من مذكرات الدكتورة سانحة امين زكي من أيـام الدراسة

من مذكرات الدكتورة سانحة امين زكي من أيـام الدراسة

المدرسة المركزية للبنات
شعرت بالزهو يوم اصطحبتني والدتي في بداية السنة الدراسية وانا في سن العاشرة للذهاب الى المدرسة الجديدة التي كنت انتظر الذهاب اليها بشوق كبير اي (المدرسة المركزية) الكبيرة!... ومعنا اختي (لمعان) في الثامنة من عمرها وفي الصف الثاني، و(عادلة) وعمرها اربع سنوات لكي تتسجل في الروضة.

دخلنا المدرسة ورأت والدتي الست (عفت) وهي آنسة تركية ومعلمة الرسم في المدرسة، و(خالة السيد نجدة فتحي صفوة) والوالدة تعرفها جيدا.
تعجبت الست (عفت) من كوني في الصف الخامس وفي سن العاشرة ثم بدأت تساعدني امي لتسجيلنا بسرعة وذكرت بان الصف الخامس يحوي على ثلاث شعب، تعجبت من كبر هذا الصف!.. تسجلت في شعبة (باء).
بعدها اخذتنا الست (عفت) لكي نرى المدرسة وبدأنا نتجول في الساحة الكبيرة وانا اكاد اطير فرحا بما ارى!.. ولقد رأيت اشياء كثيرة في المدرسة خلال الايام الاولى.
ساحة واسعة كبيرة جدا تضم ثلاث ابنية كبيرة، بناية كبيرة على الشارع ذات طابقين كبيرين للدراسة الابتدائية، الطابق الاول للصفوف الثلاثة الاولى، والطابق الثاني للصف الرابع والخامس والسادس وفيها شرفة كبيرة تطل على ساحة المدرسة والبنايات الاخرى فيها، وفي غرفة صغيرة في الطابق الاول يوجد محل (للفراشة) التي تبيع الكعك والحلويات للطالبات.. كان المكان شديد الاهمية عند الطالبات!..
البناية الكبيرة الثانية مبنية في وسط الساحة وهي من طابقين اثنين، في الطابق الاول، (روضة اطفال) بصفوفها الثلاثة حسب عمر الاطفال (الصف الاحمر) للاطفال في سن الرابعة من العمر ويلبسون صدارى حمراء اللون، ثم (الصف الاخضر) بصدارى خضراء اللون للاطفال في سن الخامسة، و(الصف الازرق) لاطفال السادسة من العمر ويرتدون صدارى بلون ازرق، وفي البناية باب خاص لاطفال الروضة.
وفي الطابق الثاني في هذه البناية يوجد الصفوف الثلاثة لطالبات دار المعلمات وكذلك غرفة الادارة، وغرفة للمعلمات كما توجد غرفة اجتماع وفيها مسرح بسيط وغرفة اخرى تحتوي ادوات رياضية مثل الاعلام والرماح وحصان القفز والخطوط الخشبية المتوازية وغيرها.
وفي هذه البناية ايضا الباب الكبيرة في المدرسة بدرج عال حيث تقف المديرة والمعلمات في وقت الاصطفاف الصباحي، وتصطف الصفوف على ثلاثة جهات واكثرية الصفوف لها شعبتين او ثلاثة.
اما البناية ايضا الباب الكبير في المدرسة بدرج عال حيث تقف المديرة والمعلمات في وقت الاصطفاف الصباحي، وتصطف الصفوف على ثلاثة جهات واكثرية الصفوف لها شعبتين او ثلاثة.
اما البناية الثالثة، فقد كانت في الجهة اليسرى خلف البناية الوسطى وفي مستوى اعمق من البنايات الاخرى ونهبط اليها بواسطة درج كبير مفتوح من الرخام الابيض بارتفاع عشرة درجات لكي نصل الى الساحة حيث نرى بناية على شكل حرف (الايل) الانكليزي ذات الطابقين، هذا هو القسم الداخلي لسكنى طالبات دار المعلمات من خارج بغداد.
كانت الابنية كلها جميلة، ولكن القسم الداخلي كان ابداع وأنظر.
في الطابق الاول في القسم الداخلي، غرفة مكتب مديرة الداخلي وجنبها غرفة نومها والمديرة كانت سيدة لبنانية اسمها (لولو ضومط) بنت (اميل ضومط) ثم غرفة كبيرة للطالبات فيها بيانو وبعض الكتب والمجلات وغرفة كبيرة للاكل فيها باب ينفتح على مطبخ كبير جدا فيه الكثير من الرفوف الخشبية والدواليبـ وبقرب المطبخ غرفة للطباخة السورية.
اما الطابق الثاني فهو محل غرف نوم الطالبات ودواليبهن والحمامات.
وقد استرعى اعجابي وجود اعشاش كبيرة فوق سطح البناية الوسطى وكلها اعشاش طير اللقلق حوالي ثلاثة او اربعة اعشاش كبيرة، وفي كل عش اثنان من اللقالق وحتى منارة الجامع القريب من المدرسة وهو (جامع الخاتون) عليه بضعة اعشاش اخرى من اللقالق, وهي تطلق بماقيرها اصواتا عالية متتابعة تشبه اصوات صفاقات خشبية تلعب في الهواء، ويستمر ذلك لفترة طويلة، كنا نحب هذا الطير ونسميه (الحاج لقلق!) احيانا والمدرسة كلها ساكتة في اثناء الدروس لا نسمع اي صوت سوى اصوات اللقالق الكثيرة كانها فرقة موسيقية راقصة ذات صفاقات تلعب في الهواء!..
وفي وقت الاصطفاف صباحا يدق الجرس وتقف كل طالبة مع صفها كل اثنتين معا، الصفوف الابتدائية من الصف الاول الى الصف السادس تقف امام باب البناية الكبيرة وصفوف دار المعلمات يقفن على الجانبين وتقف المديرة (المسزكير) الامريكية وتتكلم معنا باللغة الانكليزية لا نفهم كلامها ولكن السكوت كان سائدا لان معاونة المديرة الست (الس قندلفت) كانت تترجم ما تقوله المديرة الى اللغة العربية. وبعد انتهاء كلام المديرة، لا ننشد نشيدا كما في المدرسة البارودية، انما تضع احدى المعلمات اسطوانة موسيقية بلحن مرش غربي عسكري جميل، ويبدأ كل صف يسير الى قاعته.
سرت مع صفي وصعدنا الدرج الى الطابق الثاني في البناية المبنية على الطريق دون ان نرى الطريق لان الشبابيك مفتوحة كلها على ساحة المدرسة فقط والمشية الى الصف طويلة ولذلك تقف طالبات مراقبات في محلات معينة لمنع الكلام اثناء الدخول الصف، والا تكتب المراقبة اسمها، لذلك كانت الصفوف تمشي بكل هدوء وسكون الى الصف.
كانت المديرة امريكية من اصل سويدي شقراء ذات عيون زرقاء وكنا نظنها (سيدة عجوز) ولكنا كانت نشيطة جدا واحيانا اثناء الفرص عندما تجد الاوراق القديمة مرمية على الارض كانت تنحني وتلم الاوراق بيدها وترميها بصندوق القمامة دون ان تنادي الفراشات لرفعها وكنا نحن الطالبات نخجل من ذلك ونسرع معها نلتقط الاوراق من الارض ونرميها في المزبلة). غادرت المسز كير الى العراق سنة 1931 وعادت اليها بعد ثلاثين عاما للزيارة اي في سنة 1960 لذلك لم تكن كبيرة السن كما كنا نعتقد!..
في الصف كان عدد البنات المسيحيات واليهود اكثر من ربع العدد وكان التفاهم والصداقة بين الجميع سهلا وطبيعيا والفرق الوحيد بينهم وبين المسلمات هو الحجاب في الشارع. كانت المسيحيات واليهوديات سافرات يرتدين القبعة (البرنيطة) في الطريق اما المسلمات فهن يرتدين العباءة منذ سن الحادية او الثانية عشر ثم يعقب ذلك حجاب الوجه (البوشي) بعد سنة او سنتين.
في سن العاشرة لم اكن البس العباءة وكنت اظن السنتين مدة طويلة جدا لكي افكر بالعباءة وكنت اكره الحجاب من تأثير بيت خالتي وافكارهم العصرية!..
في الصف رأيت طالبة واحدة يزيد عمرها عن سني سنة واحدة فقط، واصبحت صديقتي الوحيدة.
كان اسمها (بلقيس عمر دراز) ابوها موظف كبير في مديرية السكك وذكرت ان اصله افغاني وامها عراقية من اصل تركي، وكان لبلقيس اخ صغير في الروضة معنا اسمه (جاويد) كبر واصبح طيارا مدنيا معروفا في الخطوط الجوية العراقية فيما بعد.
وكانت هناك اربعة طالبات كنت اجدهن اقرب الى الطالبات الاخريات لان اعمارهن في سن الثالثة عشر، ولكنهم لم يجتمعن معنا (انا وبلقيس) لاننا كنا من الصغار!.. اما الاربعة فقد كن:
اديبة ابراهيم رفعت، وقد اصبحت مديرة دار المعلمات في المستقبل، بعد ان تخرجت من دار المعلمات العالية، وقد كانت ذكية جدا حاضرة الذهت وتصلح ان تكون المراقبة في الصف.
(بتول جعفر الملائكة) وكانت طويل القامة تدرس دروسها بانتظام وتحصل على الدراجات العالية وقد تخرجت من الدراسة ودرست في الجامعة الامريكية في بيروت واصبحت مديرة لاحدى المتوسطات.
(ساجدة الكبيسي) وكانت جميلة وذلت شخصية قوية ولكنها لا تميل الى الافكار الحديثة، وقد تخرجت من دار المعلمات في بغداد واصبحت معلمة في المدرسة المركزية الابتدائية ثم تركت العمل بعد زواجها.
(بوران احد مريود) ذكية مشرقة الوجه لم تكمل دراستها بل تزوجت في بغداد وهي سورية الاصل اتت مع اهلها الى بغداد بعد ان مات والدها (احمد مريود) في بداية سنوات العشرين وهو يقاتل الفرنسيين في الشام فدعى العائلة الملك فيصل الاول واسكن الام والاولاد في بغداد وكان معنا في المدرسة اخو (بوران) الاصغر (حسان) في الروضة والذي اصبح وزيرا (بعد سنوات) في سوريا.
وكانت (بوران) تردد بيت الشاعر شوقي:
سلام من صبا بردى ارق
ودمع لا يكفكف يا دمشق
ومعذرة اليراعة والقوافي جلال الرزء عن وصف يدق
دم الثوار تعرفه فرنسا
وتعلم انه نور وحق!..
اما الطالبات الاخريات، واعرف منهن طالبة تكبرني بسبعة اعوام، فقد كن الكثيرا في الصف والطالبات لحسن الحظ، كن يعاملنني كما لو كنت اختهن الصغرى. لم ادر انه خلال سنوات ثلاث سوف الحق بهن في الطول واستوي معن.

الكلية الطبية الملكية
في منتصف شهر تشرين الاول ذهبت مع والدي الى كلية الطب، ودخلنا الى غرفة العميد الدكتور (احمد قدري) رحب بنا وقال لي بانني تأخرت عن الدوام اسبوعين وابتسم وقال: عليك ان تدرسي وتدرسي!..
طلب مني والدي ان ابقي العباءة على رأسي، ولكن العميد قال ان ذلك مستحيل في الدراسة الطبية، سكت والدي ولم يقل شيئاً.
كنت البس ثوبا باكمام طويل وعالي العنق تماما كما طلب مني العميد في اثناء المقابلة في الشهر الماضي.. وبعدها طلب العميد من الفراش ان يوصلني الى قاعة المحاضرة رقم (1) حيث كان الصف الاول.
كان الصف ينتظر وصول الاستاذ والكل في اماكنهم. القاعة مدرجة وبها مدرجين والصف الخلفي يكاد يقارب السقف.. اعجبني ذلك. لان صفوف المدارس لم يكن فيها مدرجات رأيت جماعة البنات يجلسن في السف الاول، كان عددهن خمسة فتيات جلست معهن ورأيت انني اعرفهن جميعا ما عدا واحدة لم ارها من قبل، وكانت اكبرهن عمراً. اثنتين من الطالبات كن معي في صف واحد وهم من الفرع الادبي، يبدو انهم ادخلوا البنات في الكلية بسهولة للتشجيع. اثنتين اخريتين من الصف العلمي الذي سبقنا ولم يدخلن كلية الطب الا هذه السنة والبنات الاربعة كلهن من اليهود، اما الخامسة التي لم ارها من قبل كانت (درزية) من لبنان اتت الى العراق كمعلمة للبنات، ثم تزوجت من ضابط طيار في القوة الجوية العراقية وهو من مدينة الموصل ثم طلبت الدخول الى كلية الطب.
بعد دقائق قليل دخل شاب بملابس انيقة جدا يحمل دفترا كبيرا وكان هذا هو السكرتير الذي يقوم بمراقبة دوام طلاب الصف الاول، وكان لبناني الاصل يسكن العراق اسمه (البير عباجي) نادى عباجي اولا اسماء الطلاب، بالاحرف الهجائية وكان يستعمل اسم العائلة فقط دون الاسم الاول، وفي النهاية نادى اسماء البنات كذلك باسم العائلة ولكنه كان يضع لقب (مس) كما في اللغة الانكليزية. كان اسمي (مس امين زكي).
شاهدت سبورة سوداء اجنبية معلقة على الحائط بصورة مستوية ويحيطها اطار خشبي بني اللون من نوع جيد مثل اخشاب الاثاث الجيد، والسبورة مقسمة الى قسمين يربطهما حبل اذا اصعدت احدهما باتجاه السقف، تنخفض الاخرى باتجاه الارض، ويتمكن الاستاذ ان يكتب الكثير دون الحاجة الى محو الكتابة الاولى. كذلك رأيت امام مقاعد الصف الاول حيث نجلس والسبورة (فرفوري) بيضاء اللون مثبتة على عتلة معدنية بالارض وهذه الطاولة لا تستعمل الا في المستشفيات وعلى يمين الاستاذ يوجد هيكل عظمي كامل معلق في قفص زجاجي وامام الاستاذ منصة ترتفع وتنخفض وبجنبها جهاز فيه عدسة مكبرة في الاسفل لم ار مثلها من قبل، ثم رأيتها تشتغل وهي عدسة تعكس على الحائط صورة وخرائط مكبرة من الكتب او من مقاطع الميكروسكوب الزجاجية سوداء تغطي الشبابيك اثناء تشغيل هذه العدسة لتوضيح الصور.
دخل الاستاذ الانكليزي ليحاضر في (علم الفيزياء)، وكان يرتدي (العباءة) او المعطف الاسود الذي يرتديه اساتذة الجامعات الانكليزية، كان سنة حوالي الاربعين عاما، انيق الهيئة ووجهه يميل الى الجمود والكبرياء، تكلم بلهجة انكليزية واضحة عن درس الميكانيك في (الفيزياء) دون سلام او كلام.
كان علم الفيزياء ابعد العلوم عندي للدراسة، لانني درسته في الصف الثالث المتوسط وبصورة بسيطة جدا، وانا على الرغم من معلوماتي الجيدة في اللغة الانكليزية اجد نفسي جاهلة ليس لعلم الفيزياء نفسه فقط، بل كنت لا اعرف ماذا تعني كلماته لغويا!...
قلت لنفسي:
- كان يجب ان ادرس هذه الدروس في العطلة الصيفية بدلا من الذهاب الى كركوك!.. الم يفكر والدي بهذه الصعوبة. كيف يجتمع الفرع الادبي الذي درست فيه في الثانوية وكلية الطب؟
لقد اتيت متأخرة اسبوعين والطلاب كانو قد تعلموا عن الدروس والاساتذة لذلك شعرت بأنني دخلت المكان غريبة، ومثلي مثل الطالبتين معي من الفرع الادبي في الثانوية كما ذكرت.
لحسن الحظ، كانت هناك طالبة معنا تخرجت قبلي بسنة وهي من الفرع العلمي وكنت اعرفها قليلا في المدرسة، وقد اظهرت لي منتهى الود والحبة منذ لحظة وصولي الى الكلية واسمها (لطيفة حييم لاوي) وهي ذكية، متفتحة يملؤها حسن الفهم والتقدير للامور، لذلك بدأت اشعر معها بالاطمئنان وتخلصت من الشعور بالغربة الذي شعرت به في البداية.
كان لنا ثلاثة اساتذة انكليز، كلهم على اتم ما يكون من العلم والتهذيب، كان علينا ان ندرس اربعة مواضيع في الصف الاول وهي (الفيزياء والكيمياء والبيولوجي (علم الحياة) والتشريح)، ولم احب اي منها ما عدا البيولجي الذي درسته في الثانوية وكنت اجد درس الفيزياء فظيعا!..
كانت ساعات الدروس طويل منذ التاسعة صباحا الى الرابعة بعد الظهر. من الساعة التاسعة الى العاشرى درس نظري يعقبه درس نظري اخر ومن الساعة الحادية عشر الى الواحدة درس عملي في المختبر، يعقب ذلك ساعة واحدة للغداء وبعدها درس عملي اخر لمدى ساعتين الى الساعة الرابعة بعد الظهر. ونصل البيت في حوالي الخامسة مساء. بعد ذلك يجب ان ندرس في البيت ما سمعنا من محاضرات النهار.
اعيد واقول ان الدروس كانت كلها غريبة علي. اللغة الانكليزية العلمية، وعلوم الفيزياء والكيمياء وعلم الحياة (البيولجي) وبالاخص درس التشريح.
دخلت قاعة التشريح وانا مع الطالبات ورأيت جثة عارية ممدة على الطاولة من الفخار الابيض الطبي وكانت جثة رجل. والتشريح لطلاب الصف الاول هو للساق ولذراع الميت. ونحن بدأنا بتشريح الذراع اولا. كنا ستة طالبات كل ثلاثة في جهة من جثة الميت ومعنا طالب واحد في كل جهة من الجثة، والقسم الباقي الاول عندما نكون نحن في مختبر الكيمياء او البيولجي وهذا كان الترتيب على كل جثة في القاعة. وفي كل مرة بشتغل نصف طلاب الصف الاول مع نصف طلاب الصف الثاني ثم نتبادل في اليوم التالي.
رأيت الطالبات يشرحن ذراع الميت باهتمام وبدون خوف لانهن تعودن ذلك. خفت ان المس الجثة في البداية، ولكن لما لمستها وجدتها باردة جدا متصلبة لا علاقة له بلمس البشر. شعرت وكأنني المس تمثالا!.. زال مني الخوف رأساً.
ان الماء في الحوض الذي يضعون فيه الجثث لحفظها توضع فيه مواد كيمياوية التي تحفظ الجثة من التعفن، فتتصلب وتبقى باردة ببرودة الماء الذي يحفظها.. وقد احزنتني رؤية الميت وكونه فقير لا اهل له وليس هناك من يدفنه!. ولكن، تلك هي الطريقة لدراسة التشريح في كل كليات الطب في العالم!.
في البيت سألتني امي وهي تمزح ان كنت اقوى على اكل اللحم بعد رؤيتي الجثث! كان جوابي لا علاقة بين الامرين.. ان الجثث هي اشبه (بتماثيل) منها الى الجسم البشري الحي.
كانت قضية تشريح الجثث هي اهم ما يسألني عنه الكبار والصغار والاصدقاء وقد مللت من اعادة الكلام عليهم الى درجة كنت اول ما ارى شخص اعرفه اقول:
-اسألوا ما شئتم عن الكلية ما عدا قضية الجثث! لا اريد الكلام عنها.. كان استاذ التشريح بريطانيا من اسكتلندا، ويشتغل معه الدكتور (بيثون رسام) وهو من الموصل، والدكتور (عبدالقادر سرى) وهو من سوريا وكان الطلاب يسمونه (ابو شوارب) بسبب شواربه الكثيفة التي يرفعها الى اعلى كما كان يصنع الاتراك العثمانيون.
بعد سنوات قليلة تزوج الملازم (رشاد سليم) وهو الاخ الاكبر للفنان (جواد سليم) الى ابنه الدكتور عبد القادر سرى.
ان علم التشريح يستغرق سنتين اثنين، في الصف الاول نشرح الذراع والساق وفي السنة الثانية نكمل تشريح الجوف البطني والجوف الصدري والدماغ.
في درس البيولوجي (علم الحياة)، ندرس (علم الحيوان) لمدة ستة اشهر و(علم النبات) لمدة ثلاثة اشهر وكان درس علم الحيوان من الذ الدروس لدي لانني كنت افهم الموضوع خاصة الدروس العلمية، بتشريح الضفدع والسمكة وديدان الامعاء وغيرها.
كان الاستاذ (بوزويل) الشاب الانكليزي من احسن الاساتذة في الحاضرات، وكان يعيش مع عروسه الجديدة قرب كلية الطب في (العيواضية). وقد انجبا ولدين في بغداد اثناء اقامتهما وقد بقى في بغداد سنوات طويلة وتركها بعد ثورة الجيش في 1958.
اما دروس الكيمياء والفيزياء فانها كانت الحيرة الكبرى بالنسبة لي. تحسنت قليلا في دروس الكيمياء العملية وصرت اتابع ما يطلبه الاستاذ منا.
بسبب الدروس العملية في الكيمياء اصبح لطلاب الصف الاول القسم العلوي من الصدرية البيضاء التي نرتديها مغطاة بثقوب صغيرة كثيرة ملونة بسبب المواد الكيمياوي التي تسقط علينا اثناء درس الكيمياء العلملي وذلك يحدث لجميع الطلاب، ولكن تكون لدينا صدرية سالمية من الثقوب الا في الصف الثاني.
اما الدروس النظرية خاصة في درس الفيزياء كنت اجدها كابوسا القي علي، في نهاية الشهر الاول من الدوام في الكلية وقع اول انقلاب عسكري، وبصورة فجائية تحت اسم الفريق (بكر صدقي).

عن مذكراتها المطبوعة سنة 2005