وودي آلن.. نظرة في معنى الحياة

وودي آلن.. نظرة في معنى الحياة

لطفية الدليمي
لا آملُ في شيء... لاأخشى شيئاً... أنا حرٌّ
عبارة مكتوبة على شاهدة قبر كازانتزاكيس

يمثل المخرج العالمي (وودي آلن) - إلى جانب ثلّة من المخرجين - ظاهرة فريدة في السينما العالمية منذ أن بدأ مهنته المسرحية والتمثيلية ومن ثم الإخراجية عام 1950، وتعدّ نشاطاته الإبداعية المسرحية والسينمائية والكتابية نموذجاً للتطور الديناميكي الخلاق الذي يطال أفكار المبدعين. ولن أغفل يوماً عن مدى المتعة المصحوبة بالتفكّر العميق التي تجتاحني

كلّما شاهدت فلماً من إخراج هذا المخرج العبقري الذي يجيد (مثل غيره من المخرجين العباقرة) تناول مفردة صغيرة منسية من مفردات الحياة اليومية ثم يمضي في جرّنا جرّاً للتدقيق في مدى غفلتنا عنها حتى وهي حاضرة أمام أعيننا. ويصح الأمر ذاته مع ثيمات الحياة الكبرى التي يلقي عليها (آلن) أضواء كاشفة عن جوانب خفية فيها ماكانت لتطرق بالنا لولا عبقرية المخرج الرؤيوية، ولن أنسى أيضاً عبارات (آلن) الثرية المختزلة والمحبوكة في الصياغة والفكرة، وأذكر كم كانت دهشتي عظيمة عندما كنت مولعة بقراءة الأدبيات الخاصة بتأريخ الرواية وتقنياتها ومنها رواية الخيال العلمي التي دفعتني لقراءة مبحث أكاديمي ضخم عن فلسفة الذكاء الإصطناعي. وكان مبعث دهشتي حينذاك أن إحدى الفصول الخاصة بالدماغ البشري زيّنتها في مفتتحها عبارة منقولة عن (وودي آلن) وردت في أحد أفلامه، ثم أعقبتها عبارة مأخوذة عن كتاب (أبواب الإحساس) للكاتب (آلدوس هكسلي).

اعتدتُ ولسنوات عديدة خلت وبعد أن أفرغ من مشاغلي في الكتابة الروائية أو القراءة أو الترجمة أن أشاهد فلماً على التلفاز او مقطعاً فديوياً وثائقياً في شتى الاشتغالات المعرفية التي أحسبها ضرورة لازمة لإثراء العدّة المهنية لأي كاتب (والروائي بخاصة.) وحصل قبل بضعة أيام أن لمحت شريطاً قصيراً يتحدث فيه المخرج (وودي آلن) فوجدتني على الفور أغوص في تفاصيله ومشاهدته مرات عدة لاسيّما أن المعروف عن (آلن) هو التبسّط المحبب في طرح أفكاره وكأنه يحكي عنها في مشهدية من مشهديات أفلامه. ولم يكن ماشاهدته في ذلك الفديو القصير ليختلف عمّا عهدته في أفكار (آلن) المدهشة عندما يحكي عن ثيمات صغيرة أو ملحمية في هذه الحياة.
يبتدئ (آلن) الفديو بهذه الكلمات الحاسمة: (لاتوجد إجابة متفائلة حول قسوة هذه الحياة مهما تحدّث الفلاسفة أو رجال الدين أو علماء النفس بغير هذا - إن جوهر مايُقال هو أن هذه الحياة لها أجندتها الخاصة وأنها لاتسير كيفما تريد وأننا جميعنا سوف ننتهي إلى مكان سيئ في يوم ما قريب أو بعيد، وكلّ ماعليك أن تفعله - كفنّان - هو أن تصنع أشياء تشرح فيها للناس أن الحياة شيء إيجابيّ ذو معنى.......).
كنت أراقب الفديو الذي يتحدث فيه (آلن) وأنا أتوقع تصريحاً أو عبارة استثنائية صارخة مثلما اعتاد المخرج أن يفعل في أفلامه، وبالفعل تحققت توقعاتي في اللحظة التي راح فيها (آلن) يقاربُ موضوعة (الغائية) في حياتنا: (الحقّ لايمكن للفنان أن يفعل ذلك الأمر من دون أن يخدع الناس: لايمكنك أن تكون صريحاً لأن الحقيقة الصارخة هي أن الحياة بلا معنى!!)
***
الحياة بلامعنى إذن - هذه القناعة هي ماينتهي إليها (وودي آلن) في كلامه المثير فيما يخص غائية الحياة، وعند هذا المفصل الحاسم وجدتُني أتخيل جموع المشاهدين للفديو والمدى المتطرف لما يمكن أن تبلغه ردود أفعالهم تجاه ماسمعوه على لسان (آلن)، وربما سيندفع الكثيرون إلى وصم الرجل بنعوت من قبيل غياب الإيمان أو السوداوية العدمية أو الكآبة المزمنة والمستفحلة على الرغم من أن هيئة الرجل تنمّ عن شخصية ظريفة متفكّهة تميل للبوح بقناعاتها بوضوح ومباشرة، كما أن ملامح الرجل لاتشي بأي من مظاهر الاكتئاب أو اكتناز الأسرار أو الميل نحو نزعة باطنية شائعة في أوساطنا. وسأقول بوضوح أنني أميل إلى ماذهب إليه الرجل ؛ إذ لم يرد في مسموعاتي أو مقروءاتي أن الذين انجزوا إنجازات عظيمة في ميادينهم كانوا متفائلين أو متشائمين طبقاً لما تمليه ترتيباتهم الذهنية والسايكولوجية وموقفهم الفلسفي من الحياة، بل كانوا يعملون بدفع من الشعور الصارم بالضرورة الميتافيزيقية غير المسبّبة لأن يعملوا ويجوّدوا في عملهم من غير مساءلة لهذه الضرورة، أي أن الأمر معهم كان مثلما هو الحال مع الدجاجة التي تبيض على نحو يومي تقريباً من غير أن تسائل نفسها هل تبيض أم لاتفعل؟!!
يمضي (آلن) في تأكيد فكرته بقوله: (كلّ شيء سبق لك أن حقّقتَه مصيره إلى زوال محتوم - الأرض ستزول، والشمس ستنفجر، والكون سينتهي، وكلّ أعمال شكسبير ومايكل أنجيلو وبيتهوفن ستختفي في يوم ما مهما قدّرناها وأسبغنا عليها من عظمة ورفعة. إنّ من الصعب إقناع الناس بأي شيء إيجابيّ حول هذا الأمر.......).
ولكن كيف أمكن للوجود البشري أن يتواصل وسط هذا العماء الوجودي المفتقد إلى معنى وغاية؟ ثمة فرق حاسم بين كون الحياة تركيباً مفتقداً للمعنى في ذاته وبين مانخلعه نحن على الحياة من معنى يتلوّن بلون أمزجتنا العقلية ودوافعنا الذاتية: الروائي مثلاً يرى في الحياة لعبة تخييلية صالحة دوماً لأن تكون ساحة لفعالية روائية، والفيزيائي يرى في الحياة تركيباً يعجّ بسحر الصياغات الرياضياتية المبهرة التي تحمل في طياتها كل خزين العالم من معنى وغاية وعلى النحو الذي تختزله عبارة الفيزيائي البريطاني السير (جيمس جينز) عندما قال أن الله صار يبدو لنا وكأنه المعمار الرياضياتي الأعظم في الكون. ويسري ذات الأمر مع الآخرين وكلّ حسب مزاجه وثقافته وتدريبه المهني وممارسته الحرفية ولكن يبقى الأمر السائد هو أن الحياة لاتمتلك غائية ذاتية وهو الأمر المكافئ للقول أنها بلا معنى.
تحضرني وأنا أكتب هذه الكلمات عبارة رائعة كنت قرأتها في تسعينات القرن الماضي منشورة في مجلة (آفاق عربية) وقد كتبها الراحل الطيب الذكر (جبرا إبراهيم جبرا) قبل بضعة شهور من وفاته، وصرّح الراحل في عبارته تلك أنه زار الكثير من الأماكن وتمشى في جوف الغابات ودرّس في الكثير من الجامعات وقرأ وكتب الكثير ولم يكن يبتغي من كل مافعل سوى الحصول على قطرتين من الحلاوة وسط بحر المرارات التي تزخر بها الحياة!
ولكن من جانب آخر، كيف يمكن التعامل على نحو إجرائي يومي مع حياة خلوّ من المعنى في ذاتها؟ ذلك ماسيحكي عنه"وودي آلن"في المقالة القادمة.