ولادات متعددة في ولادة واحدة.. قراءة في رواية (ولد توا ً) للروائي صادق الجمل

ولادات متعددة في ولادة واحدة.. قراءة في رواية (ولد توا ً) للروائي صادق الجمل

ناظم ناصر القريشي
يقول الروائي الفرنسي كلود سيمون الحاصل على جائزة نوبل في الآداب عام 1985"الرواية تصنع نفسها، وأصنعها، وتصنعني".
وهذا ما سعى اليه الروائي صادق الجمل وأكده في تأثيث روايته (ولد تواً) بمنحها الفكرة والشخصيات ومنح هذه الشخصيات أفكارها الخاصة ورؤاها الداخلية والخارجية وطريقة التعبير عن نفسها وكذلك منحها البعد الزماني والمكاني ,

وهذا يعتمد على المعرفة الواسعة التي ينبثق منها خيال المؤلف الذي يبتكر ويطوع الكلمات فيجعلها تشبه أفكاره وقدرته على إقناع القارئ بأن ما يقرأه هو الواقع.

ان اختيار الروائي صادق الجمل عنوان (ولد توا ً) لروايته يدلل على إن الكاتب لديه قصديه في جعل المتلقي يتتبع أحداث الرواية حيث العنوان يرافقه في الأفق الزمني للأحداث وهو يتوقع الولادة في أي مفصل من مفاصلها , والولادة تعني الحضور من الغياب ومن اللاوعي الى الوعي ولها ما قبلها من مخاضات وتعسر ومكابدات و آلام.
فحبكة الرواية تروي قصة حياة زينب وكمال وما تعرضت له هذه العائلة من اضطهاد على يد النظام الديكاتوري في تلك الفترة التي أدت الى اعتقال كمال وتعذيبه لأنه مواطن شريف ومثال للنزاهة ولا يتقبل الرشوة ولان أخاه موسى من المعارضين للنظام القمعي و كان مطاردا سياسيا من قبل ذلك النظام , ونتيجة للتعذيب ضرب كمال على رأسه مما أفقده ذاكرته وجعله في حالة شلل ونضال زوجته زينب من اجل إعادته الى الحياة مرة أخرى كي تكون ولادته من جديد.
وكمال في الرواية يرمز الى الشعب وزينب الى الأرض و الوطن الذي يحيا فيه هذا الشعب , فالرواية تمثل عمقا دلاليا كبيرا ذا أبعاد سياسية واجتماعية وفكرية. ولأنه لا يمكن النظر الى مضمون الرواية بمعزل عن شكلها المبتكر فقد استفاد الروائي من تقنيات الرواية الحديثة باستخدامه تيار الوعي عبر الحوار الداخلي المباشر وغير المباشر وصولا الى مناجاة النفس ونظم حركة هذا التيار باستخدام تقنية التكنيك السينمائي كالمونتاج الزمني والمكاني. وقد استطاع الجمل أن يخلق وعيا انتقاليا عبر سلسلة الأحداث والمشاهد والاسترجاعات وتداخل الأفكار وتداعيها وتهيئة المتلقي لاستقبال الولادة الجديدة.
فالرواية تشكل تطوراً فنياً حقيقياً وخلاقاً للكاتب تتناسب مع الوضع المأساوي الذي يعيشه أبطال الرواية و صياغة ملائمة للحظة الولادة الجديدة. وباعتقادي انه قد رسم صورة مطابقة للواقع الذي عاشه أبطال روايته في الفترة الزمنية ذاتها بأزماتها النفسية والاجتماعية و الاقتصادية.
إن أجواء الرواية بدت أكثر وضوحا والشخصيات كذلك فهي حقيقية وعبرت عما في داخلها أفضل تعبير دون أقنعة ومخاتلة وهذا ما يميز شخوص صادق الجمل في جميع روايتها فهو يتفاعل معها وهي تتفاعل معه وتحمل انعكاساته عبر الأحداث التي مرت بها, لذلك جاءت أحداث الرواية متناسقة تماما مع التصعيد الدرامي المتنامي للأحداث.
أن سر نجاح الروائي صادق الجمل في خلقه أجواء روايته (ولد توا) انه عاش وتعايش مع الفترة الزمنية التي جرت فيها أحداث الرواية وربما قابل بعض أشخاصها وعرفهم عن قرب، وكذلك اعتماده على ثنائيات متناقضة مثل الحب والكراهية والخير والشر وصراع هذه المتناقضات داخل شخصيات الرواية , وهو صراع أزلي داخل النفس البشرية ينتهي بتغلب احدهما على الآخر وهذا يعني لا وجود لمنطقة وسطى في هذا الصراع والاستسلام. فالروائي يؤسس للقاء ديناميكي بين الرواية والمتلقي بين الموضوع والمشاهدة والمغزى والذي يمنح العمل تماسكا وحيوية.
والرواية استطاعت أن تقدم لنا وصفا دقيقا وجريئا وشديد المرارة للظروف التي عاشها المجتمع العرقي وهو يتأرجح بين الرجاء والخوف واليأس والأمل , تلك الظروف التي فقد الناس فيها إيمانهم بكل شيء , نتيجة الطغيان والدكتاتورية المقيتة والحكم البوليسي القمعي والحروب المتواصلة التي أقحم بها الشعب مرغما مما أدى الى فرض حصار اقتصادي جائر على العراق عانى منه الشعب كثيرا وقد سبب ارتدادات وانكسارات داخل النفس البشرية جعلت الكثير من الناس يعيشون خارج أفق الحياة الاعتيادية وتحت خط الفقر نتيجة الفاقة والعوز, فتكاتفت كل هذه الظروف وأدت الى خواء روحي مخيف ظن البعض انه قد سقطت معه كل القيم وأصبحت المسألة بالنسبة لهم مجرد النضال من أجل البقاء ؛ وهكذا نستنتج من هذه الظروف عمق الأزمة الأنسانية والنفسية التي عانى منها المجتمع العراقي.
لقد حاول النظام بأجهزته القمعية أن يغيب كمال الذي يرمز الى الشعب بشتى الأساليب و منها ضربه على رأسه وجعله فاقدا للوعي مشلول الحركة وبلا ارادة , بلا مورد رزق يعتاش منه وضيق عليه الخناق بمراقبته ليلا ونهارا فجعل زينب التي ترمز الى الوطن في حيرة من أمرها وبين همين هما كمال ومعاناته وبحثها عن سبل العيش التي تبقيها هي وعائلتها على قيد الحياة وفي هذا المقطع الذي يرمز الى انتفاضة الشعب العراقي في عام 1991 والذي حاول فيه كمال استعادة وعيه لكن هذه الاستعادة لم تكتمل وتسحق الانتفاضة بأقسى الأساليب وأبشعها , فجعل الروائي من ضرب الحصان بالسوط عودة للقهر والتعذيب و التسلط مرة أخرى مما أدى الى انتكاسة كمال و عودته الى حالة اللاوعي
(وقبل إطلالة الفجر سمع الأذان، كان الصوت رقيقا ً ينساب مع سكون الفجر يحمل النسيم يكاد أن يخترق المسامات ((الله اكبر... الله اكبر)) تمتم كمال والكل نيام: الله أكبر، رغم ثقل حرف الراء لكنه أصر أن يلفظه، مرن لسانه وفشل ، حاول ولم يستطع: الله اكبل... الله أكبل، كلمات تخشخش من ثقل لسانه،استنشق وعب رئتيه من نسائم الفجر، ونبرة صوته بعد ان شنف الأذان أذنيه، فأحس بأن مذاق شفتيه حلو رطب، فسرت رعشة بأوصاله وهو ينصت الى حفيف نسيم الفجر، وتلا في تلك اللحظة الربانية، لحظة توحيد الذات الصغرى مع الذات الإلهية العظيمة ما تيسر من الآي الكريم وتمكن وبصبر عجيب انه يتلاوى مع الحروف فنطق و لأول مرة ((اذا جاء نصر الله و الفتح ورأيت الناس....)) نسي الآية الرابطة وختم السورة: فسبح بحمد ربك سبحان الله.. سبحان الله.. هكذا ظل يسبح لله.. حتى انبلج الفجر، وحين لفحته نسائم الصباح، تاه لحظات ٍ يشم عطر أزهار الربيع وهي تتفتح واحدة تلو الأخرى تحت سنا الضوء المنعش، أحس بدفقة الدم تتحرك ببطء حتى انتشرت في جسمه البارد فأحس بالدفء. تلفت حوله في أرجاء الغرفة ومن خلال الضوء تمكن ان يحدد مكانه)ص 77/78
نجد هنا بطل الرواية كمال قد عاش الفجر و الفجر ولادة كأنما عاش عمره في تلك اللحظة يستقبل شذا الأزهار عبر نسائم الربيع والربيع ولادة أيضا فهو في صراع وحالة تحد يحاول أن يخبرنا الراوي من خلال انفعالات كمال ما يشعر به وكيف يحاول أن يعود الى الحياة مرة أخرى متحديا كل الظروف التي مر بها واعلن ثورته عليها ومن ثمة الانتصار لنفسه ولكل الذين مروا بنفس الظرف وربما المتلقي لم يمر بهكذا ظروف لكنه سيجد نفسه ضمن تجربة كمال وهو يحاول أن يزيح كل قتامة الليل من اجل أن يولد من جديد لذا هو (ولد توا ً) , هذا المقطع من الرواية يحتوي على إشارات أو دلالات تغذي النص وتقومه، وتقيم معه علاقات بنائية وخيوط ترابط وتواد لا تنقطع الفتها.
تكمن أهمية هذه الرواية في كونها تدون تاريخ فترة مهمة وحرجة من تاريخ العراق عبر عنها الروائي صادق الجمل بأسلوب سلس يعتمد على لغة تقترب من لغة الحياة اليومية ببساطتها تتحول في بعض الأحيان الى لغة شاعرية ووضوح ودقة في التعبير والوصف تمت بوعي وادراك الروائي من خلال تجربته الطويلة بجماليات وفنون الرواية الحديثة التي يقودنا فيها من الماضي ويستمر الى الحاضر راسما ملامح المستقبل من خلال بناء روائي متماسك.