي المحامين. وفي اليوم الذي سبق الانقلاب الذي لقي الدعم من قبل جمال عبد الناصر، إضافة إلى دعم عربي، وركب الجميع في قطار أمريكي، زارني في البيت الرفيق الشهيد عبد الرحيم شريف الذي كان يسكن في الحارثية أيضاً في بيت متواضع غير بعيد عن محل سكناي،

وقال إنه ذهب إلى البيت ولكنه لم يدخله لأنه لمح وجوهاً تحوم حول الدار. وبقي الشهيد معي عدة ساعات. وخلال ذلك أطلعني الشهيد عبد الرحيم شريف على منشور مختصر صادر من اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي وموجهة إلى كافة منظمات الحزب. وعلى ما أتذكر، فقد احتوى المنشور على معلومات تؤكد بأن حزب البعث سيقدم على تدبير انقلاب في اليوم التالي، أي يوم الجمعة. ويطلب الحزب في هذا المنشور من أعضائه الاستعداد للمقاومة. وهنا سألت الشهيد عبد الرحيم هل حقيقة أنهم مستعدون للمقاومة، وإن الحكومة على استعداد للقضاء على هذا التمرد؟؟. فطمأنني الشهيد بطريقته الصريحة والواثقة بأن جميع المنظمات الحزبية على استعداد لدحر أي تمرد ضد النظام.
لقد ألقي القبض فيما بعد على الشهيد عبد الرحيم شريف، وجرى قتله بطريقة بشعة جداً في معتقل"قصر النهاية"وبدون محاكمة من قبل أوباش البعث البرابرة وبناءاً على توجيهات كانت تبث من محطة أمريكية انشأت في الكويت، وكانت تذيع اسماء الشيوعيين والقاسميين من أجل إلقاء القبض عليهم وابادتهم بدون تحقيق ومحاكمة عادلتين. لقد جرت في 8 شباط مجازر بشعة نفذها قادة البعث وأزلامهم المتوحشين في معتقلات قصر النهاية وسجن رقم 1 في معسكر الرشيد ومعتقل المثقفين ومديرية الأمن العامة وغيرها. لقد أظهر الحكم البعثي الفاشي خلال تسلطه على الحكم في العراق أحط سماته اللانسانية عندما بادر إلى إبادة كل معارض وصاحب رأي، بمن فيهم بعض البعثيين وأقرب الناس له عندما أجهز على عدنان الحمداني ومجموعته في عام 1979 كمثال على ذلك. وسعى البعث إلى زرع الرعب والخوف بين أفراد الشعب، وكم أفواه أي معارض له. واستمر حزب البعث على هذا النهج حتى أواخر حكمه في عام 2003. لقد كان أحد أساليبه تتراوح بين اعدام الابرياء بحجج مختلفة ومفتعلة وإثارة الرعب في قلوب أبناء الشعب كي يشعروا بأنهم عرضة في أي وقت للمساءلة والموت. ولم يقم حزب البعث بإعدام المجرمين الحقيقيين لانهم كانوا في خدمة أهدافه. ولذا تم اطلاق سراح الآلاف من عتاة المجرمين العاديين قبل أشهر من سقوط نظامهم في عام 2003، واستعانت فلول النظام بهؤلاء المجرمين لخوض حرب عصابات بأمل عودة حزب البعث إلى السلطة.
عندما علمت ببدء الانقلاب في صبيحة 8 شباط عام 1963، خرجت للتأكد من أقوال عبد الرحيم شريف حول الاستعداد لمواجهة الانقلاب. ولم التق إلاّ بصديق يساري واحد، قال لي بأننا سنحمل السلاح ونذهب للمقاومة داخل بغداد. بقيت قلقاً، وكانت زوجتي في البيت تستمع إلى البيانات من الاذاعة بعد أن جرى احتلالها من قبل الانقلابيين. وكان الأطفال قد ذهبوا إلى بيت جدهم في اليوم السابق كعادتهم في كل يوم خميس من الاسبوع. ومع تقدم ساعات ذلك النهار الأسود، ظهر لنا بأن الانقلابيين قد حققوا تقدماً وإن الحكومة والجيش مخترقان وإن المقاومة محدودة. وكان الدعم العربي، الناصري على وجه الخصوص، والخليجي ومن ورائهما الاستعمار الغربي للانقلابيين سخياً، حيث وفروا لهم إمكانيات اعلامية ومالية وعسكرية بحيث استطاع الانقلابيون أن يحققوا الانتصار على النظام الجمهوري الوطني. لقد كان الجوار العربي والاسلامي يخشى من استقرار ونجاح النظام الجمهوري في العراق لما له من انعكسات سلبية على هذه الانظمة.
وفي خاتمة نهار ذلك اليوم، فضلنا أنا وزوجتي مغادرة المنزل والالتجاء إلى بيت أحد أصدقائنا القريبين وهو الدكتور نوري السعدي الذي رحب بنا. ولكن بعد التفكير في احتمالات الموقف، ولأن بيت نوري السعدي معرض للمداهمة أيضاً، وبعد المداولة تم اللجوء إلى بيت الصديق القديم المحامي عبدالله عباس بعد أن أن اقترح الأخير الانتقال إلى بيتهم، وهذا ما حصل. كانت زوجته ووالدتها في منتهى الطيبة والكرم، حيث رحبوا بنا واحتضنونا لمدة أسبوع أمضيناه في كنفهم. كنت أتصور أن بيت المحامي عبدالله عباس يتمتع بالحصانة وليس هناك احتمال لمداهمته بسبب انتمائه إلى مجموعة كامل الجادرجي، التي تعاون رئيسها كامل الجادرجي وتواطأ مع الانقلابيين. وكانت صحيفتهم"المواطن"تعارض حكم عبد الكريم قاسم. ولكن تصوراتي خابت عندما جرى اقتحام البيت مرتين.
لقد جرى اقتحام بيت المحامي عبدالله عباس في الساعة الثانية بعد منتصف الليل من ليلة 8 – 9 شباط من قبل عشرات الاشخاص الملثمين بحثاً عن عبد الرزاق البارح رئيس تحرير احدى الصحف الموالية للزعيم عبد الكريم قاسم، وهو نسيب وزوج أخت عبد الله عباس. وكانت الأخت وأبنائها يقطنون معنا في نفس الدار ذلك المساء. وقد أعلن أحد المداهمين نيته في تفتيش الدار. وهنا لعبت والدة زوجة عبدالله عباس دوراً مأثوراً في انقاذنا من هذا الموقف العصيب. فقد هلهلت بأعلى صوتها وباركت لهم خطوة القضاء على عبد الكريم قاسم!!!. وقالت لهم لا يمكن تصور قدوم المجرم عبد الرزاق البارح الى بيتنا، لأنه لو جاء إلى البيت لبادرنا إلى قتله قبل مجيئكم. ومن باب الصدفة الحسنة إنها تعرفت على أحد المهاجمين وسلمت عليه وعلى والدته، وطلبت منهم الجلوس لتناول"السحور"وهي وجبة منتصف الليل في شهر رمضان. وبذلك خففت الوالدة من جنوح المداهمين إلى الشر. وقرروا عدم التفتيش بشرط أن يرافقهم عبدالله عباس إلى مركز شرطة المأمون. واسرع صديقنا بارتداء ملابسه والذهاب معهم للتوقيع على المحضر في مركز الشرطة، وبعد عودته علمنا منه بما يلي:
- جرى اعدام المناضل الكبير متي الشيخ، العضو البارز في نقابة المعلمين.
- يجري تعذيب الموقوفين وهم من المثقفين للحصول على اعترافات، وإلا سيتعرضوا للقتل.
- جرى السؤال منه أثناء الطريق عن بيت حافظ التكمجي في الحارثية باعتباره أحد المطلوبين. فأجابهم عبد الله عباس بأن انتقل حديثاً إلى المحلة ولا يعرف هوية القاطنين فيها.
لقد خدمتني الصدف وتصرف المرأة العراقية الشريفة في انقاذي من الاعتقال والموت المحقق.
في يوم الاثنين الذي تلا الانقلاب، هاجمت مجموعة مشابهة البيت لالقاء القبض على عبد الله عباس باعتباره رئيس تحرير جريدة"المواطن". فقد كان قرار الاعتقال يشمل جميع محرري الصحف في عهد عبد الكريم قاسم. في تلك اللحظة كان عبد الله عباس جالساً خلف مقود السيارة ويهم بمغادرة البيت لزيارة كامل الجادرجي. وكنت على قاب وقوسين من اعتقالي. فلو قدم المداهمون بعد مغادرة عبد الله عباس لقاموا بتفتيش البيت وتم اعتقالي. تم حجز عبد الله عباس وبقي في الحجز طوال النهار إلى أن أطلق سراحه بعد تدخلات عديدة من كامل الجادرجي وآخرين. وهنا أكرر مرة ثانية إن الصدف أو الحظ أو ما شاء تسميته انقذني من اعتقال مؤكد ونهاية لا تحمد عقباها.
في يوم الخميس اللاحق، أصدر النظام البعثي قرار رقم 13 سيء الصيت الذي هدد بموجبه كل من يأوي شيوعياً بالإعدام. وبما إنني أعرف الأخ عبدالله عباس وإمكانياته في مثل هذه الظروف، وبعد تدارس الوضع مع نفسي قررت أن أشكر عبد الله عباس وعائلته على ما قدماه من دعم ومساندة، واعتذرت منهم وأبلغتهم بقراري الانتقال إلى محل آخر بعد الاتفاق مع العائلة. وأبلغت عبد الله عباس وعائلته بقرارنا، وكان محط موافقة فورية من قبلهم. وطلب عبد الله عباس أن نأخذ أحد الباصات ونذهب إلى بيت والدي. وهنا اعترضت زوجته ووالدتها بعنف، وضما صوتهما إلى صوتي وهو مهاتفة الأهل لأخذ التدابير المناسبة. وقد جرى بالفعل إرسال سيارة العم الحاج خضر والأطقال، وانتقلت معهم إلى بيت العم في شارع"هويدي"في الكرادة، مقابل بيت الوالد.
لم أشعر بالراحة في بيت العم، وفكرت طويلاً بالموضوع، وشعرت بمعاناة الوالد والعائلة، حيث كانت تجري مداهمة البيت من قبل عصابات البعث للبحث والسؤال عني. وبحكم طبيعتي المسالمة وحبي للناس وثقتي بهم وتقديم المساعدة لهم، فلم يخطر ببالي أن تبلغ قسوة الانسان البعثي إلى الحد الذي اكتشفته فيما بعد. وقلت لنفسي بأنني اذا قدمت للمحاكمة مثلاً، فستظهر براءتي. فإنني لم ألحق أية أضرار لا بالصالح العام ولا بأي أحد من الناس. فالعكس هو الصحيح. وبدأت تختمر في ذهني فكرة أن أسلم نفسي وأتحمل مدة التوقيف وهو أفضل من البقاء وعائلتي في حالة من القلق الدائم. فلم يخطر ببالي على الإطلاق ما كان يجري من تعذيب واهانات وممارسة أشكال جديدة من التعذيب كل يوم من أجل انتزاع الاعترافات في المعتقلات، وما يتعرض له المعتقلون من انتهاكات لأبسط حقوق الإنسان والقيام بإعدام المعتقلين. كما لم يخطر ببالي أبداً أن كل ما يجري في السجون والمعتقلات يتم تحت إشراف مباشر من قادة حزب البعث ليلاً ونهاراً، وملاحقة كل من لديه رأي أو فكر أو إرادة ونزعة لمعارضة ممارسات البعث وحكمه الإرهابي والوحشي الذي لم يكن له نظير على حد علمنا. ولو تبادر إلى ذهني جزء مما يحصل في المعتقلات لبقيت مختفياً عن الأنظار. ولكن حصل ما حصل.
وجرت المداولة حول أن تتم عملية الاستسلام عن طريق مدير شرطة محافظة بغداد صبحي جميل، وهو إنسان فاضل سبق لي التعرف عليه في بيت صديقه عديل أخي حمدي، كريم القطان مدير عام المصرف التجاري سابقاً. كان سكرتير مدير الشرطة المدعو"ذاري"هو ابن أخت الحاج عباس الديك المصارع المعروف الذي كان من أصدقاء العائلة ويسكن في محلة قريبة من محل سكننا. وقد جاء ذاري إلى بيت العم، واصطحبني بسيارة العم إلى مديرية شرطة بغداد بالقرب من القشلة. وطلب مدير الشرطة أن انتظر في غرفة السكرتارية لحين إكمال معاملة إلقاء القبض. وأعلمني المدير إن أسلم مكان لاعتقالي هو معتقل خلف السدة. كنت جالساً في غرفة السكرتارية عندما دخل أحد ضباط الأمن وتعرّف علي، وقال لي"حافظ التكمجي...نحن نبحث عنك...انتظر هنا وسآخذك إلى قصر النهاية!!". وخرج الضابط وأخبرت فوراً مدير الشرطة، وطلب مني أن أذهب فوراً إلى سيارتنا، وأكمل بسرعة كتاب التوقيف واصطحبني ذاري إلى معتقل خلف السدة. لقد عرفت أن ضابط الأمن الذي كان ينوي اصطحابي إلى قصر النهاية، كان يدعى طارق العزاوي. وهنا أقول إن الحظ كان إلى جانبي ونجوت من قبضته الدامية. إنها أحد تحديات القدر.
في معتقل خلف السدة، استقبلنا آمر المعتقل وكان من ضباط الشرطة، وهو إنسان طيب وفاضل ويعرف عائلتي لأنه كان من هواة الفروسية. وكان على معرفة بوالدي عن هذا الطريق. استقبلنا الضابط استقبالاً ودياً.. وأرسلني إلى أحد قاعات الاعتقال الكبيرة. ووجدت فيها أكثر من 400 معتقل من كبار الموظفين والمثقفين والعمال والكسبة وغيرهم. وساد في القاعة جو من التعاطف والمودة، ولم تتسرب إليهم في ذلك الوقت مشاعر الخوف والرعب من الإرهاب الأسود الذي كان سائداً في المعتقلات الأخرى. وضم المعتقل قاعات عديدة كبيرة وصغيرة، وهي مخصصة بالأصل لأيواء منتسبي الشرطة. وجرى الاتفاق بين المعتقلين على تنظيم أمورهم وعلاقتهم مع أدارة المعتقل عبر مسؤولي القواطع. وتم أنتخابي والمرحوم عبد الرحمن علاّم المدون القانوني لمسؤولية القاعة التي كنت فيها. وكانت حصة كل واحد من المعتقلين مساحة من الأرض لا تكاد تكفي للمعتقل أن يمد رجليه ويستلقي للنوم. وكان إلى جواري الشهيد محمد سليم الصفار، إلى جانب أعداد كثيرة من المناضلين الشرفاء. وكنا نتلقى الحد الأدنى من الخدمات المقدمة من قبل إدارة المعتقل. فقد كانت تقدم لنا وجبة غذاء واحدة في الظهيرة، وهي عبارة عن رغيف من الخبز وشيش كباب واحد. وكانت إدارة السجن تتعامل بقدر من الإنسانية وتسمح لأهالي المعتقلين بجلب الغذاء لأبنائهم، ويتم تقاسمه بين الجميع. ولكن بعض المعتقلين دعوا إلى القيام بإضراب عن الطعام احتجاجاً على رداءة الغذاء المقدم. ولما علم آمر المعتقل الطيب القلب بذلك، دعاني إلى مكتبه وقال:"هؤلاء مجانين...حافظ انتم لا تعرفون ما يحصل في المعتقلات الأخرى من اهانات وتعذيب وقتل...إنكم تعيشون في الجنة مقارنة بما يحصل في أماكن أخرى...فأنتم بحكم المنسيين، وإن أية حركة تقومون بها ستجلب الانتباه إليكم، وستتعرضون إلى ما ستندمون عليه، خاصة وإنكم تستلمون كميات كبيرة من الغذاء من عوائلكم...الخ". عدت إلى القاطع، وبمساعدة عدد من العناصر الواعية استطعنا أقناع المعتقلين بالتخلي عن قرارهم بالاضراب عن الطعام. وكانت هذه الخطوة بمثابة محاولة لانقاذنا من مصير في غاية السوء.
مرّ عليّ ثلاثة أسابيع في هذا المعتقل، وكانت أيام هادئة تخللتها أجواء من الحوارات الثقافية الجيدة مع مجموعة واعية من الناس. وفي المساء كنا نمارس لعبة"المحيبس"على غرار ما جرت عليه العادة في شهر رمضان. وقد جرى الالحاح عليّ في أحدى الليالي كي أترأس أحدى المجموعتين، ونجحت عن طريق الصدفة في اكتشاف اليد التي تخفي الخاتم"المحبس". وتصور الجميع بأنني خبير في اللعبة وأتقنها. وبصعوبة تملصت من الاستمرار باللعبة التي لا أجيدها. إن بقائي خلال هذه المدة في المعسكر بعيداً عن المعتقلات الأخرى وعن الاشخاص الذين كانت تربطني بهم علاقات صداقة وعمل، والذين تعرضوا للتعذيب حتى الموت والحصول على اعترافات عن زملائهم في النضال، أقول إن وجودي في هذا الوقت بالذات في هذا المعتقل ربما قد انقذني من احتمالات سيئة. إنها نقطة أخرى من تحديات العمر. لقد كان بقاؤنا في هذا المعتقل في قطيعة تامة مع الحياة والعالم وبدون صحف ولا مذياع، ولا نعرف بما يجري خارج المعتقل. بالنسبة لي شخصياً كنت ألتقي أطفالي الصغار الذين كانوا يعبرون الاسلاك الشائكة، ويدخلون إلى المعتقل واتبادل الرسائل مع الأهل عن طريقهم.
في السابع من آذار 1963، جرى إبلاغنا بقرار الحاكم العسكري بنقل جميع المدراء العامين والوزراء ومن هم بدرجتهم إلى سجن رقم 1 في معسكر الرشيد. تجمعنا أمام مكتب آمر المعسكر، وقد لاحظت حضور عدد من الموظفين من الذين يشغلون وظيفة مدير عام بالوكالة. فأخذتهم على جنب وطلبت منهم الرجوع إلى قاعاتهم لأنهم غير مشمولين بالقرار، فمن المحتمل أن لا يكون الانتقال في صالحهم. فحسب معلوماتي فإن سجن رقم واحد سيء للغاية. ولحسن الحظ اقتنعوا وعادوا إلى أماكنهم وانقذتهم من مصير مجهول.
عند الوصول إلى سجن 1، استُقبِلنا استقبالاً ارهابياً. فجرى ضرب المدراء العامين. وأتذكر أن الأخ يوسف العاني تعرض للضرب وجرى شق أذنه جراء ذلك. وعندما وصل دوري.. قرأ الضابط اسمي..الدكتور حافظ..وسأل إن كنت طبيباً، فلم أجب وحركت رأسي قليلاً إلى الأسفل. وبهذه الحركة انقذت نفسي من الضرب المبرح. واصطُحبت إلى القاووش رقم 5، غرفة 8 التي تبلغ مساحتها 4×4 متر مربع وتحتضن أكثر من 80 معتقلاً. كان جميع المعتقلين في حالة وقوف، وكنت أحمل فراشاً ووسائد وبطانيات. رجاني المعتقلون أن أترك العفش خارج الغرفة لضيق المكان. حُشرت في الغرفة وقلت للضابط..."لا مكان لي في هذه الغرفة". فأجابني"يوجد مكان ونحن نحقق العدالة في توزيع السجناء". ولكن عاد الضابط من جديد واصطحبني إلى الغرفة رقم 7 وهي أصغر مساحة، 3×4 متر مربع وتضم 18 معتقلاً. وكان جميعهم في حالة وقوف ولا مجال لجلوسهم. لمحت في زاوية من زوايا الغرفة أحد المعتلين وهو في حالة يرثى لها ويئن من الألم. سألت عنه فقيل أنه"اللواء...العلي".... وقد حاول الانتحار وأخذوه إلى المستشفى وأجريت له خياطة الجروح وأعيد إلى الغرفة. تذكرت هذا الإنسان وقد سمعت عنه، فهو من المناضلين الشرفاء المعروف بوطنيته وبشجاعته وبسمعته الطيبة في الجيش. ولهذا اقتربت منه وقبلته وواسيته، ولكنني وجهت له عتاباً شديداً، وقلت له كيف تقدم على هذا العمل غير السليم الذي يسبب الإحباط للضباط الشباب الموجودين معنا. وأعتذر بخجل عند توجيهي العتاب، وقال..... يا أخي لو تعرف قساوة التعذيب والضرب والتنكيل والاهانات التي كنت أتعرض لها كل ليلة من لجنة التحقيق التي يرأسها طه الشكرجي وجلاوزته لما وجهت لي هذا العتاب!!.
أمضيت الليلة الأولى واقفاً على قدمي، ونام المعتقلين من ضباط القوة الجوية الواحد فوق الآخر. أتذكر أن أحدى ساقي أصابها الخدر وحاولت أن أرفعها كي أحركها ولكنني فقدت موطئ القدم. أنهيت"السهرة"واقفاً على قدم واحدة، في حين راحت القدم الأخرى تبحث عن مكان ترتاح فيه دون جدوى. لقد كانت ليلة فظيعة جداً.
وفي اليوم التالي 8/3/ 1963، سمعنا مكبرات الصوت تنقل عزفاً للموسيقى وأغاني صاخبة، وعرفنا عن حدوث انقلاب أسود آخر في سوريه. وتم في نفس اليوم نقل أعداد كبيرة من المعتقلين الذين أنتهى التحقيق معهم إلى سجن بعقوبة والحلة والكوت. وجرى إعادتي إلى الغرفة رقم 8. وتقلص عدد المعتقلين في كل غرفة. وتعرفت في هذه الغرفة على أصدقاء لي مثل المرحوم حسين عبد العال مدير الاستيراد العام والدكتور محمد فاضل سليم وحامد قاسم شقيق عبد الكريم قاسم والاستاذ الجامعي الدكتور نوري جعفر ومحمد البريفكاني رئيس تحريرأحدى الصحف. ورغم التقلص في عدد المعتقلين، إلاّ أن العدد كان مازال كبيراً في الغرفة، إذ كان من الصعوبة بمكان أن يجد الفرد فسحة له كي يسترخي جسمه. وأتذكر كيف جرى نزاع عنيف بين بعض المعتقلين حول المكان وواجهنا صعوبة في فض النزاع. وهكذا تجري في الحياة لحظات ومشاكل يصعب فهمها. إن الوضع النفسي المتوتر يؤدي إلى تحطيم الأعصاب أحياناً ويجعل من الصعب التفاهم وحل المشاكل بشكل ودي وسلمي.
كانت أجواء سجن رقم 1 في معسكر الرشيد رهيبة، حيث كنا لا نسمع إلاّ أحاديث التعذيب والقتل الذي يجري أثناء التحقيق في كل ليلة. وكان يتم استدعاء المعتقلين في ساعات متأخرة من الليل، ونبقى لساعات وأعصابنا متوترة ونعيش فترة رعب شديد. وكان الحرس يقومون باستدعاء المعتقلين وغالبيتهم من خيرة ضباط الجيش العراقي. كنا ننتظرهم عند إعادتهم إلى غرفهم وهم محمولين بالبطانيات وفي حالة يرثى لها. ويهرع المعتقلون الآخرون في الغرفة إلى إسعافهم. وبعد أن يعودوا إلى وعيهم وتملك أعصابهم، يشرعون بالحديث الدرامي عما لاقوه على أيدي المحققين العسكريين العتاة العاملين تحت أمرة طه الشكرجي وغيره. وكان الضحايايروون قصصاً مرعبة عن جلدهم بالصوندات (الأنابيب المطاطية) وتعليقم من أيديهم تارة ومن أرجلهم تارة أخرى بالمراوح السقفية تحت وابل من الشتائم والسخرية الهستيرية وفي حالة من الإفراط في تناول الخمر. لاحظت في أحد المرات أحد ضحايا التعذيب وهو مستلقي على الأرض، وبعد استراحة عقب"حفلة"التعذيب وفي أجواء من السكون الرهيب في الليل، شرع بترديد أغنية لأم كلثوم. كنا لا ندري ماذا نفعل... هل نطرب ونستمتع بصوته العذب، أم نبكي معاناته وما يتنظرنا من أهوال.
أتذكر في اليوم التالي لدخولنا سجن رقم 1، وبمناسبة الفرح الذي انتاب الجلاوزة جراء نجاح الانقلاب في سوريه، شرع الحرس بتوزيع سلال وقدور الغذاء الذي جلبه أهالي المعتقلين على الغرفة. وقبل أن يبدأ المعتقلون بالتهام الأكل حذرتهم وقلت لهم بأنني قبل أن أدخل الغرفة رأيت هذه الأغذية مكدسة أمام الباب وقد تجمع الذباب حولها، وهناك احتمال أكيد بأن هذا الغذاء غير صالح للأكل وربما قد فسد. ولكن الشباب وبسبب الجوع لم يأبهوا بنصيحتي، وحدث ما توقعته وأصيب المعتقلون باسهال فظيع. ومن المعروف أنه لا يسمح للمعتقلين إلا لمدة نصف ساعة في اليوم للذهاب إلى الحمامات وتحت وطأة السياط. شرع الضباط المعتقلون الصراخ بصوت عال من أجل السماح لهم بالذهاب إلى الحمامات دون أن يستجيب أحد من الحرس. وكانت في الغرفة صفيحة نفط (تنكه)، وعملنا حول الصفيحة حاجزاً من البطانيات. وقد امتلأت الصفيحة بسبب كثرة من تعرض للتسمم. وكنت أنا الوحيد الذي نجا من هذه الحادثة الأليمة.