قبل سقوط بغداد بيد البريطانيين العراق سنة 1915

قبل سقوط بغداد بيد البريطانيين العراق سنة 1915

ستيفن همسلي لونكريك

ترجمة: سليم طه التكريتي

لم يتيسر لأحد، عدا الضباط السياسيين، الالتقاء بالعناصر الطيبة والمواطنين المحترمين، ورؤساء العشائر او القرى الذين ظلوا يتمتعون بصفاتهم من الاحترام الشخصي والمرح والذكاء وان بقوا مع الأسف الشديد غير معروفين بالأغلبية الساحقة من أفراد القوات. فاذا لم يكن الجندي الهندي ورفيقه المسلم معروفا بصفة خاصة لدى سكان الجنوب من العراق، فالضابط والجندي البريطانيان يكونان غريبين كلية بالنسبة لاختلاف طرائقهما وأمزجتهما ووقعهما ومستوياتهما عن الجنود الأتراك.

وفضلا عن ذلك فان الاتصالات الأولى بالإدارة المدنية الوليدة التي كان يديرها السر برسي كوكس ومساعده المخلص الذي لايكل السيد ارنولد ولسون قد طفى عليها انعدام اي تاكيد بان الاحتلال سيكون دائما. فما تاثر البريطانيون بالحذر وبالشكوك الصادرة عن الفرنسيين حتى كان صمتهم عن هذا الامر يعتبر مقدمة فعالة لتعاون نابع عن قلوب العراقيين. فقد يعود الاتراك الان. لكن كثيرين بل ان معظم البارزين من سكان المدن والعشار بدأ عليهم بانهم كانوا راغبين في اظهار افضل تعاون يمكن توجيهه ويكون مفيدا الى درجة قصوى "2".

لم تكن الحماسة الخالصة والمجربة لدى الضباط السياسيين القادمين والتي تعتبر من اغرب المفارقات إزاء أسلافهم الأتراك قد أحدثت أدنى ضرر بالمجتمعات التي لم تتعود الطمأنينة التي حصلت مؤخرا أو التطلع إلى أعمال السلب ثانية او الأعمال التي كانت تثيرها الدعاية التركية. فلقد كانت هناك أرتال تقوم بأعمال تأديبية كثيرة وغير ناجحة في بعض الأحيان وذلك لاقتناص المعتدين والمذنبين. وفي الوقت ذاته كانت الدوائر السياسية المقيدة سيئة التجهيز تغص بالكتبة من الهنود وتطفح بأصحاب الالتماسات وتشهد منذ الصباح حتى الليل قضايا التصرف بالأراضي والإيرادات والامور العشائرية والمحاكمات الإجرامية والقضايا البلدية ومهام الشرطة والمحاولات الجارية لمواجهة الطلبات العسكرية المتزايدة للحصول على المعلومات وبطاقات التجول والعمل والتجهيزات.

أدى احتلال مدينة العمارة إلى إدخال البو محمد وبني لام داخل نطاق الإدارة المدنية الجديدة التي كانت مطبقة قي الناصرية. اخذت العلاقات تتوطد بالتدريج. كان كثير من زعماء العشائر يخجلون من الاتصال بحكومة مسيحية مستحدثة. وقد استنكر البعض منهم مثل ذلك الاتصال، ورفض الاذعان لتلك الحكومة. في المتفق كان زيادة السيطرة بطئية وشاقة. لذلك تم ترتيب نوع من العيش بسلام بين رؤساء آل السعدون وفلاحيهم الاعتيادين، فبرزت عن ذلك اداة بسيطة للادارة، وشرع بجمع الايرادات واصبح مستطاعا اقامة حكومات ادارية في الارياف يديرها مدراء من افراد العشائر انفسهم وحوصرت العداوات المريقة للدماء، وجندت قوة من شرطة الهجانة كانت مقدمة لقوات المرتزقة في العراق.

ولم يقع في البصرة او القرنة مايعكر الطمأنينة فيهما. اما في الصحراء فقد اصبحت قبيلة (الظفير) مسؤولة عن مسيرات الحدود، وقد تم استدعاء (ابن الرشد) من قبل السر برسي كوكس لكي يطبق الصلح لكنه فضل أن يظل يدور في الفلك التركي.

وشرع في منطقة العمارة بتطبيق نظام المقاطعات الزراعية، وذلك لعدم وجود اية تغييرات يمكن اتخاذها هناك، وتم فرض الضرائب بنوع من الفطنة.

وبعد احتلال مدينة الكوت شرع باجتذاب الشيوخ الذين كانوا موالين للاتراك، الواحد منهم تلو الاخر وذلك بعد ان حصلت تغييرات حاسمة في المواقف وبقي (والي بشتكوه) يحتفظ بالحياد الخاضع للمراقبة في حين كانت قبيلتا (زبيد) و (ربيعة) في حالة انتظار للأحداث.

بقيت العلاقات مع الشيخ خزعل قوية وودية، وقد ساعدته له سلطته القبيلة التي تعرضت لهزات عنيفة في أوائل سنة 1915. اما (مبارك) شيخ الكويت الذي ظل مخلصا للانكليز حتى النهاية فقد توفي في شهر تشرين الثاني 1915. وقج تنازل ولده (جابر) الذي خلفه لمجة سنة واحدة، عن الرئاسة الى اخيه (سالم) الذي تطلب موقفه الموالي للاتراك، وجود قوات بريطانية في الكويت.

ادى تراجع الأتراك إلى انتقال كبار الموظفين من جنوبي العراق الامر الذي جعل الذين يمارسون اعمال النهب، والممتنعين عن دفع الضرائب، يقدمون على إتلاف السجلات الحكومية. ولذلك كان على الادارة الجديدة أن تبدأ من لا شيء. وكان استبدال اللغة التركية الني كانت سائدة، بما في ذلك قضايا تخمين الإيرادات، لأنه كان يتعذر وجود ما هو أفضل منها.

كان يجري استيفاء الرسوم الكمركية بنسبة عشرة في المائة عن جميع مدخولات السلع المدنية. وقد بقي الفصل في قضايا الإجرام في يد الحاكم العسكري والضباط السياسيين ومساعديهم.

من بين الشروط التي ألغاها قرار تركي نشر في كل إنحاء الإمبراطورية التركية اثر اندلاع نيران الحرب، قرار يقضي في ذلك الوقت بعدم الحاجة أو السؤال. أما بالنسبة إلى قضايا التي تقع بين رجال العشائر، فقد تم تطوير قانون خاص هو نظام المنازعات العشائرية الذي ظل ساري المفعول لسنوات عديدة. وكانت القضايا المدنية تجري معالجتها على يد محاكم أنشئت حديثا في مراكز متتابعة ويتم تنفيذها باللغة العربية. كذلك تم إنشاء تشكيلات للشرطة، وللشرطة المحلية تحت إشراف الضباط البريطانيين في كل من العمارة والناصرية. اما قوات (الجندرمة) التي عرفت باسم (الشبانة) فقد ظلت تطبق الأوامر تحت إشراف الضباط السياسيين، وتمارس مختلف الخدمات في المدن الصغرى والأرياف الواقعة على ضفاف الانهار.

كانت قوات الشبانة في منطقة العمارة ذاتها قد تألفت من الشيوخ البارزين أنفسهم. أما في القرنة والاهوار فلم يكن أفراد الشبانة هؤلاء من أبناء العشائر. وفي الناصرية وسوق الشيوخ أضيفت إلى قوات الشرطة فيهما تشكيلات من الخيالة العشائريين تحت إمرة القيادة العسكرية.

ومثل هذا الاهتمام تم بذله حسب المستطاع، وفي وقت مبكر ايضا، تحو المتطلبات الصحية حيث تمثل في صفة مستوصفات ومستشفيات تقوم بخدمة السكان المحليين، وكذلك الإصرار على التمسك بالأمور الصحية، والسيطرة على التزود بمياه الشرب في المدن، واتخاذ الإجراءات المضادة لمرض الملاريا والإمراض الوافدة الأخرى.

وتم في البصرة إنشاء مصلحة متوسطة للأنباء حيث تم إصدار صحيفة باللغتين العربية والانكليزية.

غير ان الاحتلال البريطاني لم يكن في هذه المرحلة ليشمل سوى أجزاء صغيرة من العراق. أما بقية الأجزاء فقد بقيت تحت إشراف الحكومة التركية التي تعاظمت عسكريا وفظاظة ووهما. فقد غادر بعض المقيمين الاجانب في بغداد قبل اعلان الحرب الى كل من البصرة والمحمرة وبقيت الطائفة البريطانية مصونة غالبا عندما انفجرت الحرب، ولم يلبث الرجال من افرادها ان غادروا الى سوريا، حيث استطاع جمال باشا والي بغداد السابق، والمعروف بصفة شخصية لدى معظم البريطانيين بتدخله ان يضمن إطلاق سراحهم من دون أدنى قيد أو شرط، في حين عاد الى العراق، وكان من بين هؤلاء المقدم سون وارثر تود اللذان عادا الى البصرة عن طريق مصر اما النساء البريطانيات فقد مكثن في بغداد حتى شهر آذار 1917 حين تم ارسالهن الى اسطنبول ليبقين فيها بقية أيام الحرب

وتم تعزيز الاعلان البكر للحرب المقدسة ضد الكفار من لدن جميع الوعاظ في اي مسجد يعود الى طائفة السنة ام طائفة الشيعة، يستطيع الاتراك التاثير فيه. وثم خلق احساس شعبي او ديني الا انه كان ضعيفا ولفترة قصيرة في مدينة البصرة خلال سنة 1915. ولكن هذا الامر برهن على انه ممكن في ظل هذا التنكر، وذلك بنعبئة بضعة الاف من افراد العشائر المتعطشين الى اعمال السلب، من اواسط العراق، ويضع مئات من جنوبي كردستان وانضمامها الى القوات التركية التي كانت تقاوم في الشعيبة وفي عربستان.

وتطورت المراسلات في شهر ايلول سنة 1915 بين الناطقين باسم المدن المقدسة والسر برسي كوكس، حيث عرض اولئك الناطقون بعبارات تصويرية رفيعة، نقض ولائهم للاتراك في حين قدم لهم السر برسي كوكس هبات من الاموال لقاء ذلك.

بعد ستة اشهر اخرى انفجرت الاضطرابات مجددا في كربلاء، فقد ادت محاولة اعتقال بعض الاشخاص الى اعمال عنف ثم طرد الاتراك من المدينة خلالها مجددا. واعقب ذلك حدوث الأعمال نفسها في كل من النجف والحلة. ولقد كانت الحلة مسرحا لمأساة ظل الناس يتذكرونها مدة طويلة. ذلك ان القوات التركية التي ظهرت خارج المدينة في شهر تشرين الثاني 1915 قد أقدمت على اعتقال عدد من الرجال المعروفين في المدينة فشنقت بعضا منهم، ثم ضربت قسما من المدينة ونهبته.

عن كتاب (العراق 1900 ــ 1950)