النقاد والشعراء..الخياط والنظرة الى (الأنا)

النقاد والشعراء..الخياط والنظرة الى (الأنا)

طلال سالم الحديثي
لعل عنوان المقالة هذه يصرف ذهن القراء الى مديات ابعد مما قصدت اليه منها، وهنا يتوجب عليّ ان ابادر الى تحديد غرض المقالة وقصديتها التي تتوقف عند حد تسليط ضوء قد يكون خافتا او ساطعا على شأن من شؤون الادب لفتت انتباهي اليه مصادفة قد لا تكون عمياء كما توصف دائما.

ذلك الشأن يثير بالتأكيد سؤالا، بل اسئلة تتكاثر حينما يصل التضاد في الرأي الى مرحلة الافتراق بين مشرق ومغرب، او الافتراق بين ابيض واسود، وكل ما يرد على ذهن القارئ من صور الافتراق، وللمسألة وجوه كثيرة قد لا تقف عند حدود التذوق وتباين وجهات النظر وطرق البحث.
فالطريق الى النص غدا متشابكا متنوعا متشعبا، والنظريات النقدية تتكاثر وتتوالد، ومناهج البحث تنمو وتتطور وتتلاحق، وكل ذلك من بديهيات الامور.
(ضمير الشخص الاول المفرد)، او (الأنا) عند شاعرتين كبيرتين: نازك الملائكة، وفدوى طوقان هو ما يعنيه عنوان المقالة بـ(الشعراء)، اما (النقاد) فهما الناقد المرحوم د.صفاء خلوصي، والدكتور جلال الخياط شفاه الله من اوجاع الشيخوخة. والتضاد بين رأي الناقدين (خلوصي، والخياط) لم يكن ثمرة سجال نقدي متواتر في الصحف او المجلات، بل هو تضاد اكتشفته انا (القارئ) بينما كنت اقلب الصفحات لاكتب بحثا عن (نازك الملائكة). وقد وجدت في الامر فائدة تستحق ان يشاركني فيها الاخرون من القراء. وللتوضيح فتأريخ نشر مقالة د.صفاء خلوصي هو عام (1953)، وتاريخ نشر كتاب د.جلال الخياط هو عام (1970).
(الانا) تلك يعدها د.صفاء خلوصي مفتاح الشاعرية، ولولاها لما بقي للشعراء شعر ولا دوّن لهم ديوان، و(الانا) ما هي بالشيء القليل اليسير، انها تضم كل هذا العالم الخبيء الذي لم يكتشف حتى الان، الا العقد الضئيل من اسراره وخفاياه.. ان هذا العالم الصغير المسحور الذي نسميه النفس البشرية هو موضوع قصائد فدوى، بل هو موضوع قصائد كل شاعر ابداعي وشاعرة ابداعية في كل زمان ومكان، وفي كل لغة وبيان. ويكفي ان ادلل.. يقول خلوصي- على رومانتيكية او ابداعية فدوى طوقان بمجرد الاشارة الى عنوان ديوانها الجديد، انه (وحدي مع الايام)، ارأيتم (الأنا) الخالدة كيف تتجلى في كل عبارة يتفوه بها الرومانتيكيون، فهذه الشاعرة لم تشأ الا ان تجعل عنوان كل او معظم ما نظمت في حياتها عنواناً يدل على ذاتها، بل انه يدل على ذاتها وحدها بمعزل عن سائر الكائنات، والابداعي مهما اسرف في الحديث عن (الأنا) لا يمل حديثه، بل هو طريف في كل ما يقول، جديد في كل ما ينطق به لانه اذ يتحدث عن نفسه انما يتحدث عن نفسي ونفسك، وعن نفس كل كائن بشري.. وما دمنا جميعا في تجدد مستمر، فهذه (الأنا) تتجدد دائما مع الايام. ولفدوى تعابير ابداعية رائعة، فمن ذلك (اختلاجة الدمعة في الهدب في قولها: كم جئته والدمع، دمع الشوق مختلج بهدبي، فهذا تصوير بديع: صورة فتاة بكت ما شاء الله لها البكاء، فبقيت الدمعة تتألق مرتعشة في اطراف اهدابها، ومن ذلك ايضا عبارة (أحسك في دمي)، و(الصدى المنغوم)، في قولها: وحدي، ولكني احسك في دمي، وفي عاطفاتي: أصغي لصوتك، للصدى المنغوم في اغوار ذاتي واراك من حولي وفي ملء آفاق الحياة.
وتطغى على اشعار فدوى طوقان روح "صوفية" هي صوفية الرومانتيكيين التي نراها عند وردزورث وشيلي مع شيء من الرمزية، انها اقرب الى صوفية جبران خليل جبران منها الى أي شخص آخر، فهي التي تقول: ترى ما الهوى؟ اهو روح الحياة؟ ترى ما الهوى؟ أهو سر البقاء؟ اتعرف ما هو؟ قل لي، لا، لا تقل لي ودع سره في انطواء.
فسحر الهوى هو هذا الغموض، وسحر الهوى هو هذا الخفاء.
ويقول د. جلال الخياط عن نازك الملائكة في كتابه (الشعر العراقي الحديث، مرحلة وتطور) ص 159: ان نظرة سريعة الى دواوينها الثلاثة تجعلنا نؤمن ان الشاعرة كانت تعيش في عالم خاص بنته بنفسها، ذي حدود ضيقة جدا، قوامه اليأس والالم، والعيش في ذكريات الماضي، والوحدة التي لا تجد لها تفتحا الا في الصراحة الشعرية:
مات أمسي الضحوك واعتضت عنه بشباب مر ودمع ويأس
وتتكرر الفاظ الغربة وخيبة الامل: (لم يبق لي في الارض ما يرتجى) والوحدة القاتلة واليأس المرير:
وحدتي تقتلني والعمر ضاعا والاسى لم يبق لي حلما جديدا
وهي تعيش في حلم ابدي دائم:
وأحلم.. أحلم لا استفيق الا لاحلم حلما جديد
ويقول ص(160): ان الشاعرة ذات حساسية مفرطة وهي رومانتيكية تبحث لها عن عوالم بعيدة لا ظل لها في الواقع، قد ترتفع احيانا الى مستوى الاغراض النفعية غير المألوفة.
ويقول ص (16): شعر نازك -إذن- في معظمه تجربة تكرر غضبها لانها شكت وبكت وتأوهت ولم يتطور الحزن عندها الى اشكال فنية مبدعة، كأن تخلع احساسها بالالم على الاخرين فتصور بؤسهم ومشكلات حياتهم ومآسيهم الكثيرة فتبرز شخصيات حية عاشت مأساة الحياة فعلا. ان الشاعرة، انانية في حزنها، تأثرت تأثرا خارجيا بالشعراء العاطفيين الذين غنوا احزانهم.
ويلاحظ القارئ مدى افتراق رأي الناقدين د.خلوصي ود.الخياط في النظر الى (الأنا) ذلك الشعور بالوجود الذاتي المستمر والمتطور بالاتصال مع العالم الخارجي والاختبارات والتثقف، ثم بالتأمل والاستبطان الذي هو مركز البواعث والاعمال التي تؤقلم الانسان في محيطه، وتحقق رغباته وتحل النزاعات المتولدة عن تعارض رغباته. ولا شك فإن رأي د.صفاء خلوصي في اعتبار (الأنا) مفتاح الشاعرية –وشاعرية فدوى طوقان خاصة- يسنده كل شعر فدوى اللاحق الذي قالته بعد ديوان (وحدي مع الايام) والذي تغنت فيه بوطنها فلسطين وآلام شعبها. أما نازك الملائكة فإن اولى قصائدها (الكوليرا) التي هي ايضا القصيدة التي تعد (بكر) الشعر الحر المنشورة عام (1947) فقد كانت قصيدة ذات هم عام يخص آلاف البشر الذين يمكن ان يأكلهم ذلك الوباء الفتاك في بيئة فقيرة تتردد بين حيطان بيوتها أنات الوجع والجوع والفقر والمرض، فهل تتواءم (الأنانية) مع صرخة نازك الملائكة في قصيدتها الكبيرة (الكوليرا)؟ ذلك لم يقله ولن يقوله ناقد.
هامش:
*الشعر الابداعي، صفاء خلوصي، مجلة المعلم الجديد عام 1953.
*الشعر العراقي الحديث، مرحلة وتطور، د.جلال الخياط، دار صادر بيروت 1970.

هذه المادة سبق ان نشرت في صحيفة المدى عام 2006