في الفنان الذي فقدناه .. هكذا.. وفجأة

في الفنان الذي فقدناه .. هكذا.. وفجأة

حمدي مخلف
وبينما كانت فرشاته لا تزال منداة بالوانه المتفجرة وهو يستعد لاقامة معرضه الجديد "الانسان والقناع" وبينما كان يسعى لأن يتواصل عبره برموزه الملأى بخصوصية طالما افردته في العطاء المتميز، وبخطوطه النائية واشكاله المنفعلة برؤيته الذهنية الخاصة..

وبينما كان يراجع دراساته ومقالاته ومحاضراته المتناثرة هنا وهناك ويعيد النظر في العديد من لقطاته التصويرية استعدادا لاخراجها في كتاب.. وكتابين .. وثلاثة.. وبينما كان يضع رؤوس الاقلام لمحاضرة في مجال اختصاصه الطبي يسهم بها ويعزز من تطورنا الحضاري في مؤتمر طبي عالمي.. وبينما ينتظر موعدا جديدا لالقاء محاضرته في جامعة البصرة عن "الملصق الجداري" بعد ان حالت رداءة الطقس في الشهر المنصرم دون القائها في موعدها المحدد.. وبينما كان دفتره الصغير مملوءاً بتواريخ لافتتاح معارض وحفلات موسيقية ودعوات فنانين وادباء.. وبينما كانت حشود من مرضاه تنتظر ساعة افتتاح عيادته الطبية لاستقبالهم وسماع صوته الفني وهو يتحدث اليهم بقلبه وعقله.. وبينما كانت يده لا تظن بأية مساعدة يجزيها لمن احس بحاجته اليها.. وبينما.. وبينما.. وبينما..

وهكذا.. وفجأة
يخترق الموت حياة الفنان الدكتور قتيبة الشيخ نوري بحادث مؤسف وتنطفيء جذور كان لها اسهامها الفعال في مسيرة الحركة الفنية في القطر العراقي منذ ما نيف على ثلاثين عاما وفي غير مجال من مجالاتها، ولعل ابرز صفاته كفنان تعبيري هو نزوعه الى ايجاد وتأكيد الصلة المتكافئة بين جميع ممارساته بحيث يظل للبحث الجاد ان يقوم اساسا في عمله، وذلك منذ محاولاته التشكيلية الاولى، ولنا من معارضه العديدة ما تحتج بها له في اسلوبه الفني المتميز بتجاربه الخاصة عن تجارب الفنانين الاخرين من ززملائه . وهو إذ يستلف من مهنته حينا ومن حياته الخاصة وذكرياته حينا آخر ومن مطالعاته الكثيرة وتأملاته فيها في احيان اخرى ما يوظفه في اسلوبه الفني تعزيزاُ له، انما يدرك بان في ذلك ما يمده بطاقة وقدرة وشموليه تمكنه من الوقوف ضد السقوط في ربقة التقليد الذي استشرى امره بين الكثيرين من الفنانين الجدد في الوطن العربي، ولقد كان على كثير ايمان بالفنان الذي يعليه ان يكون كما يقول: "اما باحثا مكتشفا او باحثا مخترعا وبهذين النموذجين من الفنانين تتأكد الهوية الحضارية لهما، اما الاخرون فهم من الحشد السائر في الزحمة بدون مبادرة قيمة ولا مساهمة كبيرة".. وكان الى ذلك كله، بل انطلاقا من ذلك كله، على كثير من الالتصاق بتراب ارضه وواقعه وعصره لانه كان يؤمن باهمية دور الفنان في بناء المجتمع الحضاري عبر رؤية ثورية صادقة واصيلة: "ان الفنان فردي والفن عمل فردي ولكنه في الحقيقة يبقى عملا تسهم فيه كل الحضارة الانسانية ويسهم فيه الواقع، وان الفنان قد يبدو فرديا من خلال جهده في الشخص الواحد ولكنه لا يمكن ان يكون انانيا".
وقتيبة الشيخ نوري لم يكن فرديا ولا انانيا، وبذلك كان له تفاضله على الكثيرين.

لنتذكر قتيبة الشيخ نوري
ليس من السهل ان نخسر انسانا عراقيا يعرف كيف يعد القطر بكل جديد.. وليس من السهل – ابدا – ان تخسر (فنانا) مبدعا ومثقفا ويمتاز عن غيره من الفنانين بالتواضع وهو المبدع ويمتاز بالروح الطيبة وهو المقتدر الذي اغنى الفن التشكيلي بكل ما يملك من طاقة وموهبة وابداع.
من هو الفنان (قتيبة الشيخ نوري)؟ ولماذا تركنا او نسينا ذكرى هذا الرجل النقي والفنان؟ لعل الكلام المختصر عن هذا الانسان العراقي يبقى قاصرا عن الوصول الى الحقيقة فهو – رغم مكانته الفنية ورغم كل ما قدمه لحركة الفن التشكيلي في العراق المعاصر – وكما يعرفه اقرب المقربين اليه من الفنانين – لم يكن في نظر نفسه ، غير واحد من الفنانين المتميزين الذين ظهروا بعد الرواد.. لذكرى هذا الفنان العراقي الذي غادرنا قبل اكثر من عامين نكتب عن بعض اعماله الفنية التي وجدت مكانتها في نفوس النقاد التشكيليين وفي نفوس الاصدقاء والمعنيين بفن اللوحة العربية المعاصرة، وكلنا امل في ان يبقى هذا الفنان في قلوب الناس ممن كان بينهم – ومعهم – اقرب المقربين واول المهتمين بمستقبل الفن العراقي الذي كان – هو نفسه – من الاوائل الذين اعطوا له كل طاقاتهم ووقتهم من اجل رفع مكانته في الحركة التشكيلية العربية وغيرها من الحركات الفنية في العالم.
ان اول ما يستوقفنا في فن قتيبة الشيخ نوري هو البساطة الموجودة في لوحاته والاقتصاد والنظافة في اللون.. فهو بأبسط الخطوط الهندسية قادر على إعطاء الاعمال قيمة دقيقة في تجسيدها للحالة الفنية واصيلة في جذورها، وعندما نصف قتيبة بان فنان الدائرة ، نكون قد انصفنا فنه وازلنا القشور عن ركن جوهري في شخصية الفن التشكيلي العراقي، فنفهم ذلك التجدد في لوحاته 0الدائرية، الحروفية) التي تتميز بقدرة كبيرة على الاستيعاب، وهي قدرة تدل على ذكاء الفنان الذي يعاضده دأبه المستمر في البحث عن ما هو جديد حول الدائرة والحرف.
"الحياة دائرة عظيمة ذات محيط، لا مرئي مركزها الانسان، تزدحم بما لا نهاية من الاشكال الدائرية لحد الهلوسة و(الهوس)".
إذن، يؤكد قتيبة على انه لا يقدم الدائرة بشكلها الجمالي فقط، بل انها تحدد قيمة الانسان وانها تدور حول الانسان وانها تحاول اعطاء تفسيرات عديدة عن الرمز الانساني لعالم فيه الحب والكراهية ، فيه الحرب والسلام.. فيه الاندفاع.
"الدائرة كالنفس البشرية حياة محبوسة في جماجم تعيش ايقاعات العاطفة ، وتنمو بمعطيات الحواس والتجارب الانية، وتتفتح عن اغان وصور كي تتجاوز ابعاد الذات البشرية نفسها".
والحرف عند قتيبة تشكيلي القوام لا زخرفي.. بل ذو قيمة جمالية فيه الانسيابية بمساحاته اللونية وتكويناته الهندسية.
لا اود من خلال هذه الكلمات القليلة ان اتحدث عن ملصقات قتيبة ولا عن لوحاته ولا عن لقطاته الفوتغرافية (ن هناك مكانا آخر للحديث).. بل ما اريده هو تذكير الفنانين والنقاد بقتيبة الشيخ نوري ودعوة (دائرة الفنون التشكيلية لعرض اعماله بمعرض شامل.
مجلة الرواق 29/9/1981