رائحة السينما...  في (كلاكيت) حين تكون الكتابة شكلاً من أشكال السعادة

رائحة السينما... في (كلاكيت) حين تكون الكتابة شكلاً من أشكال السعادة

حسن عبدالحميد
تخاطرتني صراحة (أندريه جيد) بعض الشيء في مجمل تقييم خاص وغريب لرواية الأمل لـ(أندريه مالرو) حين قال؛(لقد مللتها لفرط غناها)، وأنا أشاغلُ نفسي في تقريب مشاعر من قال من الحكماء والمجربين أن هنالك ألم يجعلك تتألم وتكتئب... وهنالك ألم يجعلك تفهم وتتغير، ما بين (جيد) و(مالرو) وزير الثقافة الفرنسي إبان حكم الجنرال (ديغول) والحاصل على جائزة (الغونكور) القريبة من حيث وقع أثرها الإبداعي من هيبة وأهمية جائزة(نوبل)،

ثمة مسافة مهمة ومبهرة تقتفي أثر تقدير أهميّة (متعة القراءة) من جهة،ومن جهة أخرى (متعة الكتابة) كذلك، وعلى مستوى متقارب أحياناُ، لذا في ظني التأكيد على أهمية ما ينتج من مُتع متداخلة ما بين المتعتين،

وسنشهد لدى تصّفح كتاب(القراءة) للباحث الفرنسي (فانسون جوف) ترجمة الكاتب والناقد المغربي (د.محمد آيات لعميم) مقدار هذا الزعم الذي يرّد على لسان الكاتب الأرجنتيني المبهر(لويس خورخي بورخيس) الذي يعتقد بجزم- أن عبارة ؛قراءة إلزامية؛ متناقضة في المعنى، فالقراءة(من وجه نظره المتمرسة) لا ينبغي أن تكون إلزامية، وحين يتساءل أو يتكلّم عن ما أسماها(اللذة الإلزامية)،ومن ثم يستدرك لينعتها بـ(السعادة الإلزامية)،نجده يقول:(كنت أستاذاً للأدب الإنجليزي مدة عشرين سنة، وكنت أنصح دائما طلابي إذا أقلقكهم كتاب اتركوه، لا تقرأوه، هذا كتاب لم يكتب لكم، فالقراءة يجب أن تكون شكلا من أشكال السعادة.)،هكذا ينصح القُراء المُحتملين-أيضا- في محمل وصيته،ذلك الأعمي الذي قال من قبل؛(الكتابة ممتعة حتى وأن كانت عديمة الفائدة)،ليصل في اعتقاده بإسداء النصح بأن يقرأوا كثيرا،وأن لا تؤثر فيهم سمعة المؤلفين،وأن يستمروا في البحث عن سعادة شخصية،إنها الطريقة الوحيدة للقراءة على حد حسم زعمه التجريبي والتربوي والتحريضي لهذه المتع السحريّة.

نحو سينما... الضمير
وجدتني -ثانيةً- أمسك بعروة تلك المداخلات وفيوضات تلك الآراء،لكي أناوب بها متعة قراءة كتاب الناقد السينمائي (علاء المفرجي)- وهو يمسك بعناية وعي وثقة مراس وحدس طرف خيط سحر الكتابة وتشمّم أسرار مُتعها وأفانين إغراءاتها،مُتماثلاً -ربما إلى حدٍ كبير- مع مقولة (بورخيس) حول منافع الكتابة حتى وإن كانت عديمة الفائدة،لكي أتصوّر كيف تكون الكتابة إذا ما تماهت مع حوافل فنٍ أضحى الأكثر تأثراً، والأبعد مدىً ودرايةً بما يشغل الناس وتوسيع مداركهم وتلبية حاجاتهم،فارداً فرقاً حضارياً شاسعاً ينوء بحمل نوايا وأغراض وتطلعات باقي فنون التعبير والتماثل معها،بل والانصهار بعوالمها وتمائمها ومهاراتها، حتى استحق-استحقاق إجرائي-أن يكون الفن السابع في نسيج حياتنا وأهوالها الراهنة.
ينطوي إصدار (المفرجي) الأخير والمنضوي تحت ثريا عنوان (كلاكيت/ مقالات في السينما)الصادر-حديثاً-عن (دار ومكتبة عدنان للطباعة والنشر والتوزيع/ بغداد- شارع المتنبي)،على تواثبات تحفيز مقاصد،وتوريد خُلاصات أفكار بتهجي حروفِ معرفةٍ وقوام تقويم ونقود لأفلام عالمية وعربية وعراقيّة وصولاً لما هو أبعد من مجاورات ما يصلنا حيال مشاهدتنا لتلك الأشرطة الفلمية عبر السعي المُدرك في كشف ظروف وحواف معلومات وملابسات تعتري واقع السينما في البلدان التي تعاني من ضيق حدود تواصل هذا الفن المفاهيمي ومدياته الشاسعة،فضلاً عن التعريف بنتاجات ما تنتجه عقول وضمائر مخرجين لهم شأنهم ونبل مواقفهم أمام ما يحصل من جور وظلم وتجاور على إنسانية الإنسان.

كلاكيتات.... لخمسين فليماً
أفرد الكتاب وهو من القطع المتوسط وبواقع(192)صفحة خمسين مقالاً توّزع بتخوم اشبه بفصول توالت كالتي؛(25) مقالاً تحت مسمّى (كلاكيت)و((11تحت مسمّى (أفلام عراقيّة)وأخيراً(14) مقالاً تحت مسمّى(مقالات في السينما)،حفلت كلها تنبض بتحاورات بروح سحريّة وشاعريّة النزعة والأثر والتركيز يستخلصها الناقد عبر تواكب تعميد الحدث بينابيع لغة طيعة مدهونة بلغة الضوء ومهارة فضح العتمة وكوابح جماح التعويض بالدهشة عنها ساعة تتصارع الفنون السبعة مع بعضها في مرامي ما ينوي وما يرى ويريد المخرج البوح والخوض في تفاصيل ونوازع أبطاله ورسم المواقف التي يقترحها،من خلال قدرة(المفرجي) ووفرة معلوماته في ضخ المعلومة وتثبيت صدقية أغراضها،بعيداً عن المباشرة والمراوغة الشكلية-الساذجة التي يتبعها البعض (الكثير) من نقّاد السينما-عندنا-فيما تحاذي كتابات(علاء) من التي سبق نشرها في جريدة "المدى" العراقيّة والتي يعمل فيها رئيساً للقسم الثقافي،على مدار عدة سنوات تحت زاوية(كلاكيت)-أيضاً-في صفحة(شاشات) من عالم الذوق الرفيع في جس ولمس وتنفس(رائحة السينما)التي أغرت أحلام وتطلعات هذا الفتى الكرخي من صوب بغداد،من مبنى سينما (قدري) قبل أن تتحوّل إلى(سينما بغداد)،ولتحوّله لاحقاً -من حيث يدري ولا يدري-إلى عاشقٍ راسخٍ في محراب ما يفرض طغيان وهيمنة سحر السينما من عوالم البهجة والحزن والفوضى والانسجام، وفي الحب واللاحب في تتبع درجات إحساسه المخلص- مثلمّا كان (إيتاليو كَالفينو) الروائي الإيطالي يرى في السينما اختصاراً لجميع المميزات المطلوبة من العالم، متمثلة بسعة امتلاء/ أحقية ضرورة/ تشهيّات أحلام يقظة/ نزر بساطة/ ودواخل عمق سحيق لملاذات متنوّعة وطيّعة ما انفكت تشاغل بها حياتنا وتجتاحها بقبول عجيب وانصياع أمثل لتلك الهيمنة السريّة والسحريّة معاً.
يدنو النسق الحاني والدفق اللافت والهدوء الطيّع في نبرات صوت كلمات ما ينحت(علاء) من سطور وعبارات وتناسق معلومات تخلص في أن تحترم ذوق القارئ، وكيف تُجيد الرهان على ذائقة المُشاهد للأفلام التي فُطن في الكتابة عنها عبر تلك السلسلة التنويريّة من المقالات والدراسات فارضاً هاجس النقد التحديثي المعاصر الذي يعتمد جوهر المعرفة وجذور الفكرة وتخليصها من براثن نزعات الشرحٍ الذي يتقرب من سذاجة روح (الحدوته) والتي عادة ما تُفسد حرارة نبضات وهج التأويل وإدغام المتعة بالجاهز والمجاني،فيما تتواكب طروحات(المفرجي)،في عموم كتاباته صوب تقديرات تحايث التحفيز والتسامي بخواص توضيح مرامي النقد الحقيقي وصولاً به إلى حيث فضاءات الفهم الأمثل والعالي لقيم ومساند الجَمال الذي نادى ويُنادي به جُلّ رجالات سينما الوعي والحريّة والضمير ممن تبنّى (المفرجي) مسح ذواكر ذواتهم وتجسير تجاربهم أجانب كانوا، أم عرباً وعراقيين في مذاهب حبّهم الكوني لسينما الحياة...والشعر... والسياسة... والوثيقة وحتى (أفلام الأكشن) حين تجتاح مصدات الدهشة، لتداني قيم الجمال،في هذه القراءات القصديّة والمثمرة التي حواها كتابه الأثير هذا،سارداً ومحللاً للعديد من الأفلام التي شاهدها ودرسها من خلال سمو فضول ميوله وتطلعاته،أو التي شاء ت ظروف مشاركاته في عدة مهرجانات عربية الإطلاع على تفاصيلها من قرب وملامسة خواص مخرجيها من صنّاع تلك الأفلام التي أثارت شهية واهتمام هذا الناقد المتعدد الاتجاهات في مجال الثقافة والفنون عموماً،ومساعيه في جعل الثقافة السمع – بصرية راسخة بنواحي فهم عال ومتفوّق على ما هو سائد من كتابات تترواح ما بين غموض وضباب،وما بين وضوح بسيط يلامس سطوح أفكار عامة،لا تخلد للتفكير الذي يوازي حجم أحلام أفلام وتوّقعات مخرجيها الكبار من سلالة المفكرين والمجترحين لعوالم ترتقي بالمشاهد وتسمو بعقله وتأملاته.