شخصيات ديكنز القاسية نابعة من دواخله

شخصيات ديكنز القاسية نابعة من دواخله

قال فيودور دوستيفسكي في عام 1862 ان تشارلز ديكنز أبلغه ان الشخصيات الشريرة التي ابتكرها في رواياته هي «ما كانت عليه طبيعته (بل بالاحرى ما اكتشفه في نفسه) من القسوة ونوبات العداوة التي لا أسباب من ورائها تجاه من يعانون العجز ويلجأون اليه طلباً للتعزية، والسلوى، وابتعاده عما كانت عليه محبتهم. فهناك شخصان في داخله،

يشعر بما يجب ان يعبر عنه من مشاعر والاخر لديه شعور مضاد لذلك. وتلك عبارات مفاجئة تبدر من شخص ينظر اليه على انه مثال للطيبة واكثـر الناس احتفاء بالسعادة البيتية وباعياد الميلاد المناسبة التي تغير الشخصيات السيئة فيها سلوكها.
ما قاله ديكنز لدوستيفسكي يظهر في تاريخ زواجه، فعند بلوغه سن الرابعة والعشرين كان يتوق للاقتران بحبيبته كاثرين ذات العينين الزرقاوين، ولكنه كان مصراً على وضعها في قالب الزوجة المطيعة، وعندما عبّرت عن غضبها خلال فترة الخطوبة قال لها ان ذلك سلوك غير مقبول، وانها ان كانت قد سئمت منه، فانه يستطيع انهاء الخطوبة فوراً. وكتب يقول «أنا لست غاضبا ولكني شعرت بألم، واني احذرك لآخر مرة»، لقد بدا ذلك وكأنه صادر بصوت مستر مردستون، زوج والدة ديفيد كوبر فيلد القاسي، والتزمت كاثرين بذلك التحذير.
شهر عسل قصير
وشهر العسل الذي قضاه في مسكن صغير في مقاطعة كنت استمر لفترة جاوزت الاسبوع قليلاً، وقد ظل خلالها يعمل في روايته «أوراق بيكويك» التي حققت شهرته، وحملت كاثرين بعد شهر من ذلك، وخلال 16 عاماً ولدت له عشرة أطفال، وقد وجدت صعوبة في ارضاع ابنه الأول تشارلي، واصابها الحزن عندما أحضر مربية مرضعة، وبعد ذلك كان كل طفل يُسلم الى مربية مرضعة مما جعلها تتفرغ لخدمة زوجها، والسفر معه، واستقبال ضيوفهما الكثر، وكانت اسميا مسؤولة عن تدبير شؤون البيت، ولكن كان ديكنز في واقع الأمر المسيطر على كل أوجه حياتهما.
غير ان هنالك جانباً وحيداً، فشل في فرض ارادته عليه، فقد كان لا يرغب في اكثر من ثلاثة أطفال، وبعد ميلاد تشارلي وطفلتين قال: يكفي، ولكن جاء المزيد من الأطفال، وعانت كاثرين من آلام الوضع، وبدأت تعاني من القلق وهبوط الروح المعنوية في كل حالة حمل، وديكنز الذي كان يحرص على متابعة التطورات التقنية سأل عن مادة الكلوروفورم، وطلب تزويدها بها في حملها الثامن. ولكنه لم يسع للحصول على مشورة في ما يتعلق بمنع الحمل.
الرحلة إلى أميركا
وبعد مولد طفلهما الرابع في عام 1841 قرر القيام برحلة طويلة الى اميركا، وأخذ كاثرين معه وترك الاطفال في انكلترا، وقد استقبل هناك استقبال المشاهير، حيث حيته الحشود بالتصفيق، وصيحات الإعجاب، وأقيمت له المآدب، وانتزعت النسوة قطعا من معطفه المصنوع من الفراء، وقطعا مسافة ألفي ميل في رحلتهما عبر الولايات المتحدة أحيانا باستخدام القوارب النهرية وعبر بعض الطرق الوعرة.
وأبدت كاثرين هناك نوعا من الاستقلالية والاعتماد على الذات، وأثنى عليها ديكنز ووصفها بأنها تتميز بقدرة على تحمل أوضاع الاسفار، وكانت تلك هي المرة الاولى في زواجهما يواجهان فيهما العالم بالاعتماد بعضهما على بعض، فهو لم يكن يمارس الكتابة حينها، وكان اصدقاؤه غائبين، لم تكن هي حامل، ولأول مرة تمكنت من لعب دور شخص مهم في حياته وزادت طاقتها وثقتها بنفسها.
قصة «خاتم»
وقبل سنوات قليلة ماضية كانت قد انضمت إليهما ماري، إحدى شقيقات كاثرين الاصغر، لتقديم يد المساعدة لهما، وكانت في السادسة عشرة من عمرها معجبة إعجابا كبيرا بزوج شقيقتها، وكان هو ايضا يبادلها الإعجاب، ولكن صحتها تدهورت فجأة وتوفيت في أحضانه من غير معرفة الأسباب، وأصابه هذا الأمر بحزن بالغ، ولأول مرة في حياته لم يسلّم حلقتين في كتاب كان ينشر له مسلسلا، وأخذ خاتما من إصبعها ظل يلبسه طوال حياته، كما عبّر عن رغبته في أن يدفن الى جوارها، وتقبلت زوجته كاثرين هذا التعبير العلني عن الحزن بهدوء، وإن كان ذلك أثار لديها بعض التساؤلات. وبعد عودتهما من أميركا، انضمت إليهما أخت صغرى أخرى، وهي جورجينا، وكانت في الخامسة عشرة من عمرها، وبعد ذلك في وقت قصير حملت كاثرين مرة أخرى، بينما تحولّت جورجينا الى «قطته الأليفة الصغيرة»، وكان بالنسبة لها شخصية عظيمة لا يوجد مثيل لها، وأكدت جورجينا شخصيتها مع مرور السنين وباتت شخصية مؤثرة ضمن الاسرة. وبحلول عام 1850 كانت أوضاعه المالية تعززّت، حيث كان يدير مجلة اسبوعية ويصدر روايات توزع عدداً كبيراً من النسخ، ولكن صحب ذلك النجاح بعض عدم الاستقرار، وكانت كاثرين قد فقدت جمالها وشبابها، وزاد وزنها، وعانت المرض بعد مولد طفلها التاسع، وكان ديكنز يعاملها بعطف، ولكن شعوره بعدم الاستقرار تزايد، وعندما التقى الين تيرنان الممثلة الشابة في عام 1857، وقع في حبها.
حب الشيوخ
كان وضعا غريبا وقع فيه رجل في مختتم العمر في حب شابة صغيرة السن. ولكن لا يوجد ما هو غريب في اسلوب حياته، وبات يتسم بالقسوة. واقام حائطا يفصل غرفة نوم الزوجية. عازلا زوجته امام انظار جميع المقيمين في البيت وانتقل من مسكنه في لندن. ولم تساند جورجينا شقيقتها، واعتمدت كاثرين التي اصابتها الحيرة على والديها. ونشر ديكنز بيانا شخصيا، قال فيه ان الانفصال كان وديا بعد سنوات من المشاكل الزوجية، وهو قول غير صحيح. وسمح بنشر بيان في الصحافة الاميركية يتهم كاثرين بانها تعاني اضطرابات عقلية، وتلك كذبة اخرى. وابلغ صديقتهما مس كوتس ان كاثرين لم تحب البتة اطفالها، كما انهم لم يحبوها، وهذه اكاذيب اخرى.
واختلف ديكنز مع اصحابه وقاطعهم لانهم انتقدوا سلوكه، واغلق المجلة التي كان يديرها مع ناشر وتخلى عنه واصدر مجلة جديدة اقترح ان يطلق عليها اسم «تناغم الأسرة» مما يكشف فقدانه لحس الفكاهة.
دواء جماهيري
كما شرع في جولة قراءات تجارية ووجد في الجمهور المعجب به دواء لمعاناته النفسية، واعاد ديكنز تنظيم حياته، وأصبح مكان سكناه الشقة التي في مكتبه وبيته في غادس هيل القريبة من روشستر في مقاطعة كنت، والذي كانت تشرف عليه جورجينا، وابقى اطفاله معه واجرى تسوية خاصة بكاثرين، وقد تصرفت كاثرين بكل وقار وثبات عندما أتتها انباء وفاة ابنهما والتر في الهند، ولم يتحدث اليها او يكتب لها ديكنز.
وديكنز الذي كان يحب الشخصيات الشريرة القاسية مثل ميردستون، وكويلب، وسكوير، انضم الى صفوفهم.
رسالة أخيرة
وهذه ليست نهاية القصة، فعندما كان يستعد للذهاب في رحلة قراءات في اميركا، ارسلت له كاثرين رسالة قصيرة تتمنى له فيها التوفيق، ورد عليها قائلا «عزيزتي كاثرين، أسعدني تلقي رسالتك وأبادلك التمنيات بالتوفيق فهناك عمل صعب للغاية في انتظاري، وهذا ليس بالأمر الجديد في حياتي، وأنا قانع بالسير في طريقي وانجازه. المخلص، تشارلز ديكنز». وتلك عبارات باردة ولكنها اكثر دفئاً من تلك التي كانت قد سمعتها منه لعدة سنوات. وكاثرين عاشت بعد وفاته تسع سنوات، ولكن لم تتم دعوتها لحضور جنازته، وقد حفظت جميع رسائله وطلبت من كاتي ان تنشرها جميعاً لإثبات انه كان يحبها.
عن / صنداي تايمز