الملا عثمان الموصلي في نص طريف

الملا عثمان الموصلي في نص طريف

عبد اللطيف ثنيان

طالعت ما جاء في الجزء الخامس عن الملا عثمان فتذكرت بعض أمور عنه ويطيب لي أن أرويها لقراء لغة العرب:

اذكر روايتي عن المرحوم عثمان أفندي أنه فقد بصره وهو في مهده بصورة مدهشة، وذلك أن جارة لهم كانت تعادي أمه فجاءت يوما فرأته في المهد وليس ثم أحد فقلعت عينيه وذهبت. وأن أمه خبأت العينين حتى شب وسلمته إياهما ظانة أنه يجد من يعيدهما إلى موضعهما. وهذه الحادثة كان لا يزال يذكرها.

وإذ ذكر الكاتب ترجمته يجب ذكر جانب من ذكائه المفرط، وهو معرفته لأصحابه من لمس أيديهم مهما طال أمد الفرقة بينهم. فمنها أنه دخل بيروت وكان فيها المرحوم صالح أفندي السويدي فتقدم إليه وصافحه دون أن ينبس بكلمة واحدة فأخذ يده وبقي يتلمسها هنيهة وهو لا يعلم بوجود صاحبه في بيروت وإذا به يقول (سويدي ما الذي جاء بك إلى هنا)؟

وذكر لي المرحوم رؤوف أفندي أبن حسن أفندي الشربتجي الموصلي أنه دخل جامعا في الأستانة فوجد الشيخ عثمان جالسا للوعظ. قال فجلست في ناحية قريبا منه، ففطن بأن الجالس ليس من المستمعين على العادة. قال فتطال إلي وسألني (بك أفندي بكم الساعة) فاجتهدت بتغيير صوتي وقلت بالتركية (العاشرة ونصف) ثم ختم درسه بعد لحظة وأخذ في الدعاء قائلا: (اللهم صل وسلم على رسولك الرؤوف الحسن) وبعد تمامه قال هل تحتاج بعدها إلى التكتم عني؟

ورأيته مرارا وهو يقدر سن من يسمع صوته فلا يخطئ إلا قليلا في الكهول وأما في سواهم أي في من كان في الطفولة إلى المراهقة فقلما يخطئ.

ومررت معه ليلة في سوق. وبينما نحن نسير ونتحدث إذ ضربت بعصاي باب حانوت وقلت له: (هذا حانوت صاحبك فلان) فقال كلا بل حانوته الحانوت الآخر الذي بلصقه.

وكنا ليلة عند المرحوم السيد محمد صالح الكيلاني، وكان هناك أحد المولوية وهو يقرأ ويمد رأسه تارة ويقلبه يمينا ويسارا تارة أخرى ولم يسكت فضجرالشيخ عثمان وصاح بالغلام هات (دنبكا)، والدنبك عند بالعراقيين هو المسمى بالدربكة عند أهل الشام) فأتاه به ونحن نظن أنه يريد الضرب عليه وإذا به ضربه فخرق الجلد وجعله على رأسه يقلد به قلنسوة المولوية وأخذ يقرأ ويتواجد مقلدا الرجل أعظم تقليد حتى مللنا من الضحك وهويقول ما هذه الليلة الباردة.

هذا ما خطر لي الآن إذ له أمور كثيرة. وكان رحمه الله سحابة لا يدخل الدرهم يده إلا مارا بها، ولو جمع مما حصله من الأستانة لبلغ الألوف من الذهب إنما كان له صاحب هناك يسمى بالملا يونس فكان يعطيه ما يأخذه حتى أن أحد الأفاضل كان يقول اللهم يسر لي من يكون لي مثل عثمان ليونس. وفتح مع شريك حانوتا في الأستانة للوراقة؛ فما جاءه أحد يطلب كتابا بغياب شريكه إلا ومد يده وسلمه إياه بصورة يعجز ذوو الأبصار عن مثلها.

وله شعر كثير من ذلك تخميس الهمزية والبردة. وكان في نظم التاريخ أمة وحده فلا يعجزه التاريخ بل متى أخذ السبحة بيده فلا يمضي ربع ساعة حتى يستخرج التاريخ نظما. نعم أن شعره ليس بالعالي الجزل بل يجمع الجزل والركيك.

مجلة (لغة العرب) لسنة 1926

ذاكرة عراقية

مما سمعناه من المرحوم محمود صبحي الدفتري انه بينما كان يسير بمدخل سراي بغداد المجاور للقشلة، رأى من بعيد الملا عثمان الموصلي ومعه عبد الجبار خان زادة رئيس الكتاب في دائرة الاوقاف، فاشار عليه الا يخبر الملا عثمان بمجيئه. وكان الدفتري قد سمع ان الموصلي يعرف الاشخاص من تلمس ايديهم، وعندما مدّ الدفتري يده لمصافحة الملا عثمان، اخذ يتلمسها محاولا معرفة صاحبها كعادته، الا ان الدفتري بادره بقوله: ان هذه اليد لم يسبق ان تشرفت بمصافحتك ولكن لها حبا موروثا انتقل من السلف. وبقي ساكتا وبدأ بتحريك رأسه يمينا ويسارا كعادته، وماهي الا لحظات حتى قال::

اوراق اخلاصي اذا ما كتبت

تنشر في الافاق حسن الاسطر

كلها محفوظة في مهجتــــي

ومهجتي عند فؤاد الدفتـــــــري

وكان يشير الى ان محمود صبحي هو ابن فؤاد الدفتري..