التشخيص الخاطئ للمرض يخلق قصة حب “الحب في زمن الكوليرا” عهد عشقي يستحق الانتظار

التشخيص الخاطئ للمرض يخلق قصة حب “الحب في زمن الكوليرا” عهد عشقي يستحق الانتظار

زينب المشاط
العشق لا يعني بوح الكلمات، ولا شغف الافعال، انه جنون يسكن ويُحبس في عمق ارواحنا،”إلى الأبد”، لهذا نرى أن الكثير من الأقوال والافعال لا تتطابق مع مشاعر العشق التي نتحسسها.
كذلك هما العاشق والمعشوق، غير قادرين على منح ذات طاقة الحب، وغالباً ما تكون مشاعر أحدهما اصدق من الآخر، لهذا لم يُبال فلورنتينو اريثا، بما ستكون عليه مشاعر فيرمينا داثا حين سلمها رسالته الاولى المقتضبة مُعبراً فيها عن حبه لها....

ولم يكُن انتظاره للرد على تلك الرسالة لمدة ثلاثة اشهر، بقلق وشغف ولهفة وحيرة، هو انتظاره الاول فحسب، بل كان شعلة لانتظارات لا تُمل في محطات العشق لمعشوقته اللامبالية...
في رواية غابرييل كارسيا ماركيز”الحب في زمن الكوليرا”الصادرة عن دار المدى، ترجمة صالح علماني، نرى وجه الحب الذي لن يكبحه طول الوقت وبعد المسافات، والذي اختار من الجنون دليلاً له، العشق الذي لم ينضب أمله حتى اللحظات الاخيرة، رغم أننا لن نُخطئ إذا اطلقنا عليه”حب من طرف واحد"، فبطلة الرواية فيرمينا داثا لم تكُن العاشقة العظيمة، بل هي امرأة متقلبة المزاج فيما يخص عاطفتها، وقد شعرتها احياناً تربط عاطفتها بالمنطق والعقل اكثر، اما العاشق المجنون المولع فلورنتينو اريثا، فقد عشقها بكل جوارحه، وبفطرة احساسه، وسجيته، ولم يمل أو يكّل عن انتظارها...
كعادته ماركيز في كل رواياته، لا يُهدينا مفاتيح الحكاية منذ البداية، فمدخل الرواية كأنه يقودنا إلى حكاية ما، وحتى نصل الى الصفحة الرابعة والسبعين، لنجد أن الحكاية التي كانت مدخلاً لرواية ماركيز قد انتهت، وما هي إلا اسلوب”استرجاع فني”للحكاية الأساسية.
حيث تبدأ الرواية بحكاية الدكتور خوفينال اوربينو الذي تجاوز الثمانين عاماً من عمره، والذي يسكن مع زوجته المتجاوزة السبعين عاماً من عمرها فيرمينا داثا، بأحداث متسلسلة تقودنا إلى موت”اوربينو"، وظهور”اريثا”الحبيب القديم والمنسي”لداثا"، خلال فترة تشييع جنازة زوجها وحبيبها وشركيها الذي قضت معه سنوات عمرها بأكمله، كإمرأة محظوظة في نظرالجميع.
استخدم ماركيز اسلوب”الاسترجاع الفني”في روايته هذه، كما برع خلال انتقالاته ضمن النص الواحد، أن يضيف حكايات صغيرة واحداث عن كل موضوعة يتحدث عنها في الرواية أو عن كل شخصية، وسرعان ما يعود ليستجمع النص ويسدد في صلب الحكاية، وهذه أيضاً إحدى ميزات ماركيز في الروي، والتي يمكننا من خلالها تحديد هوية كاتب النص دون قراءة اسم ماركيز على النص.
عودة”اريثا”في يوم تشييع جنازة”اوربينو”كان كفيلاً بفتح جراح قديمة لدى”داثا”التي نسيت وجود فلورنتينو اريثا قبل حتى أن تتعرف إلى الدكتور خوفينال اوربينو، فبعد أن كشف والدها”لورينثو داثا”حكاية الرسائل المتبادلة بين فيرمينا داثا وفلورنتينو اريثا أخذها وهاجر بعيداً عن البلاد كلها، وعاد بعد سنوات ظناً منه أن شعلة العشق في قلوب العاشقيّن قد انطفأت، لكنه لم يكن يدري أن العاشقين استمرا بالتواصل طيلة فترة الفراق بسبب طبيعة عمل”اريثا”كعامل تلغراف، وقد استمر العشق واشتدت اواصره، ويبدو أن”لورينثو داثا”لم يكُن وحده واهماً في ذلك، بل أن العاشقة فيرمينا داثا أيضاً كانت واهمة بعشقها ذاك، فما إن عادت والتقت بفلورنتينو اريثا حتى وجدت عشقها له قد تبدد، وكأنه لم يكن...
وهنا تنتقل الحكاية لظهور الطبيب الانيق، سليل العائلة الارستقراطية”خوفينال اوربينو”القادم من فرنسا، والذي يتعرف إلى”فيرمينا داثا”من خلال تشخيص خاطئ، لحالة”كوليرا”، وما إن يراها حتى يقع في حبها، وهنا تبدأ محاولات”اوربينو”للتقرب من الفتاة الشابة، حتى يتزوجا، ويتسعرض لنا ماركيز خلال روايته علاقة الزوجين السعيدين مستمراً في اسلوبه التقني المعروف بـ”الاسترجاع الفني”للسرد...
ثم ينتقل ماركيز وبسهولته المعهودة، وتقناته العالية في السرد والتي لا تخلو من المتعة والتشويق، إلى الزمن الآني في السرد، والى ظهور”فلورنتينو اريثا”بعد وفاة”خوفينال اوربينو”في حياة”فيرمينا داثا”نتيجة عهد العشق الابدي الذي قطعه العاشق على نفسه وكانا قد تجاوزا السبعين من عمريهما، ويجدد عهده العشقي لها...”إلى الأبد".