وردّدت الجبال الصدى  لـ (خالد حسيني): الخطأ والصواب الاجتماعي في عوالم الحرب في أفغانستان

وردّدت الجبال الصدى لـ (خالد حسيني): الخطأ والصواب الاجتماعي في عوالم الحرب في أفغانستان

يارا بدر
قدّم الروائي والطبيب الأفغاني خالد حسيني للعالم تصوّراً مختلفاً، إنسانياً وحقيقياً عن ذاك البلد المُسمّى أفغانستان، في روايته الأشهر «ألف شمس ساطعة"التي صدرت عام 2007 وترجمت إلى العديد من لغات العالم، وكأنّه يقدّم بهذا لوجه أفغانستان الجديد، بعيداً عن الصورة التي رسّخها الإعلام طوال سني الحرب الأميركية على تنظيم «طالبان"ومجاهديه.

أذكر جيداً الخوف الذي تملكني وأنا أقرأ رواية حسيني الثانية بعد «عدّاء الطائرة الورقية» من الكيفيّة التي تحوّلت فيها أفغانستان من دولة يفرض عليها الاتحاد السوفييتي منظومته اليسارية، إلى دولة تسحق فيها المرأة والإنسانيّة بوحشية تحت مُسمّى الجهاد والشرعَة الدينية. يومها فكرت بقلق لم أجرؤ على البوح به: هل يمكن أن يحدث هذا لنا؟!
مؤخراً، قامت دار «دال"السورية بترجمة أحدث أعمال «حسيني» بعد وقت يُعتبر قصيراً جداً نظراً لتاريخ الترجمة البائس في البلد وسرعة مواكبته لأحدث المؤلفات العالمية، لنفاجأ كسوريين، بأشياء كثيرة حدثت لنا خلال السنوات الخمس الماضية، حدثت خلال العقود الماضية، وربما ستحدث مستقبلاً، وكأنّ الكاتب يخبرنا: هذا ما حدث لنا، وربما سيحدث لكم يا أصدقاء. هذا ما يحدث في الحروب في كلّ مكان. في الحقيقة، تبدأ وقائع الأزمة الإنسانية التي يتناولها حسيني في روايته «وردّدت الجبال الصدى» مثل ما هي الحال لدينا، من فقر لا يرحم، من حياة تعيش على الهامش في وسط الرمال لم تزدها السياسات الاقتصادية المرسومة في المدن الكبيرة إلاّ سوءاً وعنفاً.

زمكانية الرواية:
الزمن طويل في الرواية الممتدة على مساحة (460) صفحة من القطع المتوسط، يبدأ من حكاية هي خارج الزمن الواقعي، هي حكاية شعبية ربما مُتخيّلة، وربما هي موروث شفاهي، لكنها كلّ الحكاية. نتجاوز هذا الفصل الذي عنّونه المؤلف بزمن فعل القَصْ (1952)، لنبدأ في سلسلة فصول الرواية التي هي حكاية شقيقين «عبد الله"وأخته الصغيرة «باري»، نبدأ مع شروق اليوم التالي بعد أن روى الوالد «صابور"لطفليه الحكاية ثمّ ها هم يستعدون في ذاك العام للرحلة التي ستغيّر حيواتهم أجمعين. «يبيع «صابور"صغيرته «باري» لعائلة غنية علّه يضمن لها حياة أفضل، ويساعد عائلته التي عشش الموت في زوايا بيتها كتزاوج طبيعي بين الفقر الشديد والبرد الأشد. لكن ما الثمن؟ ما الصحيح؟
قبل أيّ فصل من فصول الرواية التسع، وقبل أن يبدأ الحسيني في روايته يخطّ من أشعار جلال الدين الرومي:"ما وراء فكرة الخطأ والصواب، هناك حقل سألقاك فيه".
يؤرجحنا حسيني بين باريس وإحدى الولايات الأميركية وجزيرة «تينوس» اليونانية، ليعود بنا دوماً إلى كابل، على مدى أكثر من نصف قرن بين عام (1952) وعام (2010) لا رابط بين هذه العوالم والأزمنة سوى حقيقة كونها شخوصاً ارتبطت «كينونتها» بالعلاقة مع «كابل» المدينة ومصائرها المتبدلة.
زخم سردي كبير يأسرنا حسيني فيه، لغة لا تنضب مفرداتها وتشابيهها، تستعين بجغرافية تلك الأماكن لترسم عوالم فرضت ذاتها على شخوصها، فرضت ثقافتها ولغتها ومعارفها، إذ ترفض السيدة «نيلا واحداتي»- مثلاً- أن تسلّم ابنتها «باري» لحبل المشنقة ذاته الذي التفّ حول رقبتها خلال سني مراهقتها في المدينة الأفغانية «كابل» فتهرب بها إلى فرنسا. تقول «نيلا» الشاعرة الأفغانية الفرنسية في مقابلة معها عام (1974):"لم أحب لها أن تعيش ضدّ إرادتها وطبيعتها، وتتحوّل إلى امرأة حزينة، دؤوب، ومُسترقة في صمت طوال حياتها، وخائفة إلى الأبد من أن تقترف، أو أن تقول، أو أن تُظهر ما يُعتبر خطأ".
أمّا الطبيب «ماركوس» فقد جال العالم وقطن لأكثر من عشر سنوات في «كابل» بحثاً عن انتماء يتطلّب شجاعة ربما هو لا يمتلكها. بحثاً عن شيء ربما هو حيث غادر في الأصل. في حين يعود «إقبال"الأخ غير الشقيق لـ"باري"و"عبد الله"عام (2009) إلى قرية «شادباغ"من مخيم «جالوزاي"في باكستان ليبحث عن منزل أهله وطفولته فلا يجد له مكاناً في المدينة الجديدة التي رسمها أمراء الحرب وغيلانها. وصولاً إلى «باري» ابنة «عبد الله"التي عاشت كل حياتها في أميركا، حياة رسمها والدها كما تقول «بكل دقة"لتكون حياة الفتاة الأفغانية الصالحة، الشريفة، البارّة بوالديها".

حيواتنا هي الحدث الروائي:
الفعل هو بيع «صابور"لابنته، فعل قام في أوّل فصول الرواية وانتهى، غرق الأب في حزنه وهجر «عبد الله"قريته مدقعة الفقر «شادباغ». فصول كثيرة تمّر حتى عودة ظهور «عبد الله"في الرواية، يمكن أن تدفع بالكثير ممّن يقرأون متسائلين: ماذا حدث؟ لأن يتخلوا عن متابعة القراءة، لكنّ رواية «وردّدت الجبال الصدى» لا تُقرأ على عجل. الأحداث قليلة في هذا السرد الملحمي لمصائر وحيوات متنوعة، يبدو بعضها وكأنّه مقحم على عالم حكاية «عبد الله"واخته «باري»، لكن ليس كذلك عن حكاية مدينة «كابل» التي سيطر فيها أمراء الحرب، «كابل» التي توقف فيها صوت الرصاص وبدأ صوت مال «إعادة الإعمار"ودفقات المنظمات الإغاثية، يقول «نبي» في رسالته إلى الطبيب «ماركوس» العامل في"كابل"مع بعثة إنسانية: «أستطيع أن أختصر كل ما جرى بكلمة واحدة: الحرب. حروب تناوبها أبطال مفترضون وسفلة، حروب كان كل بطل فيها يوقظ فينا حنيناً إلى سفلة سابقين".
"كابل"التي فقدت أبناءها بلا رجعة، وتبحث لنفسها عن هوية جديدة كما هم يفعلون في غربتهم. ومع تطوّر الزمن وتعاقب الأجيال نكتشف ضعف الأجيال الجديدة في بحثها عن هويتها، في تمرّدها، في السعي خلف أحلامها مقابل سرعة وسهولة استسلامها لما هو متوقع منها. هي رواية عن فكرة الخطأ والصواب، عن العائلة والصداقة، عن علاقة الإخوة بالتحديد، التي لا يحددها حسيني بإطار المفهوم البيولوجي الصارم، فـ"تيمور"وابن عمه «إدريس» كالأشقاء، في غيرة أحدهما من الآخر، في نديّة أحدهما للآخر، وفي ارتباط أو تخلّي أحدهما عن الآخر، كما «معصومة"وشقيقتها «بروانة»، وقد يكون الشقيق حاجة ومُتخيّلاً كما تقول الابنة «باري»:"أمضيت معظم سنواتي الأولى أتحرّق شوقاً لشقيق أو شقيقة. شقيق أحبّه بكياني كلّه ودونما تفكير، وأرى في وجهه نفسي".
هذه الفكرة «أرى في وجهه نفسي» قد تكون قوام لعبة حسيني الأساسيّة في عرضه لفكرة الخطأ والصواب في زخمٍ سردي يُرهق القارئ بغنى تشابيهه وتماسك عباراته، بناء السرد هنا قوامه التضاد، التضاد بين نوايا الشخوص ونتائج أفعالها، بين حسناتها وقبحها، بين صوتها وصوت الآخر، بين الكلمات والأفعال. يقوم التضاد حيناً حتى في بُنية الجملة الواحدة وصياغتها «وإنني أتكلّم في فراغٍ عابر للقارات»، «ما أرادته باري من أمها هو أن تساعدها في تجميع شذرات ذكرياتها المتفرقة، تركيب مكنونات ذاكرتها المبعثرة".
بنيويّاً يعتمد حسيني تقنيّة تعدّد أصوات القص، فكلّ يروي بحسب معرفته وبحسب الرؤية التي يقدّمها له موقعه في المكان والزمان. وكل فصل أشبه بما يكون بقصة قصيرة عن حياة شخصية ما، نتعرّف إليها، إلى أفعالها، ونرى نتائج أفعالها في صوت الآخرين من حولها، أو نرى الآخرين بحسب تقديمها، ففي أحد الفصول هو وحده «ماركوس» يتكلم وفي فصل آخر هو «إدريس» أو «باري الابنة"وفي فصل هما صوتان ينقلهما بأمانة صوت واحد، كما في رسالة «نبي» وقد تكون ثلاثة أصوات في فصل واحد، صوت المراسل وصوت «نيلا» وصوت «باري»، وهكذا نرى الصورة الأوسع التي تضم في إطارها العام هذه الحياة الإنسانيّة بقسوتها أو زخمها، ونحن مُجرّدين من معرفة لم ترغب الشخصيات بمنحها لنا، محددين بمّا اختارت هذه الشخصيات أن تبوح به، لكن في النهاية نرى أنفسنا في وجه تلك الشخوص، مزيج شديد التعقيد من حيوات كان المجتمع وكانت الحرب وكانت الذكريات مؤّلفها.

عن/ القدس العربي